الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور
12 -
قال الإمام القرطبي (المالكي) في الجامع لأحكام القرآن: (الثالثة: أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذاراً من الافتتان (1)، ثم استثنى ما يظهر من الزينة؛ واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتادة والمسوَر بن مَخْرَمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسّوار والخضاب إلى نصف الذراع والقِرطة والفَتَخ؛ ونحو هذا فمباح أن تُبدِيه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركَت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا» وقبض على نصف الذراع.
قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدّ منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك.
(1) وهذه هي العلة كذلك عند الأئمة المالكية في الأمر بستر النساء لوجوههن.
فـ (ما ظهر) على هذا الوجه مما تؤدّي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه (1).
قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورَهما عادةً وعبادةً وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفّيه» فهذا أقوى في جانب الاحتياط؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تُبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفّيها، والله الموفق لا ربّ سواه. وقد قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد من علمائنا: أن المرأة إذا كانت جميلة وخِيف من وجهها وكفّيها الفتنةُ فعليها سَتر ذلك وإن كانت عجوزاً أو مُقَبَّحة جاز أن تكشف وجهها وكفّيها) انتهى.
فلاحظ قول القرطبي عندما قال: (قلت: هذا قول حسن) يقصد كلام ابن عطية ثم ما لبث أن رجع وتعقبه (إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورَهما عادةً وعبادةً وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما .. فهذا أقوى في جانب الاحتياط .. فلا تُبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفّيها) فهو مثل من سبق معنا أراد تحديد القدر المباح إظهاره للأجنبي بالوجه والكفين
(1) وعلى هذا جميع أئمة التفسير أن الآية رخصة عند الحاجة والضرورة.
لأنهما يظهران في العادة والعبادة والصلاة والحج، فهو مثل الإمام الطبري لما خاف أن يفهم الناس من أقوال السلف في تفسير الآية أنها رخصة للمرأة أن تُظهر ما تحتاجه عند الضرورة خافوا أن يتساهل الناس بإبداء أكثر من الوجه والكفين لأنهما غالب ما تحتاج المرأة لكشفهما كما مثل لذلك الفقهاء فقال الطبري:(وَأولَى الأقوال فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: قَوْل مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْوَجْه وَالكفان). ويقصد (وأولى الأقوال) أي أقوال السلف من الصحابة والتابعين التي نقلها في الآية، فالقرطبي لم يقصد أن الآية تشريع ووصف لمسألة الحجاب، بل هم مجمعون ويعلمون أن الآية رخصة عند الضرورة لأن تبدي المرأة ما تدعو الحاجة والضرورة إليه لهذا كرروا لفظة الحاجة والضرورة عند تفسيرهم للآية، ولكنهم أرادوا تحديد ما يظهر عند الضرورة غالبا ولهذا وجدناهم بنفس الاستدلال والاستنتاج فصار (أولى) واستشهدوا لمن طالبهم بالدليل على تحديد هذا القدر وكونه (أولى بالصواب) لأنه مما يظهر من المرأة في صلاتها كما قال الطبري والقرطبي ومن سبق معنا.
وهنا قال القرطبي: (واختلف الناس في قدر ذلك فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه
…
) لأن الزينة في الآية لم تحدد بشيء وحتى لا يتوسع الناس في الأخذ بالرخصة فيظهروا من الزينة في أحوالها الغالبة أكثر من الوجه والكفين فقدروه بما قدره الطبري سابقا بالوجه والكفين.
