المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب - كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف

[تركي بلحمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(المبحث الأول)سورة الأحزاب وأول ما نزل من الآيات في مسألة الحجاب وما لحق تفسيرها من تحريف وتصحيف وتبديل

- ‌تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:

- ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

- ‌أول ما نزل في شأن الحجاب:

- ‌آية الحجاب وإجماع المفسرين عليها

- ‌التحريف والتبديل والتصحيف المعاصر لما لحق كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره لآية الإدناء:

- ‌اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:

- ‌الأدلة والنقول على أن (القناع) يأتي بمعني ستر الوجه:

- ‌مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}

- ‌آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدةولها تسلسل ووقائع

- ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تناقض أهل السفور في مسألة غض البصر:

- ‌التبرج انفلات لا يقف عند حد:

- ‌سورة النور والرخصة بجواز أن تبدي المرأة من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه

- ‌سورة النور فصلت ما أُجمل في سورة الأحزاب:

- ‌مصطلح أمن الشهوة ونحوه عند الفقهاء المتقدمين وما أصابه من التحريف والتبديل والتصحيف:

- ‌بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز نظر الخاطب لمخطوبته نوع من تفسيره للآية:

- ‌(المبحث الثالث)أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْها} [النور: 31]

- ‌أقوال الصحابة واختلافهم في تفسير آية: {إلا ما ظهر منها} كان من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

- ‌الجمع بين أقوال الصحابة في الآية:

- ‌ومن تلكم الحالات:

- ‌حالة المرأة الساترة لوجهها واحتاجت لكشف العينين فقط أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لكشف زينة وجهها أو كفيها:

- ‌مقصد الإمام الطبري عند تفسيره للآية:

- ‌حالة احتياج المرأة لتكشف أكثر من الوجه أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لظهور زينتها المكتسبة كالثياب ونحوها:

- ‌فرض لبس الجلباب عند خروج المسلمات الصالحات:

- ‌حالة ظهور زينة المرأة رغما عنها وبغير قصد منها:

- ‌منهج السلف في التفسير:

- ‌منهج الصحابة والتابعين عند تفسيرهم لآية الرخصة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}

- ‌منهج أئمة التفسير والفقه عند تفسيرهم لآية الرخصة:

- ‌(المبحث الرابع)التحريف والتبديل فيما لحق كلام أئمة المذاهب الأربعة في فريضة الحجاب

- ‌اختلاف المذاهب الأربعة في مسألة الحجاب كان من اختلاف التنوع

- ‌المناهج الفقهية للمذاهب الأربعة:

- ‌فريضة الحجاب عند المذاهب الأربعة:

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن الوجه والكفين ليسا من العورة وأن ذلك لم يمنع من قولهم بوجوب ستره لعلة الفتنة والشهوة

- ‌أدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه بأمور منها بما يظهر في صلاتها

- ‌(باب شروط الصلاة):

- ‌اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة

- ‌قول أتباع كل مذهب بقول المذهب الآخر وتعدد الروايات في المذهب الواحد دليل على أن اختلاف المتقدمين في فريضة الحجاب كان من قبيل اختلاف التنوع

- ‌خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في نسبته مذهب السفور للقائلين أن الوجه والكفين ليسا بعورة:

- ‌وبالعكس فمع ذلك قد تجد بعض أئمة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية يقول أن المرأة عورة وذلك لأن الأمر واسع كما قلنا ومثاله:

- ‌وهناك قسم آخر من بعض الأئمة أخذوا يفصلون بنوع آخر وهو أن الوجه والكفين من المرأة عورة، ولكنه في حق من جاز نظره إليها لا يكون بالنسبة لهم من العورة لورود الدليل المبيح في ذلك، وهذا يدلك أن الأمر فيه سعة ولا يترتب عليه في أصل المسألة شيء ومثاله:

- ‌خلاصةأقوال أئمة المذاهب الأربعة في مسألة هل الوجه والكفين عورة أم لا

- ‌سبب ذكرنا لتأصيل المذاهب لمسألة الحجاب:

