الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
قال: الشيخ محمد الألباني رحمه الله في كتابه حجاب المرأة صفحة (57): (ويلاحظ القراء الكرام أن هذا البحث القيم الذي وقفت عليه بفضل الله من كلام هذا الحافظ ابن القطان يوافق تمام الموافقة ما كنت ذكرته اجتهاداً مني وتوفيقاً بين الأدلة: أن الآية مطلقة كما ستراه مصرحاً به (ص 87) فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات).
ثم قال هناك في صفحة (87): (هذا ولا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها وهذا كما ترى أمر مطلق فيحتمل أن يكون الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة ويحتمل أن يكون أعم من ذلك فعليه يشمل الوجه. وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في (تفسيره) والسيوطي في (الدر المنثور) ولا نرى فائدة كبرى بنقلها هنا فنكتفي بالإشارة إليها ومن شاء الوقوف عليهما فليرجع إليهما، ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور:
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقاً بين الآيتين
…
) انتهى كلام الألباني من كتابه جلباب المرأة.
وسبق لنا بيان أن آية النور متأخرة وليست متقدمة، فالشيخ غفر الله لنا وله أخذ من آية الرخص والاستثناءات، ما جعله حكماً لفريضة الحجاب، كمن يأخذ بأدلة الفطر للمسافر والمريض، ويقول الفطر في رمضان سنة ومستحب، وبناء على فهمه لاختلاف أقوال الصحابة والسلف في الآية، وكذلك كلام أهل العلم المتقدمين على لفظة العورة فظنه منهم أنه اختلاف تضاد بينهم، بل ولتقدير أكثرهم للزينة المرخص إظهارها من الآية بالوجه والكفين كونهما الغالب مما يظهر من المرأة عادة وعبادة، وفي صلاتها، فظنهم يتكلمون في الآية المشرعة للحجاب وجواز كشف المرأة للوجه والكفين في أحوالها العادية، واختلط عليه الأمر رحمه الله، ولا شك أنها شذوذ منه وزلة العالم غفر الله لنا وله، وجمعنا به في مستقر رحمته.
كما وأنه سبق لنا بيان فهم الإمام ابن جرير وغيره لكلام وأقوال الصحابة والسلف على الآية وهذه من النسب المغلوطة والمتسرعة، والمعتمدة على موضع واحد ولا يدل بصراحة على رأيه في المسألة، من بقية أقوالهم الصريحة، وكذلك فقد سبق لنا نقل أقوال الإمام السيوطي في أكثر من موضع من كتابنا هذا فلتراجع.
ولولا الخشية من التطويل لذكرت بقية أقوال أهل العلم من المفسرين والفقهاء التي تبين أنهم مجمعون على أن الآية رخصة لأن تبدي المرأة
من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه، كإجماعهم في آية الإدناء التي سبقت في سورة الأحزاب على أنها أول ما أنزل في شأن الحجاب وأنها الواصفة والمشرعة لفريضته وشكله وطريقة لبسه كما جاءت بذلك الآثار عن السلف.
فهذه الآية من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، استشهد بها اليوم القائلون بسفور وجه المرأة وكأنها هي الأصل في مسألة الحجاب وكأنها أول ما أنزل فيه، وبالتالي فسروها على ظاهرها وبدون معرفة التسلسل التاريخي لنزولها، وهي أنها متأخرة على فريضة الحجاب والغوص في معانيها ومعرفة مراد الصحابة من تفسيرها كما فهموه وأخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنها رخصة وتوسعة من الله لعباده المؤمنين والمؤمنات في أن تظهر المرأة زينتها عند الحاجة والضرورة بقدرها، كما فهموه من رسول الله من جواز نظر الخاطب وغيره، وكما جاء في نفس السورة بعدها الرخصة للعجائز وللقواعد من النساء أن يضعن ثيابهن، فهذه الاستثناءات جاءت بعد الأصل السابق والعام في فرض الحجاب والذي نزل متقدماً في سورة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة كما مر معنا وقبل سورة النور والتي كانت بعد غزوة بني المصطلق وحادثة الإفك في السنة السادسة من الهجرة، فكان بينهما ما يقارب السنة تقريباً.
