المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه - كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف

[تركي بلحمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(المبحث الأول)سورة الأحزاب وأول ما نزل من الآيات في مسألة الحجاب وما لحق تفسيرها من تحريف وتصحيف وتبديل

- ‌تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:

- ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

- ‌أول ما نزل في شأن الحجاب:

- ‌آية الحجاب وإجماع المفسرين عليها

- ‌التحريف والتبديل والتصحيف المعاصر لما لحق كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره لآية الإدناء:

- ‌اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:

- ‌الأدلة والنقول على أن (القناع) يأتي بمعني ستر الوجه:

- ‌مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}

- ‌آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدةولها تسلسل ووقائع

- ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تناقض أهل السفور في مسألة غض البصر:

- ‌التبرج انفلات لا يقف عند حد:

- ‌سورة النور والرخصة بجواز أن تبدي المرأة من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه

- ‌سورة النور فصلت ما أُجمل في سورة الأحزاب:

- ‌مصطلح أمن الشهوة ونحوه عند الفقهاء المتقدمين وما أصابه من التحريف والتبديل والتصحيف:

- ‌بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز نظر الخاطب لمخطوبته نوع من تفسيره للآية:

- ‌(المبحث الثالث)أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْها} [النور: 31]

- ‌أقوال الصحابة واختلافهم في تفسير آية: {إلا ما ظهر منها} كان من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

- ‌الجمع بين أقوال الصحابة في الآية:

- ‌ومن تلكم الحالات:

- ‌حالة المرأة الساترة لوجهها واحتاجت لكشف العينين فقط أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لكشف زينة وجهها أو كفيها:

- ‌مقصد الإمام الطبري عند تفسيره للآية:

- ‌حالة احتياج المرأة لتكشف أكثر من الوجه أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لظهور زينتها المكتسبة كالثياب ونحوها:

- ‌فرض لبس الجلباب عند خروج المسلمات الصالحات:

- ‌حالة ظهور زينة المرأة رغما عنها وبغير قصد منها:

- ‌منهج السلف في التفسير:

- ‌منهج الصحابة والتابعين عند تفسيرهم لآية الرخصة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}

- ‌منهج أئمة التفسير والفقه عند تفسيرهم لآية الرخصة:

- ‌(المبحث الرابع)التحريف والتبديل فيما لحق كلام أئمة المذاهب الأربعة في فريضة الحجاب

- ‌اختلاف المذاهب الأربعة في مسألة الحجاب كان من اختلاف التنوع

- ‌المناهج الفقهية للمذاهب الأربعة:

- ‌فريضة الحجاب عند المذاهب الأربعة:

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن الوجه والكفين ليسا من العورة وأن ذلك لم يمنع من قولهم بوجوب ستره لعلة الفتنة والشهوة

- ‌أدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه بأمور منها بما يظهر في صلاتها

- ‌(باب شروط الصلاة):

- ‌اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة

- ‌قول أتباع كل مذهب بقول المذهب الآخر وتعدد الروايات في المذهب الواحد دليل على أن اختلاف المتقدمين في فريضة الحجاب كان من قبيل اختلاف التنوع

- ‌خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في نسبته مذهب السفور للقائلين أن الوجه والكفين ليسا بعورة:

- ‌وبالعكس فمع ذلك قد تجد بعض أئمة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية يقول أن المرأة عورة وذلك لأن الأمر واسع كما قلنا ومثاله:

- ‌وهناك قسم آخر من بعض الأئمة أخذوا يفصلون بنوع آخر وهو أن الوجه والكفين من المرأة عورة، ولكنه في حق من جاز نظره إليها لا يكون بالنسبة لهم من العورة لورود الدليل المبيح في ذلك، وهذا يدلك أن الأمر فيه سعة ولا يترتب عليه في أصل المسألة شيء ومثاله:

- ‌خلاصةأقوال أئمة المذاهب الأربعة في مسألة هل الوجه والكفين عورة أم لا

- ‌سبب ذكرنا لتأصيل المذاهب لمسألة الحجاب:

- ‌(المبحث الخامس)إكمال نقل إجماع المفسرين على أن الآية رخصة وليست تشريعاً لفريضة الحجاب

- ‌فائدة في حكمة التكرار في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}:

- ‌حكمة عدم التحديد في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}:

- ‌لو لم تنزل آية الرخصة

- ‌مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

- ‌تصحيف الشيخ الألباني لكلام الحافظ ابن حجر

- ‌تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجلهن لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور 31]

- ‌(المبحث السادس)خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل

- ‌التمهيد لنزول فريضة الحجاب:

- ‌موقف الصحابة من آيات الحجاب وأمهات المؤمنين:

- ‌طريقة حجاب النساء داخل البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌لماذا ذكرت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات

- ‌طريقة حجاب النساء خارج البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌معنى الخصوصية في حجاب أمهات المؤمنين عند المتقدمين وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف

- ‌الخصوصية الأولىالأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

- ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

- ‌وممن قال أيضاً بالخصوصية من نوع تغليظ الحجاب على أمهات المؤمنين

- ‌الخصوصية الثانيةالأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات

- ‌خلاصة الكلام في خصوصية أمهات المؤمنين

- ‌الأول: أنهن مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة كما هو جائز لغيرهن

- ‌والثاني: أنهن مخصوصات بالحجاب من أبنائهن ومن يحرم النكاح بهم فكن بذلك دون بقية الأمهات ومن يحرم النكاح بهن اللاتي لم يفرض عليهن ذلك

- ‌تناقض أهل السفور واختلافهم في معنى الخصوصية المحدثةوما أوردوه من شبهات بخصوصها

- ‌رد شبهةعن الإمام القاضي عياض

- ‌كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:

- ‌مذهب القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها لمجرد خروجها:

- ‌الشبهة المثارة من أهل السفور عن مالك في جواز مؤاكلة المرأة للرجل

- ‌قول أهل السفور نتيجة حتمية لما هو الحاصل اليوم:

- ‌منهج الإمام ابن حزم الظاهري في مسالة الحجاب وما لحقه من تحريف وتبديل وتصحيف

- ‌نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:

- ‌وقال ابن القيم: - فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة

- ‌معنى الجلابيب عند الإمام ابن حزم موافق لإجماع أهل العلم:

- ‌(المبحث السابع)استدلالات أهل السفور بالسنة على شبهاتهم

- ‌أولاً: حديث الفضل بن عباس ومخالفتهم لفهم السلف له:

- ‌الوجه الأول: في رد هذه الشبهة وهي عدم وجود ما ادعوه أصلا من كشف الوجه في الحديث:

- ‌الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:

- ‌ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين

- ‌ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له

- ‌خطأ الألباني في فهم مراد الإمام البيهقي

- ‌تضعيف البيهقي لحديث أسماء بنت عميس الثاني من طريق ابن لهيعة من"كتاب النكاح

- ‌رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه

- ‌خامسا: ومن أمثلة شبهاتهم الواهية التي ينقلونها:

- ‌ومن أمثلة غرائب استدلالات أهل السفور وشبههم:

- ‌سادساً: استدلالهم لمثل هذا بما جاء في جلباب المرأة للألباني:

- ‌خلاصة شبهات أهل السفور اليوم وبدعة القول أن في تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال سنة ومستحب

- ‌مذهب السلف في مسائل الشبهات:

- ‌(المبحث الثامن)الرخصة الثانية في سورة النور وإجماع أهل العلمقال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّ

- ‌(المبحث التاسع)الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال

- ‌وختاماً:

الفصل: ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

ولهذا جاء بعد الإذن بالرخصة التنبيه والحرص على عدم الفهم من إباحة إظهار الزينة عند الحاجة والضرورة أن يتساهل النساء والرجال في إظهار المرأة لزينتها فجاء بأمر جديد يدعوهن فيه للحرص على ستر بعض الأماكن بالذات من زينتها فقال تعالى بعدها: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31].

والغريب أن بعض أهل السفور أخذ يبحث في هذه الآية عن الأمر بتغطية المرأة لوجهها ويقول ليس فيها شيء عن تغطية المرأة لوجهها وإنما هو مجرد أمر بستر الجيوب؟ وسبحان الله ما كفاهم آية الإدناء فلم يبصروا ما فيها من أقوال للمفسرين وأئمة أهل الإسلام مع كثرتها وصراحة قولهم فيها على الأمر بستر المرأة لوجهها وتحريم كشفه، وما كفاهم ما في سورة النور من قوله تعالى:{ولايبدين زينتهن} والنهي هنا جاء تأكيد على الأمر السابق في الأمر بالإدناء وعام في النهي عن إبداء أي زينة منها {إلا ما ظهر منها} في حال الضرورة، وكذلك جاء النهي الثاني {ولايبدين زينتهن إلا لبعولتهن

} [النور: 31]، وهو تأكيد ثالث أعقبه استثناء لأصناف محدودين جداً فقط، فهل الأجانب منهم، وهذا في أحوالها العادية، فدل أن ما سواهم لا يجوز أن تبدي لهم

ص: 317

زينتها، بل وآية القواعد دليل آخر كما سيأتي في أن غيرهن من الشابات مأمورات بستر وجوههن.

وأحاديث ستر الوجه والتي يثبتونها ثم يصرفونها للسنة والمستحب بدون أن يكون لهم سلف، وما بحثهم عن أدلة فرض ستر المرأة لوجهها بعد هذا كله إلا كقول القائل:

كالعِيس في البيداء يقتلها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

ومع ذلك فقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} جاءت للتنبيه على مواضع معينة كما ذكر أهل التفسير في سبب نزولها كما قال النسفي رحمه الله: ({بِخُمرهنَّ} جمع خمار {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} بضم الجيم: مدني وبصري وعاصم. كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن وما حواليها وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى تغطيها)(1) انتهى.