ولهذا حسّن القرطبي كلام ابن عطية في توضيحه لمعنى الآية الإجمالي بكونها رخصة لما يظهر عند الضرورة عندما قال وكرر لفظة الضرورة مرتين وقال: (إن المرأة مأمورة بألا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة
…
فيما يظهر بحكم ضرورة
…
مما تؤدّي إليه الضرورة
…
) ولكن رجع وتعقبه لأنه لم يحدد ما يظهر من الزينة كما حددها الكثيرون من المفسرين السابقين غيره، ولهذا لم يكتفي بحرص ابن عطية في بيان أنها رخصة لم يكفيه ذلك وأصر القرطبي أن يحددها للناس بالوجه والكفين كما حددها أئمة التفسير والفقه من قبله احتياطاً وحرصاً منهم من مجموع أقوال الصحابة والتابعين في الآية وليستدلوا بأن ذلك (أولى) و (احتياطاً) استدلوا بعده استدلالات منه: لأنهما مما يظهران عادة وعبادة، وفي وصلاتها، ولأنها عند بعضهم ليست بعورة وزاد بعضهم استشهاده بحديث أسماء وعائشة ولكن ليس للسفور كما ظنه أهله واستشهدوا به وإنما لتحديد قدر الرخصة بالوجه والكفين حذرا من التوسع والتساهل، وسبق أن بينا أن المتقدمين كانوا يذكرون حديث أسماء وقوله تعالى:{إلا ما ظهر منها} في أبواب الصلاة لتحديد القدر من عورتها في الصلاة بالوجه والكفين وإن كان الإجماع على هذا القدر وهو كافٍ. فقد قال القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم} [الأعراف: 26]: (وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين على هذا أكثر أهل العلم وقد قال النبي: صلى الله عليه وسلم «من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها
وكفيها» ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام
…
وحديث أم سلمة «أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها» وقد روي مرفوعا والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما قال أبو داود: ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: عبد الرحمن هذا ضعيف عندهم إلا أنه خرَّج البخاري بعض حديثه والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر) انتهى.
كما أن قول القرطبي معروف في وجوب ستر المرأة لوجهها أشهر من أن ينقل ومع ذلك نقلناه في عدة مواضع هنا دليلا على أن قولهم ليس بعورة لا يعنى قولهم بجواز كشفه بدون سبب مُبِيح فليراجع.
وقد يتساءل أحدنا وما دخل آية الرخصة بتحديد ما يظهر في الصلاة؟ فهذا اجتهاد قياسي منهم لأن حديث: (تصلى في درع وخمار)(1) فيه مقال، كما أنه ليس فيه ولا في غيره تحديد دقيق بظهور
(1) حديث أم سلمة رواه أبو داود. قال الشوكاني في نيل الأوطار-باب أن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها- (حديث أم سلمة أخرجه أيضا الحاكم وأعلَّه عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا. قال الحافظ: هو الصواب، ولكنه قد قال الحاكم: أن رفعه صحيح على شرط البخاري. ا. هـ. وفي إسناده عبد الرحمن بن دينار وفيه مقال. قال في التقريب: صدوق يخطئ من السابعة. قال أبو داود: روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحاق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة لم يذكر واحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم قصروا به عن أم سلمة) انتهى. وانظر الإرواء (274) وضعيف أبي داود (97 - 98) وقال في المشكاة (763)(ضعيف).
الوجه والكفين إنما هو الإجماع، فأحبوا الاستشهاد بتلك النصوص وإن كانت بعيدة عن موضوع الصلاة، وموضوع تحديد الرخصة هنا.
13 -
كما قال ابن رشد - المالكي - في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد "كتاب النكاح": (وأما النظر إلى المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلى الوجه والكفين فقط؛ وأجاز ذلك غيره إلى جميع البدن عدا السوأتين؛ ومنع ذلك قوم على الإطلاق؛ وأجاز أبو حنيفة النظر إلى القدمين مع الوجه والكفين، والسبب في اختلافهم أنه ورد الأمر بالنظر إليهن مطلقا، وورد بالمنع مطلقا، وورد مقيدا: أعني بالوجه والكفين على ما قاله كثير من العلماء في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إنه الوجه والكفان، وقياسا على جواز كشفهما في الحج عند الأكثر، ومن منع تمسك بالأصل وهو تحريم النظر إلى النساء) انتهى.
وأنظر كيف فهموا من الآية جواز النظر للخاطب ونحوه، وليس على كل حال.
