الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا حجة فيه أيضاً ولا دليل على ما يريدونه ويقولونه، فلا يمكن قبول قولهم والتساهل معه بمثل هذه الأدلة من الظنون والتوقعات، وبخاصة في فريضة عظيمه كفريضة الحجاب جاءت نصوصها صريحة من الكتاب والسنة وأقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام وأهل العلم من المفسرين والفقهاء والمحققين على ستر النساء لوجوههن، حتى لا نعلم أحداً من أهل العلم قال بقولهم في السفور، ثم لا يجدون لذلك دليلاً إلا مثل هذه الاحتمالات من كونها كانت كاشفة لأنها حسناء أو وضيئة او ينظر لها أو تنظر إليه ونحو ذلك.
والمفروض بنا هنا أن لا نزيد في الرد حتى يثبتوا لنا كونها كانت كاشفة عن وجهها بنص صحيح صريح كما اعترفوا هم بصراحة وكثرة ورود أدلة النقاب عن فضليات الصحابيات ومن بعدهن.
ومع ذلك سنورد من الاحتمالات القوية ما يدل على بطلان مذهبهم من كل وجه وأن أدلتهم أوهى من خيوط العنكبوت.
الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:
أ- فالقول إنها كانت كاشفة احتمال لبعض المتقدمين من أهل العلم وحسب فهمهم واستنباطهم من الحديث، فهذا منهم كان لبيان بعض الأمور الفقهية، فإنه وإن فهمها بعضهم على ذلك، فالمفروض بنا أن نفهم قوله ومقصده كاملاً وبتمامه، كما هو في الحقيقة والواقع كما مر معنا عند كلام ابن بطال والقاضي عياض وغيرهم في بيان
خصوصية أمهات المؤمنين وأنه لا يجوز لهن كشف وجوههن لشهادة ولا غيرها كما هو جائز لغيرهن من النساء، كما مر معنا سابقاً، أو ابن حزم عندما فهم ذلك لاحتياجه للدليل الصحيح بدل القياس ليكون ما استدل به (مخرجاً) له من معنى الجلابيب التي تعني ستر الجسم كله كما قال لبيان أن الوجه والكفين ليسا بعورة فيجوز كشفهما في الصلاة وعند الأجنبي كالخاطب والشاهد وغير ذلك من الضرورات، فهذا كله بعيد كل البعد عن فهم ومراد أهل السفور اليوم، ولهذا فقولنا إنها كانت كاشفة عن وجهها هو تقوُّل في حديثه صلى الله عليه وسلم بما لم يرد فيه، فإن جاز لبعض أهل العلم عند مرورهم بالحديث أو شرحهم له أن يفهموا منه ذلك ليبينوا بعض المسائل المعروفة أو المتفق عليها حسب مناهجهم وقواعدهم الفقهية، فهذا يمكن القبول به ولكن أن نفترض ذلك ونظن احتماله وحدوثه ثم نحمله على ما حمله أهل السفور اليوم من جواز خروج النساء للأسواق والطرقات سافرات الوجوه، فهذا مما لم يقل به أحد أنه من دلالة الحديث وفوائده، بل هو مما يتعارض مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وأهل العلم وفعل نساء السلف، فهذا غير سديد ولا مسبوق لأنه يجب أن يكون لنا سلف في فهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف لو كانت أفهامهم تلك فوق أنها لم يقل بها أحد من السلف أو شراح الحديث، هي بعيدة عمَّا يدعونه ويقولونه بل ليس فيها أصلاً ما يريدونه من كونها كانت كاشفة، فلا يكون لنا حينئذ بحال من الأحوال مخالفتهم أو ابتداع قول لم يسبق لهم قوله وبخاصة
في فريضة إلهية قد أحكم الله بيانها.
ب- أنه على فرض أنها كانت كاشفة عن وجهها فقد ثبت أيضاً بالدليل من عدة روايات أن الخثعمية عرضها أبوها للنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها فعن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: (كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأعرابي مَعَهُ ابنةٌ لَهُ حَسْنَاءُ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أن يَتَزَوَّجَهَا قَالَ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إليها وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ بِرأسي فَيَلْوِيهِ وَكان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) انتهى.
