الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب
؟ :
من بداية سورة الأحزاب والله عز وجل يمهد لفريضة الحجاب وذلك بعدة أمور، ومن العجيب الذي لا يمكننا أن نلخصه في هذه العجالة أنك ترى في سورة الأحزاب أعظم تمهيد لحدث لم يكن مألوفاً ولا معتاداً على المسلمين، فقد شملت من الترغيب والترهيب وبيان عظمة الله وقدرته والتسليم لأمره وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، وغير ذلك مما جاء لعدة أغراض وأسباب، من ضمنها نزول فريضة الحجاب ولا يمكنني التعبير عن دقة ذلك وعظمته وتدرجه، فأحيل القارئ الكريم لقراءة السورة كاملة، وهي التي حوت فريضة الحجاب وأول ما نزل في شأنها ولا بأس أن نُذكِر ببعض التمهيد العام والخاص في ذلك، فمن التمهيد العام والذي سبق نزول فريضة الحجاب:
أ- عدم طاعة الكافرين والمنافقين والإعراض عن أذاهم:
أن فريضة الحجاب والنقاب وستر النساء لوجوههن عن الرجال لم يكن ذلك بالأمر المألوف أو الهين على المسلمين كونه لم يكن مشروعاً قبل ذلك وكانت نساء الصحابة وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشفن على الرجال، كما دلت على ذلك النصوص العديدة، فلم يكن تغيير ذلك الواقع سهلا بالنسبة لهم ولابد وأن النفوس البشرية ستستصعب ذلك.
كما لا ننسى أعداء الإسلام من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب وكيف أنهم مشهورون بالسخرية والاستهزاء بالمؤمنين، ويحاربون كل
حكم وفريضة إسلامية يأتي بها الله تعالى، لهذا عندما تقرأ بدايات سورة الأحزاب، وإن جاءت لأسباب معينة كما ذكر ذلك بعض أهل التفسير فلا يمنع من أنها مهدت لفريضة الحجاب بأعظم تمهيد وتجهيز لنفوس عباده المؤمنين والمؤمنات لاستقبال أحكام الحجاب وغيره من الأحكام التي لم يكن المجتمع المسلم متعوداً عليها ومن أهمها إلغاء التبني والأمر بفريضة الحجاب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنك لتعلم مدى قوة هذين الأمرين وصعوبتهما على النفوس وخوفها من نظرة الآخرين وكلامهم وانتقاداتهم، وإنك لتعلم مدى رحمة الله بعباده عندما تقرأ في أول سورة الأحزاب تلك البداية العجيبة التي تقشعر منها الجلود وهي قوله تعالى في أول آية منها:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً {2} وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً {3} [الأحزاب].
فالأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لم يوجهه الله للمؤمنين مباشرة وإنما وجهه لأعلى شخصية إسلامية بأن يتقي الله، ويكون القدوة لأتباعه لتنفيذ ما يُوحَي إليه من ربه، في نفسه وأهل بيته وعموم المسلمين، ولا يطيع الكافرين والمنافقين ولو كانت أموراً عظيمة في جانب التوحيد أو التشريع مما لم يألفوها ويتعودوا عليها، فهو العليم الحكيم بما ينفع عباده، وهذا أروع استهلال وأعظم مقدمة تقشعر منها القلوب والجلود وتسلم لها الجوارح على حكمة العليم الحكيم ليهدم
قضية التبني ويُعد المؤمنين لاستقبال فريضة الحجاب والنقاب، وبذلك يجهز النفوس المؤمنة لمجابهة اللمز والغمز والمضايقات من أعداء الدين، فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً {36} [الأحزاب] ولهذا كرر سبحانه وتعالى ما قاله في أول السورة قبل آيات فرض الحجاب في البيوت كما في الآية الثامنة والأربعين فقال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً {48} [الأحزاب].
ثم كررها قبل آية الحجاب خارج البيوت كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {59} لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً {61} سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {62} يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً {63} إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً {69} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71} [الأحزاب].
وسبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة! فقد تكالب أعداء الإسلام وقاموا بحملة ضد النقاب ومنع المسلمات في كثير من دول العالم من تغطية وجوههن والاقتداء بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء صحابته الكرام وأصدروا تشريعاتهم في ذلك لمحاربته والسخرية منه.