وإن لم يكن فيها الدلالة ظاهرة على ستر الوجه كغيرها من بقية الآيات والأحاديث، إلا أنه لا يمنع من وجود معنى قوي لتستر به المرأة وجهها، ولا مانع من ذلك أبداً، لأن الخمار في الرأس ويلتف حوله ويمكن أن يستخدم طرفه وذيله لو كان واسعا ليستر الوجه بالسدل والإرخاء أو بالتقنع والنقاب واللثام ونحوه كما قاله أهل اللغة:

(1) تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (ت: 710 هـ).

ص: 318

قال في لسان العرب عند (سدل): (وفي حديث عائشة أنها سدلت طرف قناعها على وجهها وهي محرمة أي أسبلته) انتهى.

وقال أيضا في (ذ ي ل) الذيل: آخر كل شيء كما في المحكم قال شيخنا: هذا هو الحقيقي وما بعده مجاز. والذيل من الإزار والثوب: ما جر منه إذا أسبل. زاد الصاغاني: فأصاب الأرض من ثوبها من نواحيها كلها قال: ولا ندعو للرجل ذيلا، فإن كان طويل الثوب فذلك الإرفال في القميص والجبة، والذيل في درع المرأة أو قناعها إذا أرخت شيئاً منهما) انتهى.

وسبق معنا المزيد عند كلامنا على القناع في بداية نقلنا لكلام الإمام الطبري عند تفسيره لآية الإدناء فليراجع هناك (1)، فما المانع أن يأتي الخمار يستر الرأس ويستر الوجه ويستر الجيوب وغير ذلك وهذا هو الصحيح فليس هو مقتصرا على الرأس فقط، بدليل أنه هنا لم يقتصر على ستر الرأس كما يقوله أهل السفور بل ورد الأمر بالضرب به على الجيوب بنص الآية وهي غير الرأس فلماذا إذا لما أتى ليستر الوجه منعوه وحجروا واسعا؟ فيمكن أن تستخدمه المرأة لو شاءت لستر وجهها وشعرها وصدرها وعنقها في آن واحد، ويمكن في حالة رغبتها بستر وجهها بالنقاب أو البرقع أن تكتفي بجعل الخمار يستر الرأس والعنق والصدر، والنقاب والبرقع للوجه خاصة، فالأمر واسع وهذه أقمشة لها عدة استخدامات ومعاني اللغة واسعة وتسمح بذلك؛ لأن

(1) راجع صفحة (34 - 53).

ص: 319

المقصد هو حصول أمر الشارع وهو ستر الوجه وتخميره والمقصد أن كل أنواع الستر جائزة كما لو بالبرقع أو بالجلباب أو نحو ذلك فالتخمير يأتي بمعنى الستر فلا مانع أن يستر الوجه، ولا شك أن الخمار هنا أخص في معنى ستر رأس المرأة، ولهذا كان مقصد الشارع من الآية هو التنبيه على هذه المنطقة بالذات وما حولها، ولكن أدلة كثيرة ذكرت لفظ التخمير وأنه يستر الوجه غير ما ذكرناه آنفا وأكثر من أن تحصى في اللغة والأحاديث وكتب أهل العلم وكلام العرب:

1 -

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة حادثة الإفك (فخمرت وجهي بجلبابي) متفق عليه.

2 -

أخرج الإمام مالك في الموطأ "باب تخمير المحرم وجهه"

عن فاطمة بنت المنذر التابعية الجليلة أنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق)(1)، وأسماء بنت أبي بكر الصديق تكون جدتها صحابية جليلة، وهما ليستا من أمهات المؤمنين.

3 -

قال العباس في معاهد التنصيص على شواهد التلخيص: (والخمار بالكسر النصيف، وهو ما ستر الرأس، وكل ما ستر شيئا فهو خمار)(2).

(1) والحديث جمع شروط الصحة قال الألباني: وهذا إسناد صحيح الإرواء (1023).

(2)

معاهد التنصيص على شواهد التلخيص (1/ 384).

ص: 320

4 -

وقال في غريب الحديث للخطابي: (ولهذا المعنى سميت الخمر وذلك لأنها تخمر في إنائها أي تغطى ويقال إنما سميت خمرا لأنها تخمر عقل شاربها أي تستره وتغطيه)(1) انتهى.

5 -

قال في معجم الأفعال المتعدية بحرف: (رجع)(وترجع في صدري كذا تردد وارتجعت المرأة جلبابها ردته على وجهها وتجللت به وارتجع على الغريم طالبه واسترجع منه الشيء طلب منه رجوعه)(2) انتهى.

6 -

قال ابن عادل في تفسيره اللباب: {يسألونك عن الخمر والميسر} أنها سميت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها) انتهى.

7 -

ونقل صاحب عون المعبود في - باب الصلاة على الخُمرة - قول الإمام الخطابي: (هي سجادة يسجد عليها المصلي ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخمرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث. قال: ففي هذا تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه قال وسميت خمرة لأنها تغطى الوجه) انتهى.