فهم درجوا على ذلك كما هو مسطر في كتبهم وسيمر معنا بعضه من أنهم مرة يستشهدون بحديث أسماء هنا في باب تحديد قدر الزينة المرخص للأجنبي أن ينظر إليها، ومرة هناك في أبواب الصلاة وعورة المرأة فيها، ولم يخطر ببالهم في ذلك الوقت من أزمانهم من سيفهم من هذه النصوص شيئا يسمى جواز كشف المرأة لوجهها بلا سبب مبيح، وإنما كانت كل تلك القياسات والآثار لتحديد القدر بالوجه والكفين لأنه كما قال أقوى في جانب الاحتياط، والتحديد.
وقد سبق القرطبي في هذا التحديد الإمام الطبري كما سيأتي والبغوي وغيرهم كثير من أهل الفقه والتفسير كما سيمر معنا بنفس المقال خوفا من توسع البعض كما في جواز النظر للمخطوبة حيث توسع بعضهم فقال بجواز النظر لأكثر من الوجه والكفين بكثير.
14 -
قال الإمام ابن قدامة في كتابه المغني بعد ذكره لأقوال العلماء - في النظر للمخطوبة-: (ولنا قول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وروي عن ابن عباس أنه قال: الوجه وبطن الكف، ولأن النظر محرم أبيح للحاجة فيختص بما تدعو الحاجة إليه، وهو ما ذكرنا
…
فأما ما يظهر غالباً سوى الوجه كالكفين والقدمين ونحو ذلك مما تظهره المرأة في منزلها، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يباح النظر إليه لأنه عورة، فلم يبح النظر إليه كالذي لا يظهر، فإن عبدالله روى أن النبي قال:«المرأة عورة» حديث حسن، ولأن الحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه فبقي ما عداه على التحريم.
والثانية: له النظر إلى ذلك .. ) انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.
ولهذا قصره أكثرهم على الوجه والكفين، ومنهم من توسع قليلاً ومنهم من بالغ جداً، كما أن ابن قدامة من الحنابلة وهو يرى أن الوجه ليس بعورة وهذا لم يمنعه كغيره ممن أخذوا بهذا، من قولهم بتحريم كشفه بلا سبب مبيح، لِعِلة أخرى عندهم وهي الفتنة والشهوة وسيأتي معنا مزيد من نقولاته في ذلك رحمه الله.
15 -
الإمام البغوي (ت: 510 هـ) في تفسيره (من متقدمي الأحناف)
قال: (واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى: قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: هو الوجه والكفان. وقال ابن مسعود: هي الثياب بدليل قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] وأراد بها الثياب. وقال الحسن: الوجه والثياب. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم والخضاب في الكف. فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة، فإن خاف شيئاً منها غض البصر.
وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره). انتهى كلام البغوي.
وقوله (وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه) وهذا يدل أنه يتكلم في رخصة وإلا فهو في أصله مستور وغير بادٍ، ولهذا أحبوا الاستئناس بتحديد القدر الذي ينكشف بأمور منها ما يظهر في الصلاة والحج وبأثر أسماء، فالأدلة هنا من قوله تعالى {إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يستخدمونها في تحديد القدر للمسائل هناك والأدلة هناك يستخدمونها في تحديد القدر للمسائل هنا. فمن لم يعرف طريقتهم ويفهم منهجهم يظن أنهم يتكلمون في تأييد مذهب أهل السفور اليوم لأنهم يذكرون نفس تلك الأدلة التي يستشهد بها أهل السفور اليوم.
ولكن المتقدمين لم يفهموا منها السفور أبدا ولم يأتِ عنهم كلمة واحدة عند ذكرهم لها أنها تعني جواز خروج المرأة سافرة عن وجهها، وإنما فهموا منها التحديد بما يظهر من المرأة فقط في عورة الصلاة وعند الرخص، فحسب المتأخرون من دعاة السفور اليوم أنهم يتكلمون في آية تشريع الحجاب الواصفة لشكله وحدوده، وأنها دليل على قولهم في جواز كشف المرأة لوجهها، فحصل التحريف شيئا فشيئا فيمن بعدهم وزادت غربة الإسلام في مسألة الحجاب.