والحديث صحيح أخرجه أبو يعلى وأبو بكر بن أبي شيبة وصححه جمع من المتقدمين والمتأخرين.
1 -
قال الحافظ ابن حجر بعد أن عزاه إلى أبي يعلى: (إسناده قوي)(1).
2 -
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح)(2).
3 -
وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ثم قال محقق الكتاب المحدث حبيب الرحمن الأعظمي وبعد أن رمز له بعلامة الصحة: (إسناده لا بأس به).
4 -
وذكر الحديث الحافظ البوصيري وسكت عنه ولو وجد فيه ما يقدح لبينه كعادته كما في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة.
5 -
وصحح الحديث الشيخ المحدث عبد القادر بن حبيب السندي في رسالته "الحجاب".
6 -
وقال محقق مسند أبي يعلي، حسين سليم أسد:(إسناده صحيح).
(1) فتح الباري (4/ 68).
(2)
مجمع الزوائد (4/ 277).
وهذا أولى وأقوى من تضعيف غيرهم، فتصحيح هؤلاء فضلاً عن غيرهم ممن صححه هو وحده مقنع وكاف، فكيف لو لم يكن إلا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى؟ .
ولأن من ضعفه إنما ضعفه بالشذوذ وهي مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، والحقيقة أن الحديث ليس فيه شيء من القاعدة السابقة أبداً ولا من المخالفة لشيء من هذا أصلاً، بل فيه زيادة الثقة وزيادة العلم بالشيء وهي مقبولة باتفاق عند المحدثين.
كما يؤيد صحة حديث عرض الأعرابي ابنته لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها ما جاء في الصحاح والمسانيد وغيرها من أن الرجل كان (يسايره) و (دفع معنا رجل) و (عرض له) أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسيره فقد جاءت هذه كلها في روايات الحديث العديدة كما في صحيح ابن خزيمة ومسند البزار وأحمد عن الفضل رضي الله عنه قال: (كنت رديف رسول الله من جمع إلى منى فبينا هو يسير إذ عَرض له أعرابي مردفاً ابنة له جميلة وكان يسايره قال: فكنت أنظر إليها فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقلب وجهي عن وجهها ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها حتى فعل ذلك ثلاثاً وأنا لا أنتهي فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة)(1) انتهى. وهذا شاهد يقوي أنهم (سايروه) و (عرض له أعرابي مردفاً ابنة له جميلة) و (دفع معنا رجل) وكون إبيها جعلها هي من تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها أمور مشعرة أنها لسبب عرض الأعرابي
(1) قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
إبنته لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها ولهذا أنكر على الفضل نظره لما راه ينظر فيما لا غرض له فيه من إرادة الزواج ونحوه، فما كان إلا خشية الفتنة والشهوة عليه وعليها كما قاله عليه الصلاة والسلام.
بل جاء في رواية عند الطبراني في المعجم الكبير: (قال: ودفع معنا رجل من الأعراب وهو معه ابنة له صبيحة وهو يساير النبي صلى الله عليه وسلم فأمال وجهي عنها، فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة)(1)، فالأعرابي دفع مع رسول الله وكان ملازماً له لحاجة السؤال ولكي يعرض ابنته له ولهذا جعلها تستفتيه بنفسها.
ومثل هذا كله لا يمكن أن يكون لمجرد السؤال فقط، فهذه الروايات شواهد على حديث عرض الأعرابي ابنته لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، والله أعلم.
فكيف لو كان هذا أيضاً ما فهمه من الحديث كما قلنا سابقاً كبار الحفاظ ومنهم:
أ- الحافظ ابن حجر في المطالب العالية حيث قال: (باب عرض المرأة على الرجل الصالح).
ب- وقال الحافظ أحمد البوصيري صاحب كتاب إتحاف الخيرة المهرة: (باب فيمن عرض ابنته على من يتزوجها).
ت- وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: (باب عرض الرجل وليته على أهل الخيرة).
(1) الطبراني في المعجم الكبير (باب الفاء من اسمه فضل) برقم (677).