- ‌(المبحث الخامس)إكمال نقل إجماع المفسرين على أن الآية رخصة وليست تشريعاً لفريضة الحجاب

- ‌فائدة في حكمة التكرار في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}:

- ‌حكمة عدم التحديد في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}:

- ‌لو لم تنزل آية الرخصة

- ‌مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

- ‌تصحيف الشيخ الألباني لكلام الحافظ ابن حجر

- ‌تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجلهن لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور 31]

- ‌(المبحث السادس)خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل

- ‌التمهيد لنزول فريضة الحجاب:

- ‌موقف الصحابة من آيات الحجاب وأمهات المؤمنين:

- ‌طريقة حجاب النساء داخل البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌لماذا ذكرت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات

- ‌طريقة حجاب النساء خارج البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌معنى الخصوصية في حجاب أمهات المؤمنين عند المتقدمين وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف

- ‌الخصوصية الأولىالأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

- ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

- ‌وممن قال أيضاً بالخصوصية من نوع تغليظ الحجاب على أمهات المؤمنين

- ‌الخصوصية الثانيةالأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات

- ‌خلاصة الكلام في خصوصية أمهات المؤمنين

- ‌الأول: أنهن مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة كما هو جائز لغيرهن

- ‌والثاني: أنهن مخصوصات بالحجاب من أبنائهن ومن يحرم النكاح بهم فكن بذلك دون بقية الأمهات ومن يحرم النكاح بهن اللاتي لم يفرض عليهن ذلك

- ‌تناقض أهل السفور واختلافهم في معنى الخصوصية المحدثةوما أوردوه من شبهات بخصوصها

- ‌رد شبهةعن الإمام القاضي عياض

- ‌كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:

- ‌مذهب القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها لمجرد خروجها:

- ‌الشبهة المثارة من أهل السفور عن مالك في جواز مؤاكلة المرأة للرجل

- ‌قول أهل السفور نتيجة حتمية لما هو الحاصل اليوم:

- ‌منهج الإمام ابن حزم الظاهري في مسالة الحجاب وما لحقه من تحريف وتبديل وتصحيف

- ‌نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:

- ‌وقال ابن القيم: - فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة

- ‌معنى الجلابيب عند الإمام ابن حزم موافق لإجماع أهل العلم:

- ‌(المبحث السابع)استدلالات أهل السفور بالسنة على شبهاتهم

- ‌أولاً: حديث الفضل بن عباس ومخالفتهم لفهم السلف له:

- ‌الوجه الأول: في رد هذه الشبهة وهي عدم وجود ما ادعوه أصلا من كشف الوجه في الحديث:

- ‌الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:

- ‌ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين

- ‌ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له

- ‌خطأ الألباني في فهم مراد الإمام البيهقي

- ‌تضعيف البيهقي لحديث أسماء بنت عميس الثاني من طريق ابن لهيعة من"كتاب النكاح

- ‌رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه

- ‌خامسا: ومن أمثلة شبهاتهم الواهية التي ينقلونها:

- ‌ومن أمثلة غرائب استدلالات أهل السفور وشبههم:

- ‌سادساً: استدلالهم لمثل هذا بما جاء في جلباب المرأة للألباني:

- ‌خلاصة شبهات أهل السفور اليوم وبدعة القول أن في تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال سنة ومستحب

- ‌مذهب السلف في مسائل الشبهات:

- ‌(المبحث الثامن)الرخصة الثانية في سورة النور وإجماع أهل العلمقال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّ

- ‌(المبحث التاسع)الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال

- ‌وختاماً:

الفصل: ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

؟ :

من بداية سورة الأحزاب والله عز وجل يمهد لفريضة الحجاب وذلك بعدة أمور، ومن العجيب الذي لا يمكننا أن نلخصه في هذه العجالة أنك ترى في سورة الأحزاب أعظم تمهيد لحدث لم يكن مألوفاً ولا معتاداً على المسلمين، فقد شملت من الترغيب والترهيب وبيان عظمة الله وقدرته والتسليم لأمره وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، وغير ذلك مما جاء لعدة أغراض وأسباب، من ضمنها نزول فريضة الحجاب ولا يمكنني التعبير عن دقة ذلك وعظمته وتدرجه، فأحيل القارئ الكريم لقراءة السورة كاملة، وهي التي حوت فريضة الحجاب وأول ما نزل في شأنها ولا بأس أن نُذكِر ببعض التمهيد العام والخاص في ذلك، فمن التمهيد العام والذي سبق نزول فريضة الحجاب:

أ- عدم طاعة الكافرين والمنافقين والإعراض عن أذاهم:

أن فريضة الحجاب والنقاب وستر النساء لوجوههن عن الرجال لم يكن ذلك بالأمر المألوف أو الهين على المسلمين كونه لم يكن مشروعاً قبل ذلك وكانت نساء الصحابة وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشفن على الرجال، كما دلت على ذلك النصوص العديدة، فلم يكن تغيير ذلك الواقع سهلا بالنسبة لهم ولابد وأن النفوس البشرية ستستصعب ذلك.

كما لا ننسى أعداء الإسلام من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب وكيف أنهم مشهورون بالسخرية والاستهزاء بالمؤمنين، ويحاربون كل

ص: 17

حكم وفريضة إسلامية يأتي بها الله تعالى، لهذا عندما تقرأ بدايات سورة الأحزاب، وإن جاءت لأسباب معينة كما ذكر ذلك بعض أهل التفسير فلا يمنع من أنها مهدت لفريضة الحجاب بأعظم تمهيد وتجهيز لنفوس عباده المؤمنين والمؤمنات لاستقبال أحكام الحجاب وغيره من الأحكام التي لم يكن المجتمع المسلم متعوداً عليها ومن أهمها إلغاء التبني والأمر بفريضة الحجاب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنك لتعلم مدى قوة هذين الأمرين وصعوبتهما على النفوس وخوفها من نظرة الآخرين وكلامهم وانتقاداتهم، وإنك لتعلم مدى رحمة الله بعباده عندما تقرأ في أول سورة الأحزاب تلك البداية العجيبة التي تقشعر منها الجلود وهي قوله تعالى في أول آية منها:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً {2} وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً {3} [الأحزاب].

فالأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لم يوجهه الله للمؤمنين مباشرة وإنما وجهه لأعلى شخصية إسلامية بأن يتقي الله، ويكون القدوة لأتباعه لتنفيذ ما يُوحَي إليه من ربه، في نفسه وأهل بيته وعموم المسلمين، ولا يطيع الكافرين والمنافقين ولو كانت أموراً عظيمة في جانب التوحيد أو التشريع مما لم يألفوها ويتعودوا عليها، فهو العليم الحكيم بما ينفع عباده، وهذا أروع استهلال وأعظم مقدمة تقشعر منها القلوب والجلود وتسلم لها الجوارح على حكمة العليم الحكيم ليهدم

ص: 18

قضية التبني ويُعد المؤمنين لاستقبال فريضة الحجاب والنقاب، وبذلك يجهز النفوس المؤمنة لمجابهة اللمز والغمز والمضايقات من أعداء الدين، فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً {36} [الأحزاب] ولهذا كرر سبحانه وتعالى ما قاله في أول السورة قبل آيات فرض الحجاب في البيوت كما في الآية الثامنة والأربعين فقال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً {48} [الأحزاب].

ثم كررها قبل آية الحجاب خارج البيوت كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {59} لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً {61} سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {62} يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً {63} إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ

ص: 19

وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً {69} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71} [الأحزاب].

وسبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة! فقد تكالب أعداء الإسلام وقاموا بحملة ضد النقاب ومنع المسلمات في كثير من دول العالم من تغطية وجوههن والاقتداء بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء صحابته الكرام وأصدروا تشريعاتهم في ذلك لمحاربته والسخرية منه.

لهذا ستجد أيها القارئ الكريم أن سورة الأحزاب من أولها وحتى آخرها تدور حول إعداد النفوس المسلمة لمواجهة أوامر الله جميعها السابقة أو الجديدة عليهم والتي لم يتعودوها ومنها ما نحن بصدده من الأمر بفريضة الحجاب وغير ذلك بالرضا والتسليم وعدم طاعة الكافرين والمنافقين والمرجفين والإعراض عن أذاهم القولي أو الفعلي والتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً.

