المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} - كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف

[تركي بلحمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(المبحث الأول)سورة الأحزاب وأول ما نزل من الآيات في مسألة الحجاب وما لحق تفسيرها من تحريف وتصحيف وتبديل

- ‌تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:

- ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

- ‌أول ما نزل في شأن الحجاب:

- ‌آية الحجاب وإجماع المفسرين عليها

- ‌التحريف والتبديل والتصحيف المعاصر لما لحق كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره لآية الإدناء:

- ‌اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:

- ‌الأدلة والنقول على أن (القناع) يأتي بمعني ستر الوجه:

- ‌مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}

- ‌آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدةولها تسلسل ووقائع

- ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تناقض أهل السفور في مسألة غض البصر:

- ‌التبرج انفلات لا يقف عند حد:

- ‌سورة النور والرخصة بجواز أن تبدي المرأة من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه

- ‌سورة النور فصلت ما أُجمل في سورة الأحزاب:

- ‌مصطلح أمن الشهوة ونحوه عند الفقهاء المتقدمين وما أصابه من التحريف والتبديل والتصحيف:

- ‌بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز نظر الخاطب لمخطوبته نوع من تفسيره للآية:

- ‌(المبحث الثالث)أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْها} [النور: 31]

- ‌أقوال الصحابة واختلافهم في تفسير آية: {إلا ما ظهر منها} كان من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

- ‌الجمع بين أقوال الصحابة في الآية:

- ‌ومن تلكم الحالات:

- ‌حالة المرأة الساترة لوجهها واحتاجت لكشف العينين فقط أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لكشف زينة وجهها أو كفيها:

- ‌مقصد الإمام الطبري عند تفسيره للآية:

- ‌حالة احتياج المرأة لتكشف أكثر من الوجه أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لظهور زينتها المكتسبة كالثياب ونحوها:

- ‌فرض لبس الجلباب عند خروج المسلمات الصالحات:

- ‌حالة ظهور زينة المرأة رغما عنها وبغير قصد منها:

- ‌منهج السلف في التفسير:

- ‌منهج الصحابة والتابعين عند تفسيرهم لآية الرخصة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}

- ‌منهج أئمة التفسير والفقه عند تفسيرهم لآية الرخصة:

- ‌(المبحث الرابع)التحريف والتبديل فيما لحق كلام أئمة المذاهب الأربعة في فريضة الحجاب

- ‌اختلاف المذاهب الأربعة في مسألة الحجاب كان من اختلاف التنوع

- ‌المناهج الفقهية للمذاهب الأربعة:

- ‌فريضة الحجاب عند المذاهب الأربعة:

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن الوجه والكفين ليسا من العورة وأن ذلك لم يمنع من قولهم بوجوب ستره لعلة الفتنة والشهوة

- ‌أدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه بأمور منها بما يظهر في صلاتها

- ‌(باب شروط الصلاة):

- ‌اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة

- ‌قول أتباع كل مذهب بقول المذهب الآخر وتعدد الروايات في المذهب الواحد دليل على أن اختلاف المتقدمين في فريضة الحجاب كان من قبيل اختلاف التنوع

- ‌خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في نسبته مذهب السفور للقائلين أن الوجه والكفين ليسا بعورة:

- ‌وبالعكس فمع ذلك قد تجد بعض أئمة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية يقول أن المرأة عورة وذلك لأن الأمر واسع كما قلنا ومثاله:

- ‌وهناك قسم آخر من بعض الأئمة أخذوا يفصلون بنوع آخر وهو أن الوجه والكفين من المرأة عورة، ولكنه في حق من جاز نظره إليها لا يكون بالنسبة لهم من العورة لورود الدليل المبيح في ذلك، وهذا يدلك أن الأمر فيه سعة ولا يترتب عليه في أصل المسألة شيء ومثاله:

- ‌خلاصةأقوال أئمة المذاهب الأربعة في مسألة هل الوجه والكفين عورة أم لا

- ‌سبب ذكرنا لتأصيل المذاهب لمسألة الحجاب:

- ‌(المبحث الخامس)إكمال نقل إجماع المفسرين على أن الآية رخصة وليست تشريعاً لفريضة الحجاب

- ‌فائدة في حكمة التكرار في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}:

- ‌حكمة عدم التحديد في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}:

- ‌لو لم تنزل آية الرخصة

- ‌مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

- ‌تصحيف الشيخ الألباني لكلام الحافظ ابن حجر

- ‌تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجلهن لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور 31]

- ‌(المبحث السادس)خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل

- ‌التمهيد لنزول فريضة الحجاب:

- ‌موقف الصحابة من آيات الحجاب وأمهات المؤمنين:

- ‌طريقة حجاب النساء داخل البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌لماذا ذكرت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات

- ‌طريقة حجاب النساء خارج البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌معنى الخصوصية في حجاب أمهات المؤمنين عند المتقدمين وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف

- ‌الخصوصية الأولىالأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

- ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

- ‌وممن قال أيضاً بالخصوصية من نوع تغليظ الحجاب على أمهات المؤمنين

- ‌الخصوصية الثانيةالأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات

- ‌خلاصة الكلام في خصوصية أمهات المؤمنين

- ‌الأول: أنهن مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة كما هو جائز لغيرهن

- ‌والثاني: أنهن مخصوصات بالحجاب من أبنائهن ومن يحرم النكاح بهم فكن بذلك دون بقية الأمهات ومن يحرم النكاح بهن اللاتي لم يفرض عليهن ذلك

- ‌تناقض أهل السفور واختلافهم في معنى الخصوصية المحدثةوما أوردوه من شبهات بخصوصها

- ‌رد شبهةعن الإمام القاضي عياض

- ‌كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:

- ‌مذهب القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها لمجرد خروجها:

- ‌الشبهة المثارة من أهل السفور عن مالك في جواز مؤاكلة المرأة للرجل

- ‌قول أهل السفور نتيجة حتمية لما هو الحاصل اليوم:

- ‌منهج الإمام ابن حزم الظاهري في مسالة الحجاب وما لحقه من تحريف وتبديل وتصحيف

- ‌نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:

- ‌وقال ابن القيم: - فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة

- ‌معنى الجلابيب عند الإمام ابن حزم موافق لإجماع أهل العلم:

- ‌(المبحث السابع)استدلالات أهل السفور بالسنة على شبهاتهم

- ‌أولاً: حديث الفضل بن عباس ومخالفتهم لفهم السلف له:

- ‌الوجه الأول: في رد هذه الشبهة وهي عدم وجود ما ادعوه أصلا من كشف الوجه في الحديث:

- ‌الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:

- ‌ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين

- ‌ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له

- ‌خطأ الألباني في فهم مراد الإمام البيهقي

- ‌تضعيف البيهقي لحديث أسماء بنت عميس الثاني من طريق ابن لهيعة من"كتاب النكاح

- ‌رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه

- ‌خامسا: ومن أمثلة شبهاتهم الواهية التي ينقلونها:

- ‌ومن أمثلة غرائب استدلالات أهل السفور وشبههم:

- ‌سادساً: استدلالهم لمثل هذا بما جاء في جلباب المرأة للألباني:

- ‌خلاصة شبهات أهل السفور اليوم وبدعة القول أن في تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال سنة ومستحب

- ‌مذهب السلف في مسائل الشبهات:

- ‌(المبحث الثامن)الرخصة الثانية في سورة النور وإجماع أهل العلمقال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّ

- ‌(المبحث التاسع)الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال

- ‌وختاماً:

الفصل: ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}

(المبحث الثاني)

سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

1 -

بداية السورة دليل على كونها جاءت مفصلة وشارحة لأمور قد سبق وأن ذكرت من قبل:

ولهذا بدأ الله تعالى في أول السورة واصفا إياها بأنها {سُورَةٌ أنزَلْنَاهَا وَفرضناها وَأنزَلْنَا فِيهَا آيات بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)} [النور]. فهي سورة نزلت فيها آيات بينات مفصلات لأمور عديدة منها الجديدة ومنها ما قد سبق إجمالا، قال مجاهد وقتادة:(أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود وفي قوله: {وَأنزَلْنَا فِيهَا آيات بَيِّنَاتٍ} قال ابن كثير: (أي مفسرات واضحات).

2 -

استهلال السورة بحد الزنا دليل على أن الحجاب فرض قبلها لأن الحجاب صون من الوقوع في الزنا:

والشاهد من أن فريضة الحجاب قد نزلت قبل سورة النور، أنه استهل أول آياتها بتقرير عقوبات شديدة وعنيفة بحق الزناة قال تعالى في الآية الثانية: {الزانية وَالزَّاني فاجلدوا كُلَّ واحد مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا

ص: 93

رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2]، أليس من حق المرء أن يتساءل إن كانت آية {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31]، هي المتقدمة والمشرعة لفريضة الحجاب، والواصفة لبيان شكله وطريقته، كيف تنزل عقوبة شديدة كهذه ولم تسبقها آيات الحجاب ولم يسبقها الأمر للنساء بتغطية شعورهن ونحورهن كما يدعيه القائلون بسفور وجه المرأة؟ كيف ولم يسبقها البعد عن مثيرات الشهوات مع ما عرف عنهن من سفور قبل فرض الحجاب كما مر معنا من كلام أئمة أهل التفسير على قوله تعالى:{يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ} (وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيرهنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة). وبالتالي فلا يعقل أن تنزل عقوبة الزنا في الآية الثانية من بداية السورة، ثم تأتي بعدها فريضة الحجاب متأخرة في الآية الحادية والثلاثين من قوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} .