فمثل القرطبي والبغوي وغيرهم ممن سبق معنا ما قاله قبلهم:
16 -
شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) في تفسيره بعد أن نقل أقوال السلف في الآية قال: (وَأولَى الأقوال فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: قَوْل مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْوَجْه وَالكفان، يَدْخُل فِي ذَلِكَ إذا كان كَذَلِكَ الْكُحْل، وَالخاتم، وَالسِّوَار، وَالخضاب.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل، لإجماع الجميع أن على كل مصلٍّ أن يستر عورته في صلاته، وأنَّ للمرأة أنْ تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجل، لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره. وإذا لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره، بقوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} لأن كل ذلك ظاهر منها) انتهى من تفسير الطبري.
فالطبري من قدماء المفسرين الذين كانوا ينقلون أقوال السلف كما هي وبالأسانيد عنهم ولم يكونوا محتاجين أيضا لمزيد بيان عليها مع ما توافرت عليه نساؤهم من الستر والحجاب، سوى أنهم كانوا حريصين ومحتاجين إلى الإشارة والتنبيه في معرض نقولاتهم لأقوال السلف للتحذير من عدم التوسع في فهم الرخصة بإبداء الزينة بأكثر من الوجه والكفين، كون ذلك هو الغالب من الأحوال التي مثل لها الفقهاء فكان بعضهم ينبه إلى هذا القدر، والاقتصار عليه لأنهما الأكثر من زينتها التي تحتاج وتبتلى المرأة بكشفه، وللرد على من توسع فيما سواهما كما أشار بقوله:(إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف) وما قاله البعض من جواز ظهور أكثر من الوجه والكفين للخاطب، ولهذا فبعضهم تحرزوا من توسع الناس أو تساهلهم فيقول قائل كما أنه جاز الكشف إلى نصف الذراع، فيعتبر ليس بعورة فيجوز إظهاره كذلك عند الحاجة والضرورة من الرخص، ولهذا أرادوا بتحديدهم هذا الاحتياط من كشف مالا داعي لكشفه حيث تقدر الحاجة والضرورة بقدرها.
ولهذا فَهُم قالوا ما قالوه من استدلالات لمن طالبهم بدليل على هذا القدر الذي ذكروا فظنه البعض اليوم أنهم يتكلمون في الآية المشرعة لفريضة الحجاب، الواصفة لطريقته وشكله، لعدم إدراك المتأخرين بأسباب وتاريخ نزولها وأنها جاءت رخصة متأخرة عن آيات سورة الأحزاب المتقدمة، ففهم بعض القائلين بمذهب السفور كالشيخ الألباني كلام الطبري في الرخصة أنه كلامه في أحوال المرأة العادية فأخذ منه ما
يوافق مذهبه عندما صوب الإمام الطبري قول من قال الوجه والكفين وغلطه وحمل عليه معترضا من طريقة قياسه واستنتاجه لذلك (الأولى بالصواب) لأنه استدل عليهما بأنهما مما يظهران من المرأة في صلاتها أجماعاً.
وكذلك فعل مع القرطبي صحح عبارته حين قال الوجه والكفان وغلطه واعترض عليه عندما استدل لهما بكونهما مما يظهران عادة وعبادة، فكان يوافق مرة ويعترض مرة أخرى في نفس الموضع وكان بذلك كأنه هو في وادٍ ومقصد الإمام الطبري والقرطبي والبغوي ومن وافقهم من أئمة التفسير والفقه في وادٍ آخر.