فإن كانت هذه الآية أول ما نزل فكيف يصح عدم البيان وتحديده من أصله، وبخاصة في معرض البيان لفريضة إلهية أول مرة نزلت كما
يدعون من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فلماذا لم يبينها الله حتى لا يختلط الأمر على الناس؟ والحق أنه لم يحددها لحكمة منه سبحانه وتعالى أراد منها عدم التحديد المطلق لأنها رخصة فتركه استثناء مفتوحاً جعل تقديره للظروف والاحتياجات التي تواجه العباد حتى لا تقع المرأة والرجال في مشقة وعنت وحيرة من أمرهم.
كما قال تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]، ولم يحدد المستثنى الذي يأكلونه مما حرم عليهم، لأنه قصد هنا أحوال الضرورات وهي غير ثابتة بشئ وغير مستدامة، فما يجدونه ويحتاجونه مما حرم عليهم وقت الضرورة فمرخص لهم أكله.
فمن استشهدوا بها وكأنها أول ما نزل من مسائل الحجاب وكأنها المشرعة لفريضته الواصفة لشكله وحدوده، كان لقولهم ذلك أبلغ الأثر في خلط الأمور وتحريف وتبديل مسألة الحجاب حتى بدت أحكامه غريبة، وظهر فيها من التناقضات والاختلافات بين نصوصه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الشيء الكثير، بل وبين أقوالهم أنفسهم؛ فوقعوا في كثير من التناقضات والإشكالات والتجاوزات أنتجت آراء غير معقولة وغير منطقية وغير واقعية، وغير مسبوقة ومخالفة للإجماع، ولهذا لم يزرع حجابهم - تغطية الرأس- في نفوس الآخذات به أي فضيلة أو حبا للسنة، وهذا في حال غالبيتهن كما هو شاهد الحال، فتبعه التبرج والسفور والانحلال، وإلى الله المشتكى.
ولو جمعت أقوال الصحابة والتابعين وأئمة التفسير حسب مدارسهم الفقهية وحللت ونظر لها بنوع من التتبع والاستقراء الفقهي لفهمت حسب مقاصدهم التي نص عليها أهل العلم السابقين في كل مذهب ولتبين لنا بلا شك ولا ريب أنها لمعنى واحد ومقصد متحد ولو كان بعضهم يقول بالعورة وبعضهم لا يقول بها ولعلمنا أن جميعهم يقولون بالتحريم إما بسبب العورة أو بسبب الفتنة والشهوة، ولما احتجنا لترجيح أو طرح قول على قول، ولما تطرق لدينا الاضطراب والتناقض والاختلاف الذي وقع فيه البعض فنسبوه للصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وأهل التفسير ليبرروا اختيارهم من بين أقوالهم.
ولهذا فمن أمانة أهل العلم اليوم والمجامع الفقهية وولاة أمور المسلمين بيان كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم كما أرادوه وقصدوه ونفي التحريف والتبديل والتصحيف الواقع على كلامهم ونصوصهم من المتأخرين.
وبخاصة في فريضة من فرائض الإسلام، وشعيرة ظاهرة جلية بين الأنام يتساءل أحدنا كيف لم ينقل لنا خلاف السلف والمتقدمين فيها أو نزاع المذاهب الأربعة عليها؟ .
والسبب لأنه لم يكن بينهم خلاف أصلا في وجوب ستر النساء لوجوههن، وإنما كان خلافهم على علة الأمر وهو من قبيل خلاف التنوع لا خلاف التضاد.
وهنا كان نقلنا الطويل والمسهب لتفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، من كتب أهل التفسير وأهل الفقه من المذاهب الأربعة لنبين أنه لم يأت أو ينقل عن أحد من السلف أو أئمة التفسير والفقه قاطبة على مر عصورهم لما يقارب الأربعة عشر قرنا أن قال فيها أحد منهم - أي أحد - أنها بيان لتشريع فريضة الحجاب وبيان شكله وطريقته وما يظهر من المرأة في أحوالها العادية كما قال بذلك الألباني وبعض متأخري هذا العصر غفر الله لنا ولهم، فضلاً أن يقال أنها دليل لجواز كشف النساء لوجوههن عند الرجال الأجانب بلا سبب مبيح، وإنما هو مبني على فهم مغلوط لمقصد ومراد أولئك المتقدمين عند تقعيدهم وتأصيلهم للمسائل ولهذا لم يقل به أحد منهم كما رأينا فهو يخالف قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة أهل العلم وأعلام الإسلام الذين امتلأت كتبهم ومؤلفاتهم ببيانه ونقله وشرحه على مر عصورهم.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله مبينا الإجماع في ذلك:
…
(والتبرج ليس تحرراً من الحجاب فقط بل هو والعياذ بالله تحرر من الالتزام بشرع الله وخروج على تعاليمه ودعوة للرذيلة، والحكمة الأساسية في حجاب المرأة هي درء الفتنة، فإن مباشرة أسباب الفتنة ودواعيها وكل وسيلة توقع فيها من المحرمات الشرعية ومعلوم أن
تغطية المرأة لوجهها ومفاتنها أمر واجب دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح) (1).
