الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني)
سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
1 -
بداية السورة دليل على كونها جاءت مفصلة وشارحة لأمور قد سبق وأن ذكرت من قبل:
ولهذا بدأ الله تعالى في أول السورة واصفا إياها بأنها {سُورَةٌ أنزَلْنَاهَا وَفرضناها وَأنزَلْنَا فِيهَا آيات بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)} [النور]. فهي سورة نزلت فيها آيات بينات مفصلات لأمور عديدة منها الجديدة ومنها ما قد سبق إجمالا، قال مجاهد وقتادة:(أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود وفي قوله: {وَأنزَلْنَا فِيهَا آيات بَيِّنَاتٍ} قال ابن كثير: (أي مفسرات واضحات).
2 -
استهلال السورة بحد الزنا دليل على أن الحجاب فرض قبلها لأن الحجاب صون من الوقوع في الزنا:
والشاهد من أن فريضة الحجاب قد نزلت قبل سورة النور، أنه استهل أول آياتها بتقرير عقوبات شديدة وعنيفة بحق الزناة قال تعالى في الآية الثانية: {الزانية وَالزَّاني فاجلدوا كُلَّ واحد مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا
رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2]، أليس من حق المرء أن يتساءل إن كانت آية {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31]، هي المتقدمة والمشرعة لفريضة الحجاب، والواصفة لبيان شكله وطريقته، كيف تنزل عقوبة شديدة كهذه ولم تسبقها آيات الحجاب ولم يسبقها الأمر للنساء بتغطية شعورهن ونحورهن كما يدعيه القائلون بسفور وجه المرأة؟ كيف ولم يسبقها البعد عن مثيرات الشهوات مع ما عرف عنهن من سفور قبل فرض الحجاب كما مر معنا من كلام أئمة أهل التفسير على قوله تعالى:{يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ} (وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيرهنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة). وبالتالي فلا يعقل أن تنزل عقوبة الزنا في الآية الثانية من بداية السورة، ثم تأتي بعدها فريضة الحجاب متأخرة في الآية الحادية والثلاثين من قوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} .
هذا لا يعقل من حكيم خبير، القائل في محكم كتابه:{وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115]، لتعلم أن فريضة الحجاب قد نزلت في سورة الأحزاب كما قرره أئمة أهل العلم وقبل آية {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} .
فالله لم يبدأ السورة بهذا الحكم والعقوبة الشديدة لكبيرة من الكبائر إلا بعد أن تدرج مسبقا في سد الوسائل المفضية إليه وأغلق جميع
الأبواب المشرعة عليه بل واعتبر تلك الوسائل من المحرمات؛ لأن الكثير منا عندما يبدأ في قراءة سورة النور يتعجب من قوة هذه العقوبة وشدتها من لدن رحيم غفور، ولكن من أدرك وتذكر كما أرشد الله في أول الآيات {لعلكم تذكرون} وفهم ما قبلها من التسلسل والتدرج والتمهيد في آيات الحجاب الواردة في سورة الأحزاب لم يتعجب من قوة هذه العقوبة وشدتها، بل يجد أنها جاءت لمستحقها، وما كان ربك بظلام للعبيد، فهو سبحانه لو تذكرنا ما قد مر معنا عند تمهيده وتدرجه في فريضة الحجاب حذر نساء نبيه صلى الله عليه وسلم وهن مَن هن أن مَن يأتي منهن بفاحشة مبينة فإن لها ضعف العذاب وهذا لمكانتهن وقربهن من الخير وبيت النبوة والوحي، ثم أمرهن حتى يبتعدن عن الفواحش بأن يتقين الله ويطعنه وألا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وأن
…
يقلن قولاً معروفاً ومختصراً مع الرجال بدون تبسط وتوسع بقدر الحاجة وبدون تمييع أو ترقيق، وأمرهن بالقرار في بيوتهن وأن تكون البيوت هي الغالب من حالهن وألا يخرجن إلا لحاجة ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ثم ذكر الجميع وحثهم بخصال الصالحين والصالحات وذكر منهم الحافظين لفروجهم والحافظات وأن الله أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً ثم حذرهم من مخالفة أمره، ثم زاد ليبعد عباده المؤمنين والمؤمنات عن مواطن الزنا والفساد وليعينهم على أنفسهم لحفظ قلوبهم وفروجهم فزاد ذلك بمساءلتهن من وراء حجاب ومنع الدخول عليهن وقصره على أصناف محدودة جداً كما في قوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أبنائهن وَلَا إخوانهن وَلَا أبناء إخوانهن وَلَا أبناء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أيمَانهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إن اللَّهَ كان عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدا} [والأحزاب: 55] كل هذا تدرج في تحريم كل ما يثير الشهوات من النظر إلى النساء أوالدخول عليهن، حتى أمرن بفريضة الحجاب عن نظر الرجال حال خروجهن من البيوت وذلك بلبس الجلابيب والعباءات وبتغطية الرؤوس والوجوه وهذا من أنفع وأبلغ الأمور للبعد عن الزنا ومقدماته، بل ووصف ذلك وصفاً دقيقا تناقلته الأخبار والآثار عن الصحابة ومن بعدهم كما مر معنا عند قوله تعالى:{يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكان اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].