ولم يفهموا منه شيئاً آخر سواه، ولم يبوبوا باب جواز خروج المرأة كاشفة عن وجهها أمام الرجال، أو باب كشف المرأة وجهها كان معروفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أو نحو ذلك مما يقوله اليوم دعاة السفور هدانا الله وإياهم، بل جاء عنهم عكس ذلك تماماً كما رأينا، ولهذا فهموا منه هنا أنه للخاطب فكيف وروايات الحديث وسياقه تؤيد هذا بدليل ما يظهر من أنها كشفته للحظات قصيرة أو وهي داخل هودجها مارين برسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد الفضل أن ينتهز الفرصة القصيرة وينظر لها وهو خلف رسول الله ودون علمه، فأخذ يتلفت ويحاول النظر ولهذا لما تنبه له عليه الصلاة والسلام حين (طفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها) أو كما في الرواية الأخرى (فكنت أنظر إليها، فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم) ولهذا نفهم أن نظره لم يكن بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمامه وإنما كانت محاولاته المتكررة وهو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم معتقدا أنه لا يراه ولهذا عندما التفت ونظر إليه (فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها) وإنما أنكر عليه فقط ولم ينكر عليها إما لكونها لم تكن كاشفة أصلاً كما أثبتناه سابقاً، وإما لأنها ممن قال الله تعالى فيهن:{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها .. } [الأحزاب: 50]، بدليل حديث عرضها من أبيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، ولو كانت النساء كلهن يكشفن أو كانت أمام الناس كاشفة كما يقوله أهل السفور وأنه واقع
المجتمع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لما تلفت ولا حاول ولا أصر وعاود ولاستغنى عن النظر لغيرها من النساء الكاشفات في ذلك التجمع الكبير من الحجيج ولما استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحول نظره عن شيء، أو لوجد الفرصة بعد ذهابها أو إيابها أو في غيرها، ولكن كل ما سبق دال على بطلان قولهم من كل وجه وأن زاوية الرؤية كانت ضيقة مما يدل على أنها كانت داخل هودجها، أو نحو ذلك كما سنثبته بعد قليل، وهذا كله منا أيضا على فرض أن كان عرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كاشفة عن وجهها، حيث لا يلزم من عرضها لرسول الله عرضاً أولياً أن تكون كاشفة بين الرجال، فقد يكون الأمر وهي مغطية حتى يرى حاجته ورغبته واستعداده لذلك وإذنه فيه كما قال سهل ابن سعد رضي الله عنه، (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها فقال: ما لي اليوم في النساء من حاجة) (1)، أو قد يكون كشفها وهي داخل هودجها لهذا سايروه وسيأتي في ت.
ت- والظاهر المتتبع لروايات الحديث السابقة وغيرها يلحظ أن الجارية كانت داخل هودجها راكبة مع والدها وبالتالي لم تكن كاشفة أصلا عن وجهها أمام احد من الرجال، وهذا ما توضحه الأدلة والشواهد من روايات الحديث الصحيحة كما عند مسلم وصحيح ابن حبان وعبد بن حميد وأبي عوانة عن جابر رضي الله عنه قال: (ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يصل
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في "باب إذا قال الخاطب للولي زوجني فلانة" برقم (5141).
بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه فحمد الله وكبره وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظعن يجرين فطفق ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر فصرف الفضل وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى محسرا حرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك إلى الجمرة الكبرى) (1).
وكما جاء أيضا في سنن البيهقي الكبرى والدارمي وغير واحد في كتاب الحج: (فلما دفع النبي صلى الله عليه وسلم مر بالظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يده فوضعها على وجه الفضل فحول الفضل رأسه من الشق الآخر، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر) انتهى.
قال في عمدة القاري في (الظعن): (وقال ابن سيده الجمع ظعائن وظُعن وإظعان وظعنات الأخيرتان جمع الجمع وفي الجامع ولا يقال ظعن إلا للإبل التي عليها الهوادج وقيل الظعن الجماعة من النساء والرجال) انتهى.
(1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي حديث جابر المشهور في الحج برقم (2137). وصحيح ابن حبان رقم (4020) وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه له: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة برقم (14705)(3/ 336). وذكره الألباني في حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها جابر. وهو في الإرواء (1120) وصحيح أبي داود (1663).
وقال الحافظ في فتح الباري: (بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا) انتهى.