لهذا ستجد أيها القارئ الكريم أن سورة الأحزاب من أولها وحتى آخرها تدور حول إعداد النفوس المسلمة لمواجهة أوامر الله جميعها السابقة أو الجديدة عليهم والتي لم يتعودوها ومنها ما نحن بصدده من الأمر بفريضة الحجاب وغير ذلك بالرضا والتسليم وعدم طاعة الكافرين والمنافقين والمرجفين والإعراض عن أذاهم القولي أو الفعلي والتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً.
ب - مهد الله قبل فرض الحجاب بتذكيرهم بيوم الأحزاب يوم أن نجاهم الله من شر عظيم وفزع كبير، فكان في الأمر للنساء بقرارهن في بيوتهن وسترهن لوجوههن سكينة ووقار وطمأنينة لهن مما لا تحتمله النساء من الشدة والعناء والجهاد والمصاعب:
فقبل أن يفرض الحجاب بدأ بتذكيرهم بنعمته عليهم ورعايته لهم من كيد أعدائهم ومكرهم يوم الأحزاب يوم أن تكالبوا عليهم وبلغت القلوب الحناجر ولم يكن لهم من ملجأ إلا اللهَ {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً {9} [الأحزاب]، وهذا من أعظم الدواعي المحفزة للاعتماد عليه والأخذ بما أمر وشرع، وأنهم حين يتبعون أمره فلا غالب لهم، مهما بلغت قوة أعدائهم.
ج- مهد الله لفريضة الحجاب بتشريف زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات للمؤمنين، ثم أمرُهُ لهن، بعد ذلك بالبعد عن مثيرات الشهوات والحجاب ممن قضى أنهم أبناء لهن، فكن بذلك مخصوصات عن بقية أمهات العالمين بالتحجب من أبنائهن:
وهذا أعظم تمهيد عندما أعلن الله في بدايات السورة تكريمه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم بما أعلى به قدرهن، ورفع به شأنهن، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
…
{6} [الأحزاب]، ولهذه البداية حكمة عظيمة قبل فرض الحجاب فبعد هذا التكريم صرن أمهات للمؤمنين، ولهذا أكثر المؤمنون قبل نزول الحجاب من الدخول على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بدون ترتيب أو استئذان حتى كان يدخل عليهن البر والفاجر، كما أخبر أنس، قَالَ:(قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ فَلَوْ أمرتَ أمهات المؤمنين بِالحِجَابِ فأنزل اللَّهُ آية الحِجَابِ) أخرجه البخاري
وغيره، وعمر ما قال ذلك إلا لما أكثر الناس من الدخول على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وشجعهم على ذلك وطمأنهم عليه كونهن أمهاتهم، وهو أولى بهم من أنفسهم كما نصت عليه الآية السادسة من سورة الأحزاب، ولم يكن لأحد بعد هذا أن يمنع أو يحجب الرجال عن الدخول على أمهاتهم إلا بنص قرآني آخر، ولهذا لم يحجبهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه وكان شديد الحياء، فكان عمر رضي الله عنه يحث على ذلك حتى نزلت الآيات، قال الإمام السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول:(قال الحافظ بن حجر (1): يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ولا مانع من تعدد الأسباب، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض إلى بيته بادروه فأخذوا المجالس فلا يعرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبسط يده إلى الطعام استحياء منهم فعوتبوا في ذلك فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً
(1) وقال الحافظ في الفتح عند (قوله باب خروج النساء إلى البراز): (وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}) انتهى. ثم ساق من الأسباب حديث سودة رضي الله عنها عند خروجها، وسيأتي معنا ترتيب ذلك عند كلامنا في (المبحث السادس) عن أقوال أهل العلم في خصوصية أمهات المؤمنين ..
فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً {53} ) (1) انتهى.
