الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(محاورة)
حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة
وذهب فريق إلى أن المرأة كلها عورة، ومن أشهر القائلين بذلك من أئمة المذاهب الأربعة مذهب إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (1)، ورواية عن الإمام الشافعي عليهما رحمة الله، وبعض أتباع أئمة المذاهب وحجة هؤلاء ظاهرة.
- فإذا سُئلوا ومن أين لكم أن المرأة كلها عورة؟ .
قالوا: من قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى حيث قال فيما رواه عنه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها) أخرجه الترمذي وابن حبان بسند صحيح (2).
فكيف يصح لنا أن نقول بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول:(المرأة عورة) ولم يستثنِ منها شيئاً ونأتي ونقول إلا وجهها وكفيها.
(1) الإمام أحمد بن حنبل (ولد سنة 164 هـ وتوفي 241 هـ).
(2)
وصححه الألباني في الإرواء (1/ 303).
- فإذا قيل وكيف جاز أن تكشف وجهها وكفيها في الصلاة وهما من العورة ولم تقولوا ببطلانها؟ .
قالوا: لأننا نفرق بين عورتها في صلاتها وعورتها خارج الصلاة عند نظر الأجانب لها ولا يصح خلط الحالين والحكمين والقياس بينهما.
فالرجل والمرأة يؤمران بستر أجزاء من جسمهما في الصلاة وهذا ما يسمي عورة الصلاة، في حين لا يلزمهما ذلك ولا يعد من العورة خارج الصلاة، فهل لو كانت المرأة خالية في بيتها وقامت تصلي أيجوز أن تصلي بدون ستر لشعرها وذراعها وساقها؟ فباتفاق الأئمة لا يجوز لها ذلك، وألزمناها بما ليس بلازم عليها عند خلو الرجال الأجانب، وذلك لعورة الصلاة فكيف يصح بعد ذلك أن نقيس عورتها خارج الصلاة بما ظهر منها حال صلاتها.
وكذلك الرجل يجوز أن يظهر منه خاليا أو مع زوجته الفخذين والعاتقين، ولكن لو قام للصلاة وجب عليه سترهما، باتفاق في الفخذين وعند من يقول بستر المنكبين في الصلاة للحديث المروي في ذلك، وقولنا في اختلاف حكم عورتها في الصلاة عن عورتها خارجها عند نظر الأجانب، هو كذلك مختلف في حكم النهي عن لبسها للبرقع والقفازين حال الإحرام، ولا يمكن قياس هذا بذاك أو العكس فلكل شعيرة وفريضة أحكامها وشروطها وأركانها المتعلقة بها.
وعلى هذا فلا يلزم عندنا أن يقال ببطلان صلاتها وهي مكشوفة الوجه لكوننا نقول هو عورة خارجها.
فإذا منعت من النقاب والقفازين حال الإحرام لم يعنِ هذا جواز كشفهما عند مرور الأجانب، وعليها تغطيته بالسدل والإرخاء دون النقاب ونحوه، كما ثبت تغطيته من الصحابيات والتابعيات حال الإحرام حين حاذهن الرجال، وهذا بإجماع أهل العلم قاطبة.
ألم ترَ إلى الرجال حين مُنعوا من لبس المخيط في الإحرام أفيصح أن يقال بجواز خروجهم مكشوفين عراة؟ أم يفهم منه جواز لبس ما عدا المخيط كالرداء والإزار؟ فكذلك المنقبة ولابسة القفازين ففي الإحرام، لا يعنى النهي أن تتكشف بل تسدل وتُرخي على وجهها، وتدخل كفيها في كم جلبابها كما قال غيرنا من الفقهاء، فالممنوع هو لبس المفصل على هذين العضوين.
- فإذا قيل لهم أن قولكم أن العلة والمقصد للشارع من ستر وجه المرأة وكفيها كونهما عورة، فكيف يجوز لها بالإجماع أن تكشف عورتها في مثل الأحوال الضرورية كالتي ذكرها الفقهاء؟ .