فالظعن: وهو الرحيل الارتحال والسفر أصلها راحلة ترحل ويظعن عليها أي يسار، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن أو تحمل على الراحلة إذا ظعنت وقال السيوطي: هي المرأة التي تكون في الهودج كني بها عن الكريمة، وقيل: هي الزوجة لأنها تظعن إلى بيت زوجها من الظعن وهو الذهاب.
وقال في مشارق الأنوار على صحاح الآثار: (ظ ع ن) وذكر في الحديث الظعن ومرت ظعن يجرين وبها ظعينة وأُذن للظعن بضم الظاء وسكون العين وضمها أيضا والظعائن والظعينة: هم النساء وأصله الهوادج التي يكن فيها ثم سمى النساء بذلك، وقيل لا يقال إلا للمرأة الراكبة وكثر حتى استعمل في كل امرأة وحتى سمي الجمل الذي تركب عليه ظعينة ولا يقال ذلك إلا للإبل التي عليها الهوادج وقيل إنما سميت ظعينة لأنها يظعن بها ويرحل) انتهى.
وقال في تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي: (الظعينة المرأة المسافرة يقال ظعن يظعن إذا سافر وأصل الظعائن الهوادج لكون النساء فيها وقد يقال لها ظعائن وإن لم يكن فيها نساء) انتهى.
وبهذا ومثله بطل استدلالهم أن المرأة كانت كاشفة لعموم الرجال، فظاهر الروايات أن النساء كن يسرن في جنب بعيدا خلف الركب وهن داخل هوادجهن وهذا أكمل في راحتهن وبعيدا عن نظر الرجال إليهن وعندما مررن برسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليهن الفضل يريد أن يرى منهن
وهن داخل هوادجهن، فلم يكن النساء متوافرات على التكشف أمامهم ولهذا أخذ يتلفت إليهن لما مررن مما تعلم أن الأمر لم يكن من قبل متيسرا أمامه، كحال الكاشفات عن وجوههن اليوم هدانا الله وإياهن، ولهذا كثرت المصائب والمفاسد.
فقد كان ركوب الهوادج كثيراً ومشهوراً ومعروفاً خاصة للنساء في الأسفار البعيدة لحمايتهن من أحوال الطقس الحارة أو الباردة أو الرياح ولراحتهن وسترهن عن أعين الرجال، كما ذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها بقولها في قصة حادثة الإفك:(فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا)(1)، ولاحظ قولها: (وكان النساء إذ ذاك خفافا
…
فلم يستنكر القوم خفة الهودج) مما تعلم معه أن أمر الحجاب كان يعمهن جميعاً فلم يكن منهن امرأة تتكشف أبداً لا خثعمية ولا غيرها، ولهذا لم تخبر أو تشر عن ذاك الواقع عندهم بأنه كان خاصا بأمهات المؤمنين.
وقد مر معنا ذكر الهوادج أيضا عند نقل كلام السيوطي في خصوصية أمهات المؤمنين وحج عثمان رضي الله عنه بهن كما بيناه في مبحث الخصوصية؛ لأن المرأة في الهودج تأخذ راحتها في كشفها ولعله لذلك أخذ الفضل يسترق الزوايا للنظر إليهن وهن في الهوادج، وإنما ذُكرت
(1) متفق عليه.
الخثعمية في الحديث لقُربها لما كان أبوها قريب يساير رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها له وهي تسأله وتستفتيه في الحج عن الكبير.
ولعله لذلك كان هو وحده من بين من رووا القصة والذي وصفها بالحُسن، حيث لم يرد عن غيره هذا الوصف مما يُشعر أنها لم تكن كاشفة أصلا ويقصد حسنها الظاهر كما مر معنا أو لم يكن ذلك أمام أحد من الناس كونها داخل هودجها خلف أبيها وهم يسايرونه صلى الله عليه وسلم يتحينون الفرصة لحاجتهم، فكشفها جائز في حقه صلى الله عليه وسلم إما لغرض رجاء أن يتزوجها وإما لمكان العصمة منه صلى الله عليه وسلم.
