الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول ما نزل في شأن الحجاب:
كل ما سبق وغيره مقدمات قبل فرض الحجاب حتى نزلت أول آية في شأن الحجاب كما أخبر بذلك أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بشأن الحجاب قال: (وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله بزينب بنت جحش - إلى أن قال - فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي بيني وبينه بالستر - وفي رواية - فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الحجاب فخرج رسول الله وقرأهن على الناس:{يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} إلى قوله: {من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] متفق عليه.
وهذه الآية في بداية التحجب وذلك بمنع دخول الرجال على النساء جميعاً وعلى هذا جميع المفسرين كما سيأتي في مبحث الخصوصية إن شاء الله فإن كان هذا في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن في حكم الأمهات كما نصت عليه الآية السادسة من نفس سورة الأحزاب فغيرهن من النساء اللاتي لسن بأمهات ولا محارم للمؤمنين من باب أولى.
وكون الصحابة عاصروا نزول القرآن لم يختلط عليهم مثل هذا الأمر في أن كل ما أمرت به أمهاتهم بعد ذلك، من التصون والحجاب عن من هم في حكم الأبناء لهنَّ، كان بديهياً أن يُفهم منه حينها دخول نساء المؤمنين في ذلك الأمر وهن لسن بأمهات ولا محارم لأولئك الرجال، وقد أوضحنا سبب ذكر الآية لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات؛ لأن
الدخول قبل نزول الحجاب كان بكثرة في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لمكانته ومكانة زوجاته بنص أول الآيات في سورة الأحزاب، كما أنه لو جاء الأمر للمؤمنين بمنع الدخول على بيوت بعضهم البعض، لبقي الأمر على حاله في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ولما امتنع أحد من الدخول معتقدين أن الآية لا تعنيهم، وهم في حكم الأبناء مع أمهاتهم، لقوله تعالى بعد تلك الآية:{لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ .. {55} [الأحزاب].
ولهذا جاء بذكر بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات حتى يشمل الأمر بالحجاب أمهات المؤمنين.
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: (وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: {وأزواجه أمهاتهم} مع قوله: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب؟ والجواب ما ذكرناه الآن فهن أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام لا في الخلوة بهن ولا في حرمة بناتهن ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى) انتهى.
ولهذا فصار بعد التمهيد ونزول آيات الحجاب من المؤكد للجميع أن أمومة أمهات المؤمنين التي جاءت في بدايات السورة ليست كالأمومة الحقيقية من كل وجه، وإنما كما قال الإمام الشافعي:(في معنى دون معنى)(1).
(1) انظر كتاب "الأم" للإمام الشافعي (5/ 151) وسيأتي معنا نقل الإمام البيهقي له في مبحث الخصوصية (صـ 396).
قال الإمام البيضاوي في تفسيره: (وأزواجه أمهاتهم منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات) انتهى.
وقال في تفسير المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: (قال الفقيه الإمام القاضي: وشرَّف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات) انتهى.
وسيأتي معنا الكثير من نقولات أهل العلم بمشيئة الله تعالى في المبحث المستقل بخصوصية أمهات المؤمنين.
فالمقصود أن الله لم يُرد أن يختص أمهات المؤمنين بترك الحجاب بل اختصهم بالحجاب وهن الأمهات وجعلهن كبقية النساء فكن مخصوصات حيث لم تؤمر سائر أمهات العالمين بالحجاب من أبنائهن كما أمرت به أمهات المؤمنين، فكان فيه أبلغ وأعظم استشعار بأهمية فريضة الحجاب.
وهذا المنع من الدخول للبيوت كان بشكل إجمالي ثم جاء في سورة النور- المتأخرة عنها - وفصَّل وزاد في عدد الأصناف المسموح لهم بالدخول على النساء وبين أحكام الدخول وآدابه وطرق الاستئذان سواء للأجانب أوالأطفال بما لم يذكره هنا في الأحزاب.
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وأنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي،
وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت:{يا أيها الذين أمنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنسُوا} [النور: 27].
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره للآية السابقة من قوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً {55} [الأحزاب]: (لما أمر تعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور، عند قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} إلى آخرها، [النور: 31] وفيها زيادات على هذه) انتهى كلامه يرحمه الله.
وهكذا في الآيات التي بعدها - من سورة الأحزاب - في الأمر بالحجاب حال خروجهن من البيوت بدأ الله أيضا بأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ويسترن كامل زينتهن بما في ذلك وجوههن.
ثم في سورة النور فصل سبحانه وتعالى فبعد أن أكد الأمر السابق {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، استثني فرخص بإبداء الزينة في حالات الحاجة والضرورة بقوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
ولهذا جاء من أقوال السلف أنها الوجه والكفان، وجاء غير ذلك كثير أيضا، وإنما اشتهر ذلك كونهما الغالب مما تحتاج المرأة وتضطر لكشفه، فالآية لم تحدد ذلك، وإلا فقد تمرض المرأة وتحتاج إظهار أكثر من ذلك، وقد تحتاج إظهار أقل من ذلك من زينتها ككفها فقط، لهذا قالوا الخاتم، أو عينيها من خلف البرقع تبصر به الطريق وتتفحص بها الأشياء، لهذا قالوا الكحل، ونحو ذلك (1).
ثم جاء أيضا بعدها بالرخصة {وَالْقواعد مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيم} [النور: 60].
فكان ما في سورة النور تفصيل وتوضيح لما أجمل في سورة الأحزاب.
(1) وسيأتي معنا بمشيئة الله تعالى تفصيل تلك الأحوال من أقوال الصحابة والسلف عند تفسير الآية في (المبحث الثالث).