8 -

قال القرطبي: (والخمر مأخوذة من خمر، إذا ستر، ومن خمار المرأة لأنه يستر وجهها. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره. ومنه: خمروا آنيتكم أي: غطوها) انتهى

(1) غريب الحديث للخطابي (2/ 313).

(2)

معجم الأفعال المتعدية بحرف، لموسى بن محمد الأحمدي (1/ 72).

ص: 321

9 -

وقال في كتاب - مراقي الفلاح - (وتزاد المرأة) على ما ذكرناه للرجل (في) كفنها على جهة (السنة خمارا لوجهها) ورأسها) (1) انتهى.

10 -

وقال الإمام الصنعاني في سبل السلام شرح بلوغ المرام من كتاب الحج عند شرحه لحديث «ما يلبس المحرم من الثياب» : (فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب) انتهى.

11 -

وقال الإمام الشافعي في الأم: كتاب الحج «باب ما تلبس المرأة من الثياب» (ولا أحب لها أن تلبس نعلين وتفارق المرأة الرجل فيكون إحرامها في وجهها وإحرام الرجل في رأسه فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخى جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافياً كالستر على وجهها ولا يكون لها أن تنتقب، أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: تدلى عليها من جلبابها ولا تضرب به قلت: وما لا تضرب به فأشار إلى كما تجلبب المرأة ثم أشار إلى ما علي خدها من الجلباب فقال: لا تغطيه فتضرب به على وجهها فذلك الذي يبقى عليها ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولاً ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه. أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه قال: لتدلِ المرأة المحرمة ثوبها على وجهها ولا تنتقب. قال الشافعي: ولا ترفع

(1) مراقي الفلاح (1/ 225).

ص: 322

الثوب من أسفل إلى فوق ولا تغطى جبهتها ولا شيئا من وجهها إلا مالا يستمسك الخمار إلا عليه مما يلي قصاص شعرها من وجهها مما يثبت الخمار ويستر الشعر لأن الخمار لو وضع على قصاص الشعر فقط انكشف الشعر، ويكون لها الاختمار ولا يكون للرجل التعميم) انتهى.

12 -

وقال الشافعي في الأم أيضاً عن المحرمة: (وتلبس المرأة الخمار والخفين ولا تقطعهما والسراويل من غير ضرورة والدرع والقميص والقباء وحرمها من لبسها في وجهها فلا تخمر وجهها وتخمر رأسها، فإن خمرت وجهها عامدة افتدت (1) وإن خمر المحرم رأسه عامدا افتدى وله أن يخمر وجهه وللمرأة أن تجافى الثوب عن وجهها تستتر به وتجافي (2) الخمار ثم تسدله على وجهها لا يمس وجهها) (3) انتهى.

13 -

قال الشوكاني في نيل الأوطار - باب ما يتخذ منه الخمر وأن كل مسكر حرام - (لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمراً فقال ابن الأنباري: لأنها تخامر العقل أي تخالطه وقيل لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية وقيل سميت خمراً لأنها تخمر أي تترك كما يقال خمرت العجين أي تركته ولا مانع

(1) وتفتدي عند بعضهم إذا غطته ولم يكن هناك رجال بمعنى غطته لا تريد ستراً عن أعين الرجال، كما مر معنا سابقا كما قاله ابن عبد البر وابن المنذر وغيرهما.

(2)

تجافيه حتى لا تضرب به ولا تعطفه على وجهها كما في التبرقع واللثام والقناع.

(3)

كتاب الأم للشافعي (2/ 222).

ص: 323

من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمر) انتهى.

ولا أريد أن أطيل، فهل هؤلاء الأئمة ما كانوا يعرفون أن الخمار لا يستر الوجه كما يقوله أهل السفور اليوم؟ .

وهم قالوا الخمار لا يعني ولا يأتي لستر الوجه كلفظة التقنع عندما قالوا: (أنها لا تأتي لستر الوجه وإلا لما رأى المقاتل الطريق فضلا عن القتال) ولهذا أخطؤوا خطأ كبيرا جدا هنا أيضا عندما قالوا أن الخمار لا يعنى أو لا يأتي بمعنى ستر الوجه! هذا عجيب والله. ولهذا وقعوا في إشكالات أكبر عندما ردوا الحق والصواب في المسألة.

قال الشيخ الألباني رحمه الله في رده المفحم:

(البحث الرابع: الخمار والاعتجار قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}. ذكرنا فيما يأتي من الكتاب (ص 72)(1) أن الخمار: غطاء الرأس فقط دون الوجه، واستشهدت على ذلك بكلام بعض العلماء: كابن الأثير وابن كثير، فأبى ذلك الشيخ التويجري- ومن تبعه من المذهبيين والمقلدين- وأصر على أنه يشمل الوجه أيضا، وكرر ذلك في غير موضع، وتشبّث في ذلك ببعض الأقوال التي لا تعدو أن تكون من باب زلة عالم، أو سبق قلم (2)، أو في أحسن الأحوال تفسير مراد وليس تفسير لفظ، مما لا ينبغي الاعتماد عليه في محل النزاع

(1) يقصد كتابه جلباب المرأة.