فإن كان الأول فهي إنما كشفته - وعلى فرض ذلك - والفضل ينظر إليها لأنه ملاصق وتابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يقال يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، أو يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقره أصلاً على النظر وأنكر عليه فعله ولوى عنقه عنها مرارا ولم يقره، ولو أرادته عليه الصلاة والسلام لوحده لتستفتيه أو تعرض نفسها عليه لصعب عليها ولم تجد الفرصة وخاصة في ذلك التجمع الكبير وعندها قد يفوت عليها حاجتها.
ولو كان الثاني وهو أيضا - على فرض كونها كانت كاشفة - فهذا جائز لها أيضا على قول بعض أهل العلم في جواز ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ذكر الحافظ ابن حجر وآخرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يَحرُمُ عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات لمحل العصمة، بخلاف غيره (1).
فبكل الوجوه تبطل دعوى أهل السفور بحمد الله.
(1) فتح الباري (9/ 210). وأنظر كذلك الخصائص الكبرى للسيوطي باب: اختصاصه بإباحة النظر إلى الأجنبيات والخلوة بهن.
ث- كذلك كانت المرأة محرمة ويجوز للمحرمة كشف وجهها وهي داخل هودجها أو بعيدة عن أعين الرجال، ولهذا تفهم لماذا تلفت الفضل رضي الله عنه وحاول استراق النظر للظعن وهن يجرين عندما مررن به وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- كما أنه قد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد في المسند: (وَكانت جَارِيَةٌ خَلْفَ أبيهَا)(1) فكونها كذلك يُشعر بأنها صغيرة لم تبلغ الحُلم بعد، ولم تُكلف فجاز لها حينئذ على هذا الكشف، بل غالب الروايات حتى التي ليس فيها لفظ جارية مشعرة بصغرها وكونها (ابنة صبيحة) خلف أبيها ولهذا فيحمل أيضا على أنه أحد الأسباب في عدم إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وأنه ما أمرها بالستر، لأنه لا يجب عليها بخلاف الفضل فقد كان شابا بالغاً فنظره كان نظر شهوة وفتنة ولهذا أنكر عليه وصرف نظره عنها.
وهذا ممكن فقد كان في زمنهم تزويج الصغيرات سنة مشهورة، كما اليوم العنوسة مشهورة جدا فلا تتزوج المرأة اليوم في أحسن أحوالها إلا بعد العقد الثالث من عمرها بسبب الاختلاط والفساد الذي غشي الناس، ووجود البطالة بين الشباب بسبب عمل المرأة فيما يمكن أن يقوم به الرجال من أعمال، ومحاربة التعدد وغير ذلك، فقد كان زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي ابنة ست سنين ودخوله بها وهي ابنة تسع، وكذلك ما روي من خطبة عمر بن الخطاب لابنة علي رضي الله عنهم وهي صغيرة وغير ذلك كثير.
(1) قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد صحيح: وهذا إسناد حسن.
ح- ومن الردود كذلك أن المسلمين عندما علموا بحجة رسول الله
…
صلى الله عليه وسلم توافدوا من كل مكان للحج معه قال جابر رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله) متفق عليه.
ولا شك أن فيهم حديثي عهد بالإسلام ممن يجهل بعض الأحكام أو يتساهلون فيها لعدم تعودهم ومعرفتهم بطريقتها، بل وبكثير من تعاليم الشرع فغاب عنهم بعض أحكامه، وخاصة لو أخذنا في الاعتبار الاحتمالات العديدة التي سبقت معنا ككونها صغيرة أو داخل هودجها أو لكونها محرمة أو لعرضها من أبيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها أو لم تكن كاشفة من أصله أو يقال لعله صلى الله عليه وسلم أو غيره أمرها وافهمها بعد ذلك، فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم، أو أن في إنكاره على الفضل إنكار عليها فيفهم منه وجوب سترها كما قاله صاحب مرقاة المفاتيح الحنفي عند شرحه للحديث - وهذا كله كما قلنا على فرض وأن كانت كاشفة - حتى لا يُقال لماذا لم ينكر عليها؟ وأما الفضل فمؤكد كما سبق معنا من قول ابن بطال عند شرحه للحديث من صحيح البخاري:(وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: (وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز، وعلى ولي الأمر الأمر بالمعروف
والنهى عن هذا المنكر وغيره، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره) (1).