هذا لا يعقل من حكيم خبير، القائل في محكم كتابه:{وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115]، لتعلم أن فريضة الحجاب قد نزلت في سورة الأحزاب كما قرره أئمة أهل العلم وقبل آية {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} .

فالله لم يبدأ السورة بهذا الحكم والعقوبة الشديدة لكبيرة من الكبائر إلا بعد أن تدرج مسبقا في سد الوسائل المفضية إليه وأغلق جميع

ص: 94

الأبواب المشرعة عليه بل واعتبر تلك الوسائل من المحرمات؛ لأن الكثير منا عندما يبدأ في قراءة سورة النور يتعجب من قوة هذه العقوبة وشدتها من لدن رحيم غفور، ولكن من أدرك وتذكر كما أرشد الله في أول الآيات {لعلكم تذكرون} وفهم ما قبلها من التسلسل والتدرج والتمهيد في آيات الحجاب الواردة في سورة الأحزاب لم يتعجب من قوة هذه العقوبة وشدتها، بل يجد أنها جاءت لمستحقها، وما كان ربك بظلام للعبيد، فهو سبحانه لو تذكرنا ما قد مر معنا عند تمهيده وتدرجه في فريضة الحجاب حذر نساء نبيه صلى الله عليه وسلم وهن مَن هن أن مَن يأتي منهن بفاحشة مبينة فإن لها ضعف العذاب وهذا لمكانتهن وقربهن من الخير وبيت النبوة والوحي، ثم أمرهن حتى يبتعدن عن الفواحش بأن يتقين الله ويطعنه وألا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وأن

يقلن قولاً معروفاً ومختصراً مع الرجال بدون تبسط وتوسع بقدر الحاجة وبدون تمييع أو ترقيق، وأمرهن بالقرار في بيوتهن وأن تكون البيوت هي الغالب من حالهن وألا يخرجن إلا لحاجة ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ثم ذكر الجميع وحثهم بخصال الصالحين والصالحات وذكر منهم الحافظين لفروجهم والحافظات وأن الله أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً ثم حذرهم من مخالفة أمره، ثم زاد ليبعد عباده المؤمنين والمؤمنات عن مواطن الزنا والفساد وليعينهم على أنفسهم لحفظ قلوبهم وفروجهم فزاد ذلك بمساءلتهن من وراء حجاب ومنع الدخول عليهن وقصره على أصناف محدودة جداً كما في قوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ

ص: 95

عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أبنائهن وَلَا إخوانهن وَلَا أبناء إخوانهن وَلَا أبناء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أيمَانهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إن اللَّهَ كان عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدا} [والأحزاب: 55] كل هذا تدرج في تحريم كل ما يثير الشهوات من النظر إلى النساء أوالدخول عليهن، حتى أمرن بفريضة الحجاب عن نظر الرجال حال خروجهن من البيوت وذلك بلبس الجلابيب والعباءات وبتغطية الرؤوس والوجوه وهذا من أنفع وأبلغ الأمور للبعد عن الزنا ومقدماته، بل ووصف ذلك وصفاً دقيقا تناقلته الأخبار والآثار عن الصحابة ومن بعدهم كما مر معنا عند قوله تعالى:{يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكان اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].

فالله لم يقرر عقوبة الزنا في كتابه فجأة كما يلزم من قول من استشهد بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} فتبين أنه قد سبقها آيات في فرض الحجاب.

وإلا فيكون عاقب قبل أن يُعدّ عباده المؤمنين والمؤمنات بما يعينهم حتى لا يقعوا فيما نهى عنه، وقبل أن يسد الأسباب والوسائل المفضية لذلك، ويكون الأمر كما قال الشاعر:

ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

وتعالى الله عن الظلم والجور والشطط، وهو الحكيم العليم الخبير بنفوس عباده حيث أحسن ترتيب الآيات والأحكام، القائل في محكم

ص: 96

كتابه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، بل لقد مهد وتدرج، كما مر معنا بمقدمات وأمور عديدة حتى فرض الحجاب، فكان في ذلك تمهيدا وتدرجا آخر أيضا، ثم بعد ذلك بما يقارب السنة نزلت سورة النور، بما فيها من عقوبة الزناة.