ومن سبر كلام المفسرين الذين وافقوا الطبري في استدلالاته عرف مقصدهم ومرادهم وأنهم يتكلمون في تأصيل ومقصد واحد وهو الاختيار من أقوال السلف في الآية لتحديد القدر الظاهر من زينة المرأة في الصلاة وعند الرخص، ولا يعنون سفور المرأة ولا شيئاً مما ظنه بهم أهل السفور بتاتاً، وإنما يريدون تقدير? ما ظهر منها} بضابط واستدلال معين.
قال الشيخ الألباني غفر الله لنا وله، في "جلباب المرأة":(ومن قائل: أنها الكحل والخاتم والسوار والوجه وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في (تفسيره)(18/ 84) عن بعض الصحابة والتابعين ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان فقال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك الوجه والكفين
…
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أن على كل
مصلٍّ أن يستر عورته في صلاته وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها
…
) إلخ.
- قال الألباني- وهذا الترجيح غير قوي عندي لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي وهو غير لازم هنا لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة أمر خاص بالصلاة فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة لوضوح الفرق بين الحالتين.
أقول- الألباني - هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه لا في صحة الدعوى فالحق في معنى هذا الاستثناء ما أسلفناه أول البحث وأيدناه بكلام ابن كثير.
- إلى أن قال الشيخ الألباني -
ويؤيده أيضا ما في (تفسير القرطبي)(12/ 229):
(قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك فـ (ما ظهر) على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه) قال القرطبي: (هذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة
رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه"، فهذا أقوى في جانب الاحتياط ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها والله الموفق ولا رب سواه).
قلت - الألباني -: وفي هذا التعقيب نظر أيضا لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة فإنما ذلك بقصد من المكلف والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل. ثم تأملت فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء هو الصواب وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة غاية ما في الأمر أنهم
…
) (1) إلخ كلام الألباني رحمه الله وما فيه من استنتاجات حديثة بدت له في كل مرة، بعيده عن مقصد ومراد أولئك الأئمة المتقدمين.
وأما قول الألباني: (هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه لا في صحة الدعوى).
(1) جلباب المرأة صفحة (50).
ولا أدري كيف قبل الشيخ الألباني رحمه الله صحة الدعوى والدليل الموصل لها غير صحيح، هل لو كان قاضياً وجاءه خصم لا دليل عنده لصحة دعواه أكان يحكم له؟ فكيف بالحكم في شرع الله؟ .
فإما أن يكون الإمام الطبري يقول بالظن والتخريص فأصاب مصادفة أو أن الألباني لم يفهم مقصده ومرماه وتسرع في اعتراضه عليه وعلى القرطبي وعلى البغوي وعلى كثير ممن أصّلوا للمسألة بمثل قولهم ولو أن الألباني نظر لكلام أئمة التفسير جميعاً القائلين بقول الطبري والقرطبي والبغوي لتبين له المراد من مقصدهم واتفاقهم على هذا الاستدلال ليس لأنهم يقولون بجواز كشف المرأة لوجهها كما فهمه واستشهد بأقوالهم له، وإنما في تحديد قدر الرخصة، ولهذا اعترض عليهم حين استدلوا بأمر غريب في اعتقاده وهو بما يظهر منها حين صلاتها كما هو قول الطبري أو بما يظهر عادة وعبادة كما هو قول القرطبي؛ لأنه يحسب أنهم يتكلمون في جواز سفور المرأة في أحوالها العادية كما هو مذهبه، وكأنه يقول أين أنتم من الاستدلال بحديث الخثعمية؟ أين أنتم من الاستدلال بحديث سفعاء الخدين؟ ولكنه ما أحب أن ينبه السامعين على عدم وجود أحد من المتقدمين من فهم من تلك الأحاديث ما فهمه هو من سفور النساء لوجوههن فضلا على أن يستدلوا بها هنا في موضع استدلاله بأقوالهم في المسألة، ولهذا قال:(لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه) فالشيخ حقق كتب السنن والصحاح ولو وجد شيئا من كلامهم لما بخل به علينا، ولهذا سبق له تضعيف حديث أسماء ثم رجع وصححه ولعل من أسباب ذلك
رؤيته للكثير من المتقدمين ممن ذكروه هنا واستشهدوا به في ابواب عورة المراة في الصلاة وعند الرخص، فظنهم يقوه، ولكن لما أن ذكروه عكروا عليه ذلك بقولهم (ما يظهر عادة وعبادة) ولهذا رجع رحمه الله معترضا عليهم مرة ثانية وكأنه كان يريد منهم أن يقولوا أنه دليل لجواز أن تكشف المرأة عن وجهها وكفيها، ولكنهم لم يقولوا شيئا ويوم أن ذكروه فهموا منه (الاحتياط) و (ما يظهر في صلاتها) و (عادة وعبادة) ولم يأتِ في بالهم المعنى الذي يريده أهل السفور اليوم.