فالله لم يقرر عقوبة الزنا في كتابه فجأة كما يلزم من قول من استشهد بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} فتبين أنه قد سبقها آيات في فرض الحجاب.
وإلا فيكون عاقب قبل أن يُعدّ عباده المؤمنين والمؤمنات بما يعينهم حتى لا يقعوا فيما نهى عنه، وقبل أن يسد الأسباب والوسائل المفضية لذلك، ويكون الأمر كما قال الشاعر:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
وتعالى الله عن الظلم والجور والشطط، وهو الحكيم العليم الخبير بنفوس عباده حيث أحسن ترتيب الآيات والأحكام، القائل في محكم
كتابه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، بل لقد مهد وتدرج، كما مر معنا بمقدمات وأمور عديدة حتى فرض الحجاب، فكان في ذلك تمهيدا وتدرجا آخر أيضا، ثم بعد ذلك بما يقارب السنة نزلت سورة النور، بما فيها من عقوبة الزناة.
فلم تنزل عقوبة الزنا إلا وقد تهيأ لها المسلمون رجالا ونساء بتلك التوجيهات والأوامر، فلم يكن للجميع عذر بعد ذلك في أن يعرفوا أن عقوبة من زنا بعد كل تلك التحصينات والتحرزات والسواتر والحجب حتى أبسطها وأقلها الأمر للنساء بخشونة القول للرجال وقوله:{وقرن في بيوتكن} وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه) متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)(1)، وغير ذلك من تحريم الخلوة أو الاختلاط بالنساء.
وبالتالي فإن كشف الوجه عند كل منصف وعادل ومتدبر أعظم من هذه الأمور وأشد إثارة للنفس لداعي الوقوع في زنا النظر أو زنا النطق أو زنا الفرج بلا شك ولا ريب، ولو أباح الله كشفه كما يقوله البعض ما نهى عما دونه، فكان كل ذلك حماية للفروج.
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح، وصححه الألباني في جلباب المراة.
فلا يقتحم المرء هذه الفاحشة الخبيثة وتلك الكبيرة من كبائر الذنوب بعد كل هذه الحروز والستور والحجب، وبعد أن يمر بهذه النواهي الكثيرة والتي تسبق زنا الفروج إلا متلصصٌ ومعاند ومتجرئ ومتعدٍ ومقتحم لكافة حدود الله وبخاصة إذا كان محصنا، فناسب في حقه هذه العقوبة الشديدة على قدر جرمه.