(2)

يقصد قول الإمام الحافظ ابن حجر كما سيأتي معنا قريباً.

ص: 324

والخلاف، وفي الوقت نفسه أعرض عن الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء والأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين المخالفة له وبعضها مما جاء في كتابه هو نفسه، ولكنه مر عليها وكتم دلالتها مع الأسف الشديد

وهذا كله يدل على أن هؤلاء الأفاضل من علماء السلف والخلف يرون أن الخمار لا يستر الوجه، وإنما الرأس فقط كما هو قولنا ومن يتأمل في بعض أجوبة الشيخ (1) التكلفة يتأكد من أنه يرى ذلك معنا، ولكنه يجادل ويكابر ويتكتم

وأما مخالفته للسنة فهي كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .

فهل يقول الشيخ بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة؟ !

ومن ذلك قول العلامة الزبيدي في" شرح القاموس"(3/ 189) في قول أم سلمة رضي الله عنهما: إنها كانت تمسح على الخمار. أخرجه ابن أبي شبيبة في " المصنف"(1/ 22): " وأرادت بـ (الخمار): العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطيه بخمارها". وكذا في " لسان العرب".

وفي "المعجم الوسيط" - تأليف لجنة من العلماء تحت إشراف" مجمع اللغة العربية" - ما نصه: " الخمار: كل ما ستر ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها، ومنه العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه، ويديرها تحت الحنك".

(1) يقصد بقوله: (الشيخ) الشيخ حمود التويجري رحمة الله تعالى.

ص: 325

فهذه نصوص صريحة من هؤلاء العلماء على أن الخمار بالنسبة للمرأة كالعمامة بالنسبة للرجل، فكما أن العمامة عند إطلاقها لا تعني تغطية وجه الرجل، فكذلك الخمار عند إطلاقه لا يعني تغطية وجه المرأة به) انتهى كلامه.

- ثم بعد أن ساق الشيخ الألباني أقوال بعض أهل اللغة في معنى أنه يستر الرأس قال رحمه الله: -

(وعلى هذا جرى العلماء على اختلاف اختصاصاتهم من: المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، واللغويين، وغيرهم، سلفاً وخلفاً، وقد تيسر لي الوقوف على كلمات أكثر من أربعين واحداً منهم، ذكرت نصوصها في البحث المشار إليه في المقدمة، وقد أجمعت كلها على ذكر الرأس دون الوجه في تعريفهم للخمار، أفهؤلاء الأساطين- أيها الشيخ! - مخطئون وهم القوم لا يشقى متبعهم- وأنت المصيب؟ ! ) انتهى إلخ كلام الشيخ الألباني وهجومه على من قال أن الخمار يأتي لستر الوجه أيضاً.

أمر عجيب من الشيخ الألباني:

والعجيب أن الشيخ الألباني في كتابه "السلسلة الصحيحة" صحح:

14 -

حديث تخمير الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه لوجهه (كان يخمر وجهه وهو محرم)(1)، ثم ذكر بعده.

15 -

حديث مسلم بزيادة لفظ الوجه: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) كما أخرجها مسلم عن ابن عباس (أن رجلا أوقصته راحلته وهو محرم

(1) السلسلة الصحيحة (6/ 941) برقم (2899).

ص: 326

فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وهو مذكور في عدة مواضع من كتب الشيخ الألباني رحمه الله كما في "الإرواء" وكما في كتابه "تلخيص أحكام الجنائز" وكذلك أيضا في كتابه "صحيح وضعيف سنن ابن ماجة" وغيرها من كتبه، وفيها كلها ذِكره للحديثين وبلفط الخمار لوجه الرجل، فكيف يقول أن معنى الخمار لا يغطي الوجه وقد أمكن وكان يغطي وجه الرجل فسبحان الله؟ .

أقول ولم يتفرد مسلم بلفظ (وجهه) بل أخرجه النسائي بلفظ - باب تخمير المحرم وجهه ورأسه- والشافعي والطبراني في المعجم الكبير وبأسانيد وروايات كثيرة والبيهقي ومسند الحميدي، وبمثل هذا تستغرب أن الشيخ ينفي كل ما تقدم ومما سطره هو بنفسه.