ب - مهد الله قبل فرض الحجاب بتذكيرهم بيوم الأحزاب يوم أن نجاهم الله من شر عظيم وفزع كبير، فكان في الأمر للنساء بقرارهن في بيوتهن وسترهن لوجوههن سكينة ووقار وطمأنينة لهن مما لا تحتمله النساء من الشدة والعناء والجهاد والمصاعب:

ص: 20

فقبل أن يفرض الحجاب بدأ بتذكيرهم بنعمته عليهم ورعايته لهم من كيد أعدائهم ومكرهم يوم الأحزاب يوم أن تكالبوا عليهم وبلغت القلوب الحناجر ولم يكن لهم من ملجأ إلا اللهَ {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً {9} [الأحزاب]، وهذا من أعظم الدواعي المحفزة للاعتماد عليه والأخذ بما أمر وشرع، وأنهم حين يتبعون أمره فلا غالب لهم، مهما بلغت قوة أعدائهم.

ج- مهد الله لفريضة الحجاب بتشريف زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات للمؤمنين، ثم أمرُهُ لهن، بعد ذلك بالبعد عن مثيرات الشهوات والحجاب ممن قضى أنهم أبناء لهن، فكن بذلك مخصوصات عن بقية أمهات العالمين بالتحجب من أبنائهن:

وهذا أعظم تمهيد عندما أعلن الله في بدايات السورة تكريمه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم بما أعلى به قدرهن، ورفع به شأنهن، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ

{6} [الأحزاب]، ولهذه البداية حكمة عظيمة قبل فرض الحجاب فبعد هذا التكريم صرن أمهات للمؤمنين، ولهذا أكثر المؤمنون قبل نزول الحجاب من الدخول على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بدون ترتيب أو استئذان حتى كان يدخل عليهن البر والفاجر، كما أخبر أنس، قَالَ:(قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ فَلَوْ أمرتَ أمهات المؤمنين بِالحِجَابِ فأنزل اللَّهُ آية الحِجَابِ) أخرجه البخاري

ص: 21

وغيره، وعمر ما قال ذلك إلا لما أكثر الناس من الدخول على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وشجعهم على ذلك وطمأنهم عليه كونهن أمهاتهم، وهو أولى بهم من أنفسهم كما نصت عليه الآية السادسة من سورة الأحزاب، ولم يكن لأحد بعد هذا أن يمنع أو يحجب الرجال عن الدخول على أمهاتهم إلا بنص قرآني آخر، ولهذا لم يحجبهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه وكان شديد الحياء، فكان عمر رضي الله عنه يحث على ذلك حتى نزلت الآيات، قال الإمام السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول:(قال الحافظ بن حجر (1): يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ولا مانع من تعدد الأسباب، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض إلى بيته بادروه فأخذوا المجالس فلا يعرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبسط يده إلى الطعام استحياء منهم فعوتبوا في ذلك فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً

(1) وقال الحافظ في الفتح عند (قوله باب خروج النساء إلى البراز): (وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}) انتهى. ثم ساق من الأسباب حديث سودة رضي الله عنها عند خروجها، وسيأتي معنا ترتيب ذلك عند كلامنا في (المبحث السادس) عن أقوال أهل العلم في خصوصية أمهات المؤمنين ..

ص: 22

فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً {53} ) (1) انتهى.