قالوا: لا يمنع من كونهما من العورة ألا ينكشفان حال الضرورة، فمتى ما دعت لذلك حاجة أو ضرورة، جاز كشفهما ولا يغير ذلك من كونهما من عورتها وأبيح كشفهما، ألا ترى إلى جواز أكل الميتة عند الضرورة ولم يقل أحد أنه تغير حكمها للجواز والإباحة مطلقا.
- فإذا قيل لهم أعطونا من نصوصكم ما يفيد ذلك.
قالوا نعم:
1 -
قال البهوتي في (كشَّاف القناع عن متن الإقناع) - حنبلي - (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم «المرأة عورة» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وعن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: «أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة.
(إلا وجهها (لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة. ذكره في المغني وغيره. «قال جمع: وكفيها» واختاره المجد، وجزم به في العمدة والوجيز لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. (وهما) أي: الكفان. (والوجه) من الحرة البالغة (عورة خارجها) أي الصلاة (باعتبار النظر كبقية بدنها) كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورة» ) انتهى كلامه.
وهنا كما ترى وسبق أن قلناه يستشهدون بآية الرخصة: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} في أبواب الصلاة لتحديد عورة المرأة في صلاتها، والعكس هناك فعند تفسيرهم لآية الرخصة يستشهدون بما ظهر من المرأة حال الصلاة لتحديد القدر الذي تكشفه عند الحاجة لنظر من جاز نظره إليها وهذا كله لتحديد القدر الظاهر في الحالتين في ذلك.
2 -
وقال في منتهى الإرادات - حنبلي - باب ستر العورة:
(والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة) حتى ظفرها نصا (إلا وجهها) لحديث «المرأة عورة» رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهو عام في جميعها ترك في الوجه للإجماع.
فيبقى العموم فيما عداه وقول ابن عباس وعائشة في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قالا: (الوجه والكفين) خالفهما ابن مسعود فقال: (الثياب) ولأن الحاجة لا تدعو إلى كشف الكفين كما تدعو إلى كشف الوجه، وقياسا لهما على القدمين. وأما عورتها خارج الصلاة: فيأتي بيانها في أول كتاب النكاح) انتهى.
3 -
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي ـ رحمه الله تعالى ـ: (قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية) ونقل أبو طالب: (ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا ولا خُفَّها، فإنه يصف القدم، وأحبُّ إلىَّ أن تجعل لكمّها زرًا عند يدها). اختار القاضي قول من قال: المراد بـ {مَا ظَهَرَ} من الزينة: الثياب، لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسَّرها ببعض الحلي أو ببعضها، فإنها الخفية، قال: وقد نصَّ عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر) (1) انتهى.
(1) الفروع (1/ 601).
4 -
وقال في الفروع لابن مفلح أيضاً (كتاب النكاح مسألة النظر قبل الخطبة):
(نظر رجل من حرة ما ليس بعورة صلاة، والمذهب: لا، نقل أبو طالب: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء ولا خفها، فإن الخف يصف القدم، وأحب إلىَّ أن تجعل لكمها زرا عند يدها لا يبين منها شيء ويجوز غير عورة صلاة من أمة ومن لا تشتهى
…
وللشاهد نظر وجه المشهود عليها، وكذا لمن يعاملها، ونصه وكفيها.
وفي مختصر ابن رزين أنهما ينظران ما يظهر غالبا، ونقل حرب ومحمد بن أبي حرب في البائع ينظر كفيها ووجهها: إن كانت عجوزاً رجوت، وإن كانت شابة تشتهى أكره ذلك) (1) انتهى كلامه.
وكراهة كشف الشابة ولو لحاجة قال مثله أئمة الأحناف والمالكية.
5 -
وقال الشيخ يوسف بن عبد الهادي المقدسي -الحنبلي- في "مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام"(ولا يجوز للرجل النظر إلى أجنبية، إلا العجوز الكبيرة التي لا تشتهى مثلها، والصغيرة التي ليست محلًا للشهوة، ويجب عليه صرف نظره عنها. ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت)(2) انتهى.
(1) الفروع لابن مفلح "كتاب النكاح"(5/ 154).
(2)
مغني ذوي الأفهام (صـ 120).