فكيف لو علم الشيخ الألباني أن جميع من سننقل كلامهم هنا بل وغيرهم يقولون بنفس عبارات الطبري (لأنهما يظهران في صلاتها) كمثل: الإمام الجصاص والبغوي وابن عطية والخازن والقرطبي وصاحب تفسير الكشف والبيان للثعلبي، وتفسير الفقيه الخطيب الشربيني الشافعي وابن جزي كما سيمر معنا، ومنهم من قال بنفس قول الإمام القرطبي والذي اعترض عليه ثانية (عادة وعبادة) أمثال الأئمة: كالنسفي وابن عادل والزمخشري وصاحب غرائب القرآن ورغائب الفرقان وأبو حيان، وأبو السعود، ومن الفقهاء صاحب كتاب اللباب الحنفي وغيرهم كثير كما سيمر معنا، هل هؤلاء جهلوا وأخطؤوا في الاستدلال للآية، فلم يحسنوا بيان الحجة لمذهب السفور؟ .
وهل عندما يقول بعضهم (وإنما رُخص في هذا القدر أن تبديه) هل يُفهم منهم أنهم يتكلمون على رخصة أم على تشريع لفريضة؟ ولو كان الثاني أيقال فيها (رُخص في هذا القدر)؟ .
وعندما يقول القرطبي: (فهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تُبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفّيها) هل هذا كلام لمن يريد أن يدلل على جواز كشف وجه المرأة في أحوالها العادية يقول (احتياط)(ولمراعاة فساد الناس)(فلا تبدي إلا الوجه والكفين) فهل معناه أن تغطية المرأة لشعرها وغيره ليس بواجب أصلا وأن لها أن تخرج سافرة الشعر والسيقان ولكن للأسباب الأنفة (فلا تبدي إلا الوجه والكفين) أم المناسب هو أن كلامهم في الرخصة التي لم تحدد في الآية فلا تكشف (احتياطا)(ولمراعاة فساد الناس)(فلا تبدي إلا الوجه والكفين)؟ .
لهذا جاء تحديدهم للقدر الغالب بما يظهر منها حال الصلاة وعادة وعبادة واستشهادهم للقدر بحديث أسماء، ولهذا امتلأت كتبهم بعبارات الحاجة والضرورة وذكر الشاهد والقاضي والمتبايع ونحوهم عند تفسيرهم للآية وإباحة نظر الأجنبي للمرأة كما في أبواب الفقه والتفسير المختلفة.
وبلا شك وكما سيمر معنا الكثير أن قولهم بالوجه والكفين هنا إنما هو في حال (الضرورة) و (الرخصة) كما هو كلامهم مرارا وتكرارا، وأنه كذلك القدر المختار (والأولى بالصواب) من أقوال السلف كما قال الطبري كونه الغالب مما تحتاجه، ولأنه يظهر في صلاتها إجماعا، فلم يكن عورة، وزاد بعضهم استدلاله بحديث أسماء استئناسا بالحديث الضعيف كما أشار لذلك ابن كثير في تحديد ذلك القدر أيضا وسيأتي، وقصد استئناس الفقهاء والمحدثين بالحديث الضعيف إذ لم يوجد في