وقال ابن القيم: (وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه)(2) انتهى.
وقال الإمام النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: (ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه)(3).
وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر)(4).
وقال في غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد، وهو عبد الرحمن بن زياد الزبيدي مفتي الديار اليمنية من علماء القرن العاشر، لعبد الرحمن بن محمد بن حسين باعلوي:(مسألة): يحرم على الرجال النظر إلى النساء وعكسه، خصوصاً ذوات الهيئة والجمال وإن لم تكن خلوة ويأثم كل بذلك، ويجب نهيهم وتعزيرهم ويثاب الناهي عن ذلك ثواب الفرض، لأن الأمر بالمعروف من مهمات الدين) انتهى.
فبالله عليكم لو كان كشف الوجه جائزاً ومباحاً لماذا يصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عن النظر إلى ما هو مباح؟ ثم لو كان كشف الوجه منتشرا بين النساء هل سيحتاج الفضل أن يسترق الزوايا
(1) مجموع الفتاوى (24/ 382).
(2)
روضة المحبين لإبن القيم (صـ 102).
(3)
شرح النووي لصحيح مسلم (9/ 98).
(4)
فتح الباري (4/ 88).
ويصر على الالتفات مراراً في محاولة أن يراها وهو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمكنه رؤيتها فيما بعد أو لاكتفى بالنظر لآلاف الكاشفات في ذلك التجمع الكبير وغيره! فدل على أنه لم يكن لينظر وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فهذه مخالفة مكشوفة ظاهرة للآيات والأحاديث في تحريم النظر للنساء كيف وهو ينظر نظر شهوة وكيف وقد علم إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم له في المرة الأولى حيث صرف وجهه عنها؟ فعُلم أنه لما كرر النظر إليها مرات لم يكن أمام رسول الله بل خلفه ظاناً أنه لن يراه بدليل قوله: (فكنت أنظر إليها، فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم)(فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها) وهذا ما يبين لك شدة تحريم النظر للنساء فضلا عن كشفهن للرجال، ولهذا فلم يكن الأمر أبدا كما يظنه ويتصوره أهل السفور حيث قالوا:(فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزا ما أقره عليه صلى الله عليه وسلم) فهذا فهم خاطئ لأن قوله: (لِمَ لويت رقبة ابن عمك؟ ) كما في بعض روايات الحديث عند الترمذي هو سؤال من العباس رضي الله عنه والد الفضل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رأى فعله بابنه ولم يدرِ ما السبب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت شاباً وشابةً فلم آمن الشيطان عليهما)(1) حيث لم يشعر بفعلته أحد وإنما تفطن له صلى الله عليه وسلم كونه ركب أمامه وبجواره (فتلفت) و (نظر) إليه، ولم يقره كما يدعي ذلك أهل السفور هدانا الله وإياهم، بل أنكره أبلغ إنكار فعلا وقولا
(1) صحيح الترمذي للألباني برقم (702).
وفي عدة مرات، فهذا كلام خطير وفهم غريب للنصوص، وهو أن يجوزوا النظر للنساء وبهذا الشكل ثم يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره عليه، فأين كان ذلك؟ هذه مصيبة ومخالفة لنصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة والمحكمة، ولإجماع المسلمين على تحريم النظر للنساء بلا حاجة، فَهُم مع الحاجة والضرورة اختلفوا هل ينظر بلذة وشهوة وفتنة أم لا ينظر؟ فكيف بهؤلاء يجوزون النظر بلذة وشهوة وفتنة ولا حاجة ولا ضرورة أيقر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا هم كلما حرفوا وبدلوا وصحفوا الكلام عن حقيقته ومواضعه لم يستقم لهم لا كلام الله ولا كلام رسوله ولا كلام أهل العلم فوقعوا في كثير من الإشكالات والمعارضات مع المحكمات والمسلمات الواضحات مما جاءت به الشريعة الغراء فتناقضوا فيما يقولونه، وناقضوا بين أدلتها ونصوصها، ولو كَشفت النساء عن وجوههن فمن منا لن يكون الفضل بن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، وجمعنا بهما وبالمتأولين من أهل السفور في مستقر رحمته؟ .