بل أعجب العجب أن الشيخ الألباني دافع وبقوة لإثبات لفظة تخمير الوجه التي عند مسلم (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) وكان مع من أثبتها من المتقدمين رادين على الإمام البيهقي قوله في ذلك فقال في إرواء الغليل: (أخرجه مسلم وابن عوانة والبيهقي تعليقاً وقال: «وذكر الوجه فيه غريب ورواية الجماعة الذين لم يشكوا وساقوا المتن أحسن سياقة أولى بأن تكون محفوظة» . - قال الألباني- ويرد عليه ما سبق من الطرق والمتابعات التي لا شك فيها أصلا، ولهذا تعقبه ابن التركماني بقوله:"قلت: قد صح النهي عن تغطيتهما فجمعهما بعضهم، وأفرد بعضهم الرأس، وبعضهم الوجه، والكل صحيح، ولا وهم في شاء منه في متنه وهذا أولى من تغليط مسلم". يعني في إخراجه

ص: 327

للرواية التي فيها ذكر الوجه وهو كما قال فإنه يبعد جداً أن يجتمع أولئك الثقات على ذكر هذه الزيادة في الحديث خطأ منهم جميعاً فهي زيادة محفوظة إن شاء الله تعالى) (1) انتهى كلام الشيخ الألباني.

16 -

ولهذا قال ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين: (وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم محرمون؛ فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى) انتهى.

وما ذكره الألباني في كتابه عن بعض أهل اللغة من أن الخمار يستر الرأس فهل هم قالوا مثله (فقط) أو كقوله: (وقد أجمعت كلها على ذكر الرأس دون الوجه في تعريفهم للخمار)؟ فهل مجرد قولهم في مكان أنه يستر الرأس يعني أنهم أنكروا مثله ستره لغيره؟ أو أنه لم يأتِ عنهم أنه يستر الوجه؟ وكما قلنا سابقاً فلو نُقل عن ألف رجل أنهم رأوا فلاناً يشرب بالكاسة لبناً، هل معناه أنهم قالوا أن الكاسة لا تستعمل لشرب العصير أو الماء أو نحو ذلك؟ .

فهذا دليل على أن الشيخ لم يستوعب أقوال أهل العلم، والجميع يدرك مدى اتساع معاني اللغة واشتقاقاتها لا كما فعله رحمه الله في لفظة التقنع من قبل. فهذا الإمام الصنعاني مثلا في كتابه "سبل السلام" وعند -باب اللباس أي ما يحل منه وما يحرم- قال: وعن علي رضي الله

(1) إرواء الغليل للألباني (4/ 198).

ص: 328

عنه قال: «كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي» . متفق عليه،

وقوله: فشققتها أي قطعتها ففرقتها خمراً، وهي بالخاء المعجمة مضمومة وضم الميم، جمع خمار بكسر أوله والتخفيف ما تغطي به المرأة رأسها) انتهى من سبل السلام.

فهل يصح أن نقول أن الخمار لا يأتي لستر الوجه وننسب للإمام الصنعاني هذا الإنكار لأنه لم يذكر في هذا الموضع أنه لستر الوجه أيضاً، وقد مر معنا وقبل أسطر من هذا، قوله في موضع آخر:(فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذُكر كالخمار والثوب)(1)، مما تعلم منه أن لكل موضع معناه ومراده.

وعندما استشهد الألباني بحديث: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) قال: (فهل يقول الشيخ (2) بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة؟ ! ) انتهى كلام الألباني.

ونقول بالطبع ليس عليها أن تستر وجهها في الصلاة بخمارها لأن معناه هنا طلب ستر رأسها به، ولكن هل هناك مانع لو مر بها الرجال أن تلقي طرف خمارها على وجهها كما تفعل المحرمة إذا حاذاها الرجال؟ فلكل موضع حكمه المعروف، كما قال الشيخ صديق خان في "فتح العلام" عند كلامه عن شروط الصلاة: (ويباح كشف وجهها حيث

(1) سبل السلام عند شرحه لحديث (ما يلبس المحرم من الثياب).

(2)

يقصد الشيخ التويجري.

ص: 329

لم يأتِ دليل بتغطيته والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراه أجنبي فهذه عورتها في الصلاة وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة) انتهى. ومثل هذا لا يحتاج للتدليل.

بل ولا شك أنه باتفاق أهل العلم أن ستر المرأة لوجهها عن الرجال أوجب من كشفه في الصلاة أو حال الإحرام كما نَقل الإجماع على ذلك الحافظ ابن المنذر وابن عبد البر وكما سيمر معنا عند ردنا لشبهة نقل أهل السفور لكلام القاضي عياض في سير المرأة في طريقها.

17 -

وسبق معنا قول الإمام أبي بكر بن العربي: (وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئا من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها) انتهى. من عارضة الأحوذي.

18 -

وقال في الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبى زيد القيرواني - المالكي - وفي بيان كيفية (غسل الميت):

(والعمامة إنما تستحب للرجل ويترك منها قدر الذراع ذؤابة تطرح على وجهه، وأما المرأة فلا تعمم وإنما يجعل على رأسها خمار يترك منه ذؤابة تطرح على وجهها) انتهى.