فبدأ الله التمهيد لمسائل الحجاب بهن، وكأنه لما أكرمهن بهذا اللقب الرفيع كان ذلك لحكم عديدة بالغة منها: أن كل ما أمرت به الأمهات مع أبنائهن من الرجال فغيرهن من النساء مع الرجال الأجانب أولى وأحرى وأوجب، ثم بعد هذا التشريف وهن الأمهات حثهن على لزوم طاعة الله ورسوله وخيرهن باختبار كبير إن كنَّ يردن الله ورسوله والدار الآخرة أو يردن الدنيا وزينتها، ثم حذرهن من مواطن الريبة والفتنة والفواحش، وأن يكنَّ قدوات لغيرهن من المؤمنات في الخيرات بل من العجب أن بدأ بهن في خطاباته الأولى وهن الطاهرات العفيفات زوجات خير الأنبياء أمهات المؤمنين اللاتي الفتنة منهن وإليهن أبعد عمن سواهن من النساء، وما ذلك إلا ليحرض المؤمنين والمؤمنات على الاقتداء بهن والسير على نهجهن، وقد أمرهن بأبسط الأمور وأدقها، مع جلالة قدرهن وسمو مكانتهن، فنهين عن الخضوع بالقول، وأمرن بالقرار في بيوتهن وعدم الخروج إلا لحاجة ونهين عن تبرج الجاهلية الأولى وأمرن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتبليغ ما أنزل في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وهذا أعظم محفز لغيرهن من النساء أن يشددن الهمة على الامتثال لفريضة الحجاب ونبذ التغريب والمغريات الدنيوية والتبرج والسفور.

(1) لباب النقول في أسباب النزول للإمام السيوطي (1/ 162).

ص: 23

وما بدأ الله بهن- وهن أمهات للمؤمنين - إلا ليمهد وينبه ويُسلي من بعدهن من المؤمنات بعظيم شأن الحجاب وقوة فريضته ويهون على من دونهن أوامره ونواهيه التي جاءت في ذلك.

وصرن بهذا مختصاتٍ بالأمر بالتحجب من أبنائهن، خلافاً لسائر الأمهات اللاتي ليس مفروضاً عليهن ذلك، ولا أريد أن أطيل هنا في مسألة خصوصيتهن وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف من بعض المتأخرين، حتى قيل أن وجوب ستر الوجه مخصوص بأمهات المؤمنين وسنة على غيرهن من النساء، وبدون أن يكون لهم أدنى دليل أو مستند أو قول من أهل العلم في ذلك، إلا أنه عُكِس وبُدل مفهوم الخصوصية التي قصدها المتقدمون، فحورب النقاب لأجل هذا، وأُولت أدلته من الكتاب والسنة حتى عاد غريباً كما بدأ، بسبب فهم مغلوط ومعكوس لكلمة الخصوصية، وبهذا بدَّلوا الفائدة والحكمة التي أرادها الله من خصوصيتهن بالتحجب وهن الأمهات، وسوف نعقد لهذا فصلاً مستقلاً بمشيئة الله تعالى، وما يعنينا هنا، هو أن يُراجع القارئ الكريم السورة، ويتأمل ذكرها لهذا التشريف الكريم وما حوته من آيات مهدت بعده لهذا الحدث العظيم، وهو فريضة الحجاب، وستر النساء لوجوههن عن الرجال.

د - تمهيد سورة الأحزاب لمسائل الحجاب على سبيل الخصوص:

فإن كان هناك تمهيد وإعداد لفريضة الحجاب على سبيل العموم مما ذكرناه من عدم طاعة الكافرين والاعتماد على الله ولزوم أمره، وكذلك تذكيرهم بيوم الأحزاب وهذا فيه إشارة إلى أنه من كان مع الله

ص: 24

وأطاعه في أوامره ونواهيه لا يضره أذى المؤذين وكيد الكائدين، وغير ذلك مما جاء من التمهيد العمومي.

كذلك كان هناك تمهيد وتدرج بخصوصه، حيث نجد أنه نزل قبل فرض الحجاب آيات تنهى زوجات النبي الكريم أمهات المؤمنين عن الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرن أن يقلن للرجال قولاً معروفاً مختصراً لا توسع فيه ولا تبسط، أي لا كما تخاطب المرأة زوجها، ثم جاء الأمر بقرارهن في البيوت وألا يخرجن إلا لحاجة، وألا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وهذا كله إعداد لمسألة الحجاب، حتى جاء أول ما نزل في شأن الحجاب كما أخبر به أنس رضي لله عنه وما تلاها من آيات هي الأولى في فريضة الحجاب.

ص: 25