الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخضاب في أكثر من حالة من الحالات السابقة وهكذا بقية ما مثل به السلف للزينة.
وإنما قصدنا بذكر تلك الأحوال، التفصيل والبيان لأقوال السلف والتي في ظاهرها الاختلاف، وأنها رخصة من الله، لا إثم ولا عقوبة على من أظهرت شيئا من زينتها - التي أُمرت بسترها - في مثل تلك الأحوال المؤقتة وغيرها مما يماثلها أو يشابهها.
وكل الأقوال التي مرت معنا والمنقولة عن السلف بهذا المعنى والمقصد هي متحدة ومتفقة لا مختلفة وكلها حق وصواب وهم متفقون على قول بعضهم البعض.
ولهذا لم يَردنا أن خطَّأ أحدهم الآخر لأن لكلِ قولٍ من أقوالهم معنىً مؤدٍ للمطلوب في تفسير الآية وأنها رخصة من الله فيما تحتاج المرأة لإظهاره من زينتها سواء الخلقية أو المكتسبة كما قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .
منهج السلف في التفسير:
وبهذا فَهُم مجمعون على أن الآية رخصة، فلن تجد أي خلاف بينهم ولا تناقض ولا اضطراب، بل هم مجمعون أيضاً وبلا خلاف على فرض الحجاب كما نزل في آية الأحزاب، وخلافهم هذا حسبه من لم يسبر طريقتهم أنه من خلاف التضاد، وإنما هو من قبيل اختلاف التنوع كما نبه إليه المحققون وأهل النظر، ومثاله كمن وصف القرآن
بكونه هداية وقال الآخر هو كلام الله وقال آخر هو ذكر الله وقال آخر هو النور وغير ذلك، فكل واحد ذكر وصفاً مختلفاً عن الآخر وهم يعنون شيئاً واحداً لا غير هو القرآن الكريم.
وهنا إنما قصدوا المعنى العام للرخصة بمثال ونوع لكل حالة، واختلافهم في هذا من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد وقد مر معنا أن ألفاظ السلف في التفسير واختلافهم غالباً هو من باب خلاف التنوع لأن خلاف التضاد: أن يكون بين القولين تضاد، أي: لا يمكن اجتماعهما، وأما خلاف التنوع: هو أن تكون المادة المستعملة تختص في قول ما لا تختص في القول الآخر، بمعنى أن صاحب القول الأول يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الثاني، وصاحب القول الثاني يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الأول، ويكون المعنى الأول والثاني كلاهما صحيح، ويحصل التمام باجتماعهما، وغالب ما يكون خلاف التنوع في كلام السلف في التفسير، فإن الناظر في كتب التفسير كتفسير ابن جرير وهو أخص كتاب في المأثور يرى أن أقوال الصحابة والتابعين، ولا سيما من انشغل منهم بالتفسير فيها اختلاف كثير وعامةُ هذا الاختلاف أما لفظي وأما تنوع، بمعنى أن يذكر أحدهما معنى ويذكر الآخر معنى آخر، لكن يمكن اجتماعهما ويكمل أحدهما الآخر.
كما نصَّ عليه سفيان الثوري وابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" والشاطبي في "الموافقات" وابن تيمية في مواضع عدة وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (مختصراً):
(يجب أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم الفاظه فقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} يتناول هذا وهذا
…
ومن المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه دون مجرد الفاظه فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ .
ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جداً وهو وإن كان من التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر
…
الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى، غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، كما قيل في اسم السيف الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد فليس دعاؤه
باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر بل الأمر كما قال تعالى: {قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والعلم والقدير يدل على الذات والقدرة والرحيم يدل على الذات والرحمة
…
).
إلى أن قال رحمه الله: (إذا عرف هذا فالسلف كثيراً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر كمن يقول أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب، والقدوس هو الغفور والرحيم، أي أن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة، ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم فقال بعضهم: هو القرآن أي اتباعه لقول النبي في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم. وقال بعضهم: هو الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفى السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو من فوق الصراط وداع يدعو على رأس الصراط قال فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن.
فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث.
وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة وقول من قال: هو طريق العبودية وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الصنف الثاني:
أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز فأُري رغيفا وقيل له هذا فالإشارة إلى نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده مثال ذلك، ما نقل في قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار ويقول الآخر: السابق
والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم يأكل الربا والعادل بالبيع والناس في الأموال إما محسن وإما عادل وإما ظالم فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة والمقتصد الذي يؤدى الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا.
وأمثال هذه الأقاويل فكل قول فيه ذِكرُ نوع داخل في الآية ذُكِر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له هذا هو الخبز
…
.
- إلى أن قال رحمه الله: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب
…
وإذا عرف هذا فقول أحدهم نزلت في كذا لا ينافى قول الآخر نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا، فقد يمكن صدقهما، بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب.
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف) (1) انتهى كلامه رحمه الله.
(1) مجموع الفتاوى (13/ 333).
وبنفس هذا المعنى قال الإمام الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن" والسيوطي (ت: 911 هـ) في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" وفي ذلك يقول الإمام الزركشي (ت: 794 هـ): (يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم، ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ، ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافاً فيحكيه أقوالا وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل، أو لكونه أليق بحال السائل، وقد يكون أحدهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالباً، والمراد الجميع، فليتفطن لذلك، ولا يفهم ثَمَّ اختلاف العبارات اختلاف المرادات)(1).
ولتأكيد هذا فقد وقع إجماع المفسرين على مر عصورهم على كون قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} رخصة من الله كما سيأتي النقل عنهم.
(1) البرهان (2/ 16).