أفبعد هذا يقال خالف في المسألة بعد القرون المفضلة ومن بعدهم وإلى القرون المتأخرة واحد أو اثنان فلا إجماع، هذه هرطقة، ولو جازت هذه، لما كان هناك معنى ولا فائدة لقوله صلى الله عليه وسلم وحاشاه-:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ولو أُخذ بشذوذ وزلة كل عالم متأخر لما سلم لنا من الدين شيء، ولحق للعلمانيين والعصرانيين الذين يتكلمون في ثوابت الدين بتفسيرات من عند أنفسهم، ثم يقولون نحن رجال كما أولئك رجال.
ولهذا فلا عبرة بمن خالف الإجماع هذا فيمن كانوا بعد عصر الصحابة والتابعين فكيف بمن بعدهم؟ .
قال شيخ الإسلام: (وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك بل مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه)(2).
وقال أيضاً: (فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم وهم خير الناس بعد الأنبياء فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وأولئك خير أمة محمد كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وأنفع من معرفة أقوال
(1) مجموع فتاوى ومقالات العلامة ابن باز، الجزء الخامس (مشروعية الحجاب).
(2)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية (ج 13/ 361).
المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك; فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى:{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .
وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف.
فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها فتارة يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين ; طائفة أو طائفتين أو ثلاثا وتارة عرفوا أقوال بعض السلف والأول كثير في "مسائل أصول الدين وفروعه".
كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة; بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته; مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك. وهم إذا ذكروا إجماع المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع فإنه لو أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به; لعدم علمهم بأقوال السلف فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النزاع بخلاف السلف فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيراً.
وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً لم يخالف إجماعاً; لأن كثيراً من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعا كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة المعلومة.
وإجماع الصحابة بخلاف ما يعرف من نزاع السلف فإنه لا يمكن أن يقال: أنه خلاف الإجماع وإنما يرد بالنص وإذا قيل: قد أجمع التابعون على أحد قوليهم فارتفع النزاع. فمثل هذا مبني على مقدمتين:
إحداهما: العلم بأنه لم يبق في الأمة من يقول بقول الآخر وهذا متعذر
الثانية: أن مثل هذا هل يرفع النزاع مشهور، فنزاع السلف يمكن القول به إذا كان معه حجة; إذ على خلافه، ونزاع المتأخرين لا يمكن لأن
كثيراً منه قد تقدم الإجماع على خلافه كما دلت النصوص على خلافه ومخالفة إجماع السلف خطأ قطعاً.
وأيضاً فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف فلا بد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش وهذا في جميع علوم الدين ولهذا أمثلة كثيرة يضيق هذا الموضع عن استقصائها والله سبحانه أعلم) (1) انتهى.
وقال شيخ الإسلام بن تيمية في موضع آخر: (الصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة وإن كان من الناس من غير السنة فمن الناس من غير بعض معاني القرآن; إذ لم يتمكن من تغيير لفظه وأيضا: فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن كما خفي عليه بعض السنة; فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب. والله أعلم)(2) انتهى.
ومن فطن لما قلناه كفاه وانتظم له عقد المسألة وأصلها وفرعها فنظر لكلام المفسرين والفقهاء على مر عصورهم واختلاف مذاهبهم بعين الفاهم الناقد البصير.
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية (ج 13/ 23).
(2)
مجموع الفتاوى من مقدمة التفسير (13/ 381).