وهذا مما يدل على قولنا أن الخمار يُطلق على كل ما يستر، سواء الرأس أو الوجه أو الإناء أو العقل أو غيره، كما جاء في كلام أهل العلم رحمهم الله، وهذا مما يدل على اتساع معاني اللغة، وهكذا كان فهم ومراد السلف لكلمة الخمار في كل موضع ولهذا لم يختلط عليهم الأمر ولم يشكل عليهم أبداً، بل كان جلياً وواضحاً من سياق وعبارة

ص: 330

ذكر لفظة الخمار في كل موضع، فمرة يطلق ويراد منه ستر الرأس كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) ومرة يطلق ويراد منه ستر الوجه ومرة يطلق ويراد منه الجميع من ستر الرأس والوجه، إذ إمكان ذلك حاصل لغة وفعلاً، لان الخمار هو كل ما ستر شيئا، فكما أنه أمكن ستره للرأس مع ستره لغيره مما حوله من الجيوب والعنق ونحو ذلك فكذلك الوجه، كما فهمه أهل العلم واللغة فلم يستنكروه.

19 -

قال الشوكاني رحمه الله: (ومن ذلك قوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمرهنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قالت عائشة رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن بخمرهم على جيوبهن شققن مروطهم فاختمرن بها أي وقعت منهن التغطية لوجوههم وما يتصل بها)(1).

وأما لو كانت معاني اللغة ومفرداتها جامدة كما أرادها الشيخ الألباني رحمه الله في اللغة والحديث الذي ساقه، لقلنا أن الخمار في الصلاة للمرأة التي تحيض (فقط) أما من لا تحيض أو اللائي يئسن من المحيض فإنهن يصلين مكشوفات الشعور وبلا خمار، ولجاز أيضاً لآخرين أن يفهموا من الحديث جواز صلاة الحائض.

(1) السيل الجرار للشوكاني (4/ 128).

ص: 331

ولَبَدَا لنا في كل مرة استنتاج جديد، خارج عن الإجماع متعارض مع بقية النصوص، مبتور عن مراده ومعناه، ولأفسدنا في الشريعة واللغة وكلام أهل العلم والعربية أكثر مما أصلحنا.

فهل أخطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشاه - عندما أطلق لفظة التخمير على تغطية الوجه فقال: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)؟ ! أو عائشة، أو فاطمة بنت المنذر، أو مالك إمام دار الهجرة، أو الشافعي، أو الخطابي، أو القرطبي، أو

، رضي الله عنهم أجمعين؟ ! .

ولولا التطويل فيما هو مفروغ منه أصلا عند أهل العلم لذكرت جمعاً من أقوالهم على أن الخمار يأتي بمعنى ستر الوجه أيضاً.

قال شيخ الإسلام في مقدمة تفسيره: (فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور والله الموفق

ص: 332

للصواب) (1). والحق أنه لما نزلت آية الإدناء بالأمر بلبس النساء من جلابيبهن وهي العباءات الواسعة التي كالملحفة ونحوها لتستر جميع الثياب والزينة التي على المرأة بلا استثناء سواء الزينة الخَلقية أو المكتسبة وكانت الجلابيب مفتوحة من الأمام فلعل بعضهن كن يكتفين في أول الأمر بإدناء الجلابيب ولم يكن بعد قد وضعن الخمار على رؤوسهن أو أن بعضهن وضعنه - ولعل هذا هو الأقرب - ولكن دون تثبيته بالضرب والعطف على الجيوب لتستمسك وكن يرمينه من خلفهن فجاء التنبيه لرميها على أمامهن والتأكيد بعطفه وضربه على الجيوب وهو بمعنى الشد والتثبيت ما يؤدي بالطبع لعدم انكشاف أجزاء من مقدمتهن كبعض أجزاء نحورهن وبعض الصدر أو الشعر كما لو كان بدون خمار أو بدون الضرب على الجيوب فقد تنكشف تلك المناطق فجاء الأمر هنا بالتنبيه عليها بالضرب خاصة على الجيوب فتكون أثبت وأبلغ في ستر ما قد ينكشف من تلك المنطقة وبخاصة عند الحركة بعكس ما لو وضع الخمار على الرأس وألقي طرفاه للخلف، والله أعلم.

ولهذا كان مقصد الشارع من الآية هنا هو التنبيه على هذه المنطقة بالذات وما حولها ولا يمنع كما قلنا لو كان واسعاً ورمته على وجهها ليستره، فالأمر واسع كما قلنا لغة وإمكانا وشرعا، فذلك ما قد حصل ويحصل فعليا من النساء المحجبات ولهذا فإن ورود الآية هنا كما فهمها أهل العلم هي لستر تلك المناطق بالذات بسبب ما أسلفنا وكما سيأتي

(1) مجموع الفتاوى (13/ 368).

ص: 333

من أقوال أهل العلم، وإنما لم يذكر بعضهم أنها لستر الوجه لأن ذلك مذكور منهم من قبل في سورة الأحزاب، ومما قد سبق بيانه منهم.

قال البغوي: ({وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمرهنَّ} أي: ليلقين بمقانعهن {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وصدورهنّ ليسترن بذلك شعورهنّ وصدورهنّ وأعناقهن وقراطهن. قالت عائشة: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخمرهن عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهنّ فاختمرن بها) انتهى.