فبدأ الله التمهيد لمسائل الحجاب بهن، وكأنه لما أكرمهن بهذا اللقب الرفيع كان ذلك لحكم عديدة بالغة منها: أن كل ما أمرت به الأمهات مع أبنائهن من الرجال فغيرهن من النساء مع الرجال الأجانب أولى وأحرى وأوجب، ثم بعد هذا التشريف وهن الأمهات حثهن على لزوم طاعة الله ورسوله وخيرهن باختبار كبير إن كنَّ يردن الله ورسوله والدار الآخرة أو يردن الدنيا وزينتها، ثم حذرهن من مواطن الريبة والفتنة والفواحش، وأن يكنَّ قدوات لغيرهن من المؤمنات في الخيرات بل من العجب أن بدأ بهن في خطاباته الأولى وهن الطاهرات العفيفات زوجات خير الأنبياء أمهات المؤمنين اللاتي الفتنة منهن وإليهن أبعد عمن سواهن من النساء، وما ذلك إلا ليحرض المؤمنين والمؤمنات على الاقتداء بهن والسير على نهجهن، وقد أمرهن بأبسط الأمور وأدقها، مع جلالة قدرهن وسمو مكانتهن، فنهين عن الخضوع بالقول، وأمرن بالقرار في بيوتهن وعدم الخروج إلا لحاجة ونهين عن تبرج الجاهلية الأولى وأمرن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتبليغ ما أنزل في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وهذا أعظم محفز لغيرهن من النساء أن يشددن الهمة على الامتثال لفريضة الحجاب ونبذ التغريب والمغريات الدنيوية والتبرج والسفور.
(1) لباب النقول في أسباب النزول للإمام السيوطي (1/ 162).
وما بدأ الله بهن- وهن أمهات للمؤمنين - إلا ليمهد وينبه ويُسلي من بعدهن من المؤمنات بعظيم شأن الحجاب وقوة فريضته ويهون على من دونهن أوامره ونواهيه التي جاءت في ذلك.
وصرن بهذا مختصاتٍ بالأمر بالتحجب من أبنائهن، خلافاً لسائر الأمهات اللاتي ليس مفروضاً عليهن ذلك، ولا أريد أن أطيل هنا في مسألة خصوصيتهن وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف من بعض المتأخرين، حتى قيل أن وجوب ستر الوجه مخصوص بأمهات المؤمنين وسنة على غيرهن من النساء، وبدون أن يكون لهم أدنى دليل أو مستند أو قول من أهل العلم في ذلك، إلا أنه عُكِس وبُدل مفهوم الخصوصية التي قصدها المتقدمون، فحورب النقاب لأجل هذا، وأُولت أدلته من الكتاب والسنة حتى عاد غريباً كما بدأ، بسبب فهم مغلوط ومعكوس لكلمة الخصوصية، وبهذا بدَّلوا الفائدة والحكمة التي أرادها الله من خصوصيتهن بالتحجب وهن الأمهات، وسوف نعقد لهذا فصلاً مستقلاً بمشيئة الله تعالى، وما يعنينا هنا، هو أن يُراجع القارئ الكريم السورة، ويتأمل ذكرها لهذا التشريف الكريم وما حوته من آيات مهدت بعده لهذا الحدث العظيم، وهو فريضة الحجاب، وستر النساء لوجوههن عن الرجال.
د - تمهيد سورة الأحزاب لمسائل الحجاب على سبيل الخصوص:
فإن كان هناك تمهيد وإعداد لفريضة الحجاب على سبيل العموم مما ذكرناه من عدم طاعة الكافرين والاعتماد على الله ولزوم أمره، وكذلك تذكيرهم بيوم الأحزاب وهذا فيه إشارة إلى أنه من كان مع الله
وأطاعه في أوامره ونواهيه لا يضره أذى المؤذين وكيد الكائدين، وغير ذلك مما جاء من التمهيد العمومي.
كذلك كان هناك تمهيد وتدرج بخصوصه، حيث نجد أنه نزل قبل فرض الحجاب آيات تنهى زوجات النبي الكريم أمهات المؤمنين عن الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرن أن يقلن للرجال قولاً معروفاً مختصراً لا توسع فيه ولا تبسط، أي لا كما تخاطب المرأة زوجها، ثم جاء الأمر بقرارهن في البيوت وألا يخرجن إلا لحاجة، وألا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وهذا كله إعداد لمسألة الحجاب، حتى جاء أول ما نزل في شأن الحجاب كما أخبر به أنس رضي لله عنه وما تلاها من آيات هي الأولى في فريضة الحجاب.