6 -
وقال الشرواني (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج) -شافعي-: (قال الزيادي في شرح المحرر: إن لها ثلاث عورات:
ـ عورة في الصلاة، وهو ما تقدم ـ أي كل بدنها ما سوى الوجه والكفين.
ـ وعورة بالنسبة لنظر الأجانب إليها: جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد.
ـ وعورة في الخلوة وعند المحارم: كعورة الرجل. ا. هـ - أي ما بين السرة والركبة -) (1) انتهى.
7 -
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المنهج - شافعي -
(وعورة حُرَّة غير وجه وكفين .. ). قال الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على الكتاب السابق عند قوله: (غير وجه وكفين: وهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها عند النساء المسلمات مطلقًا. وعند الرجال المحارم، فما بين السرة والركبة، وأما عند الرجال الأجانب فجميع البدن. وأما عند النساء الكافرات، فقيل: جميع بدنها، وقيل: ما عدا ما يبدو عند المهنة)(2).
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (2/ 112).
(2)
حاشية الجمل على شرح المنهج (1/ 411).
8 -
وقال في روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي - شافعي -
عند كلامه على أحكام الشهادة (ويجوز النظر إلى وجهها لتحمل الشهادة وسماع كلامها وهذا عند الأمن من الفتنة فإن خاف فتنة فقد سبق أنه يحرم النظر إلى وجهها بلا خلاف فيشبه أن يقال لا ينظر الخائف للتحمل، لأن في غيره غنية، فإن تعين عليه نظر واحترز) انتهى.
وهذا لتعرف أن مصطلح (إذا خشيت الفتنة أو الشهوة) هو لناظر مخصوص ممن جاز نظره للمرأة لسبب مباح.
9 -
وقال العلامة أبو بكر الدمياطي - الشافعي - في (إعانة الطالبين) حيث فسر {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفين على أنهما عورة المرأة في الصلاة وأما عند الأجنبي فكلها عورة فقال: (قوله: وستر حرة) معطوف على ستر رجل. (قوله: ولو صغيرة) أي مميزة أو غيرها. (قوله: غير وجه وكفين) مفعول ستر أي يجب أن تستر سائر بدنها حتى باطن قدمها ما عدا وجهها وكفيها وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال ابن عباس وعائشة: هو الوجه والكفان. ولأنهما لو كانا عورة في العبادات لما وجب كشفهما في الإحرام، ولأن الحاجة تدعو إلى إبرازهما.
واعلم أن للحرة أربع عورات: فعند الأجانب جميع البدن، وعند المحارم والخلوة ما بين السرة والركبة، وعند النساء الكافرات ما لا يبدو عند المهنة، وفي الصلاة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها) انتهى.
10 -
قال الحافظ ابن حجر - الشافعي - في فتح الباري عند شرحه لما بوب له الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: "باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة": (وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يساعد من أجاز، ويقوي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز فقال: لسنا نقول أن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإن لم تكن فتنة فلا إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج) انتهى كلامه رحمه الله.
فالقوم في درجة أنهم يختلفون في جواز نظر المرأة للرجل الأجنبي وليس العكس، فكيف يقال أنهم يقولون بجواز عكسه من سفور وجه المرأة للرجال، والله عجب! فهل لو كان سنة أو مستحب، أو أن نساء الصحابة في عهد رسول الله يخرجن كاشفات الوجوه هل كانوا ناقشوا جواز نظر المرأة للرجل الأجنبي عنها من أصله؟ بل قل لما شكوا أصلاً في جواز وإباحة النظر للرجال، وهم أصلا ينظرون للنساء مكشوفات الوجوه.
ألم أقل لكم كم سنجني على العلم والعلماء لو صدقنا مثل هذه الظنون الواهية والتي هي من أكذب الحديث كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تبين أن هؤلاء الأئمة في وادٍ وأهل السفور هدانا الله وإياهم في وادي آخر؟ .
والأدلة من كلامهم كثيرة ولا تحصى، ولكن حتى لا نطيل نرجئها لموضع آخر بمشية الله تعالى.