وقال في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (ت: 597 هـ):

(قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن} وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى: وليُلْقِين مقانعهن {على جيوبهن} ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن) انتهى.

وقال في تفسير أبي السعود (ت: 951 هـ):

({وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمرهنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} إرشادٌ إلى كيفيَّة إخفاءِ بعضِ مواضع الزِّينة بعد النَّهي عن إبدائها. وقد كانت النِّساءُ على عادةِ الجاهلية يسدُلْن خُمرهنَّ من خلفهنَّ فتبدُو نحورُهنَّ وقلائدهُنَّ من جيوبِهنَّ لوسعِها فأمرن بإرسالِ خمرهن إلى جيوبهنَّ ستراً لما يبدُو منها وقد ضُمِّن الضَّربُ معنى الإلقاء فعُدِّي بعَلَى. وقُرئ بكسرِ الجيمِ كما تقدَّم) انتهى.

فكل من نقلنا قوله هنا من المفسرين وغيرهم قد صرحوا جميعهم في تفسيرهم لآية الإدناء وغيرها من الآيات بأنها الأمر بستر المرأة لوجهها، وبهذا تعلم أن قولهم هنا أنه لستر الرأس أو الجيوب ونحو ذلك

ص: 334

وعدم ذكرهم ستر الوجه لا يعني عند أحد منهم أبدا عدم قولهم بستر المرأة لوجهها أو أنها تخرج للرجال مكشوفة، كما يستغل ذلك أهل السفور ويحاولون إيهامنا أن في المسألة خلاف، بالطبع لا. هذا تناقض مع بقية أقوالهم، فهم أرادوا بيان المراد من الآية وهو المزيد من الحرص والتنبيه والستر المطلوب سابقا وبخاصة على هذه المناطق.

فهو سبحانه وبعد أن أمر وأرشد لطريقة ستر المرأة لزينتها بشكل عام وذلك بلبس الجلابيب أرشد بعدها أيضا لطريقة ستر بعض تلك المواضع من الزينة تأكيدا وخشية من انكشافها، كما جاء بعدها:{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} فدل بنص القرآن القطعي أن الزينة قد كانت في أصلها الذي سبق هذا مخفية، فكان أمره سبحانه وتعالى بضرب الخمر على جيوبهن وعدم الضرب

بأرجلهن وغير ذلك كله سدا لكل ما يخل بهذا الأصل السابق، ومن حكمته عز وجل أن جاء ببعض ذلك بعد رخصته {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} حتى يحذروا عند تعاطيهم للرخص من التساهل في حدود الله.

قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في جلباب المرأة: (هذا وقد ذكر القرطبي (12/ 230) وغيره في سبب نزول هذه الآية: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] (أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر كما

ص: 335

يصنع النَّبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك. فأمر الله تعالى بلَي الخمار على الجيوب) (1) انتهى.

وهذا يقوله الشيخ في موضع سرده لأدلة السفور وأن الآية ليس فيها تصريح بستر المرأة لوجهها وإنما جاءت بستر الرأس والجيوب فقط، فيكون الوجه على هذا عنده مكشوفا، وتأييده لذلك بنقله بعض أقوال أهل العلم في الآية، فما الذي تفهمه من نقله لهذا الكلام ومن قوله:(وقد ذكر القرطبي)؟ .

تفهم أنه لم يَرد عن القرطبي أنه يدين الله بستر النساء لوجوههن مع أن أقوال القرطبي وغيره في وجوب ذلك ظاهرة وصريحة كالشمس كما مرت بنا، فلماذا يعرضون عنها وينقلون لنا غيرها؟ فهل عندما لم ينص الإمام القرطبي هنا أن الآية تعني تغطية المرأة لوجهها، أن يفهم الواحد منه أنه أنكر ذلك كما هو قول أهل السفور اليوم؟ وكأنه لم يصرح بما قاله إجماع أهل العلم من وجوب ستر المرأة لوجهها؟ سبحانك ربي! .

فهل حقاً لم يقرؤوا كلام القرطبي في عدة مواضع كما عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وراءحِجَابٍ} [الأحزاب: 35] حيث قال: (في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مُسآلتهن من وراء حجاب في حاجةٍ تُعرض أو مسألة يُستَفتين فيها ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها

(1) جلباب المرأة للألباني.

ص: 336

عورة بدنها وصوتها كما تقدم فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها) (1).

وهل غاب عنهم كذلك قوله وهو الإمام المشهور عند قول الله تعالى في آية الإدناء: (الثانية: لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن

.

الرابعة: واختلف الناس في صورة إرخائه:

- فقال ابن عباس وعبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها.

- وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها) انتهى كلام القرطبي.

وهذا لتعرف حقيقة ما قلناه من أن اقتصار بعض أهل العلم على تحديد معنى الآية بستر تلك المناطق وعدم ذكرهم للوجه لا يعنى عندهم ولا عند غيرهم عدم وجوب ستر النساء لوجوههن من آيات وأحاديث مخصوصات.

(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 227).

ص: 337