وصدق الله فالواقع يقول ما أسفرت المرأة عن وجهها في مجتمع من المجتمعات، إلا وأكثرت الخروج وتبسطت في محادثة الرجال ومخالطتهم بل وقد تحدث الخلوات والخرجات فيما بينهم، وكأنه أحد محارمها، ونزع الجلباب والمسمى عندنا - العباءة - وله في بلاد الإسلام مسميات عديدة نجد كثيرا من المغطيات لرؤوسهن لا يلبسنه مكتفيات بالبلوزات والبنطلونات والثياب بحجة أنهن متحجبات وهو المأمور به بالنص القطعي في كتاب الله، وغير ذلك من المنكرات الواضحات ومثيرات الغرائز البديهية للجنسين وما يحرك دواعي الفكر ونوازغ الشيطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3 -
حادثة الإفك من الأدلة على نزول الحجاب قبل سورة النور:
جاءت السورة بذكر حادثة الإفك قال تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] وقد كانت في غزوة بني المصطلق من شهر شعبان سنة ست للهجرة، وفي القصة أخبرت عائشة رضي الله عنها، أن النساء قد أمرن قبلها بتغطية وجوههن عن الرجال فقالت: (وكان صفوان من وراء الجيش فأصبح عند منزلي
فرأى سواد إنسان فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي) متفق عليه.
ومع أن الحالة عصيبة والكرب كبير وقد رحلت القافلة وتركتها وحيدة وبعد معارك ضارية في ليل مظلم وصحراء مقفرة وأعداء متربصون ومع ذلك لما رأت أحد أبنائها من المسلمين ومن تعرفه وتثق به لم تبادره بكشف وجهها ليعرفها ولم تقل له أنا أمكم عائشة زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم، بل العكس سترت وجهها عنه ولم تكلمه ولا كلمة واحدة.
ولهذا ما عرفها إلا بهيئتها من خلف عباءتها السوداء لكونه يعرفها قبل الحجاب، ولو كان ستر الوجه خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقوله البعض لعرفها بذلك، فكيف بهم اليوم يتركون هدي عائشة ويقولون بالاختلاط وسفور الوجه ومحادثة الرجال ومؤاكلتهم.
فهذه الواقعة والتي كانت سنة ست من الهجرة تؤكد ما قررناه سلفا من أن فريضة الحجاب كانت قبل ذلك كما أخبر أنس في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب سنة خمس للهجرة في سورة الأحزاب وما فيها من آيات، وبالتالي فهي متقدمة على سورة النور وما فيها من آيات.
4 -
الحذر من خطوات الشيطان:
ثم بين الله لعباده الحذر من خطوات الشيطان فقال: {يا أيها الذين أمنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشيطان وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فإنه يَأمر بِالْفَحْشَاء وَالمنكر وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أحد أبدا} [النور: 21]، وهذا مما له
تعلق بمسائل الحجاب وتأكيد من الله على ما سبق وأن حذر عباده منه، وهو البعد عن المنكرات والمحرمات التي تكون مقدمات وخطوات لكبائر الذنوب ونيل أشد العقوبات.
5 -
آداب دخول البيوت تفصيل لما ذكر سابقا في سورة الأحزاب:
ثم ذكر الله آداب دخول البيوت بتفصيل موسع وتعليم مسهب أكثر من الوارد في الأحزاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ {29} قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} [النور].
وهذا تفصيل في مسألة الاستئذان وبيان آداب دخول البيوت، وهذا تفصيل بعد الإجمال الذي تقدم في سورة الأحزاب بمنع الدخول على النساء سواء بيوت النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها أمهاتهم أو بيوت غيره من المسلمين إلا للأصناف المذكورين هناك، وزاد في النور أصنافا جديدة لم يكونوا مذكورين من قبل.
وزاد أيضا في تعليمهم آداب الاستئذان لأنه وبعد أن حرم الدخول والنظر للنساء، وكان لا بد من دخول بعضهم لبعض، بيَّن هنا كيفية آداب الاستئذان بشكل دقيق لكل أحواله، وكل ذلك حماية للعورات
ورعاية لغفلات الناس، وصيانة من الوقوع في مقدمات الزنا والتي مبدؤها من النظر، وما جُعل الاستئذان إلا من أجل عدم النظر للحرمات، فلو لم يكن هناك شيء مستور وممنوع من النظر إليه لما أمر الله بالغض عنه، وعفا عن نظر الفجأة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:(اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى (1) يحك به رأسه، فقال النبي: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
ولهذا أمر المؤمنين بعدها بأن يفهموا أن الغاية من الاستئذان أن يغضوا من أبصارهم عما لا يحل لهم النظر إليه والغاية من غض البصر ليحفظوا فروجهم وفي كل ذلك زكاة لهم وهو سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم.
(1) مدرى: المشط.