فلم تنزل عقوبة الزنا إلا وقد تهيأ لها المسلمون رجالا ونساء بتلك التوجيهات والأوامر، فلم يكن للجميع عذر بعد ذلك في أن يعرفوا أن عقوبة من زنا بعد كل تلك التحصينات والتحرزات والسواتر والحجب حتى أبسطها وأقلها الأمر للنساء بخشونة القول للرجال وقوله:{وقرن في بيوتكن} وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه) متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)(1)، وغير ذلك من تحريم الخلوة أو الاختلاط بالنساء.

وبالتالي فإن كشف الوجه عند كل منصف وعادل ومتدبر أعظم من هذه الأمور وأشد إثارة للنفس لداعي الوقوع في زنا النظر أو زنا النطق أو زنا الفرج بلا شك ولا ريب، ولو أباح الله كشفه كما يقوله البعض ما نهى عما دونه، فكان كل ذلك حماية للفروج.

(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح، وصححه الألباني في جلباب المراة.

ص: 97

فلا يقتحم المرء هذه الفاحشة الخبيثة وتلك الكبيرة من كبائر الذنوب بعد كل هذه الحروز والستور والحجب، وبعد أن يمر بهذه النواهي الكثيرة والتي تسبق زنا الفروج إلا متلصصٌ ومعاند ومتجرئ ومتعدٍ ومقتحم لكافة حدود الله وبخاصة إذا كان محصنا، فناسب في حقه هذه العقوبة الشديدة على قدر جرمه.

وصدق الله فالواقع يقول ما أسفرت المرأة عن وجهها في مجتمع من المجتمعات، إلا وأكثرت الخروج وتبسطت في محادثة الرجال ومخالطتهم بل وقد تحدث الخلوات والخرجات فيما بينهم، وكأنه أحد محارمها، ونزع الجلباب والمسمى عندنا - العباءة - وله في بلاد الإسلام مسميات عديدة نجد كثيرا من المغطيات لرؤوسهن لا يلبسنه مكتفيات بالبلوزات والبنطلونات والثياب بحجة أنهن متحجبات وهو المأمور به بالنص القطعي في كتاب الله، وغير ذلك من المنكرات الواضحات ومثيرات الغرائز البديهية للجنسين وما يحرك دواعي الفكر ونوازغ الشيطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

3 -

حادثة الإفك من الأدلة على نزول الحجاب قبل سورة النور:

جاءت السورة بذكر حادثة الإفك قال تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] وقد كانت في غزوة بني المصطلق من شهر شعبان سنة ست للهجرة، وفي القصة أخبرت عائشة رضي الله عنها، أن النساء قد أمرن قبلها بتغطية وجوههن عن الرجال فقالت: (وكان صفوان من وراء الجيش فأصبح عند منزلي

ص: 98

فرأى سواد إنسان فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي) متفق عليه.

ومع أن الحالة عصيبة والكرب كبير وقد رحلت القافلة وتركتها وحيدة وبعد معارك ضارية في ليل مظلم وصحراء مقفرة وأعداء متربصون ومع ذلك لما رأت أحد أبنائها من المسلمين ومن تعرفه وتثق به لم تبادره بكشف وجهها ليعرفها ولم تقل له أنا أمكم عائشة زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم، بل العكس سترت وجهها عنه ولم تكلمه ولا كلمة واحدة.

ولهذا ما عرفها إلا بهيئتها من خلف عباءتها السوداء لكونه يعرفها قبل الحجاب، ولو كان ستر الوجه خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقوله البعض لعرفها بذلك، فكيف بهم اليوم يتركون هدي عائشة ويقولون بالاختلاط وسفور الوجه ومحادثة الرجال ومؤاكلتهم.

فهذه الواقعة والتي كانت سنة ست من الهجرة تؤكد ما قررناه سلفا من أن فريضة الحجاب كانت قبل ذلك كما أخبر أنس في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب سنة خمس للهجرة في سورة الأحزاب وما فيها من آيات، وبالتالي فهي متقدمة على سورة النور وما فيها من آيات.

4 -

الحذر من خطوات الشيطان:

ثم بين الله لعباده الحذر من خطوات الشيطان فقال: {يا أيها الذين أمنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشيطان وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فإنه يَأمر بِالْفَحْشَاء وَالمنكر وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أحد أبدا} [النور: 21]، وهذا مما له

ص: 99

تعلق بمسائل الحجاب وتأكيد من الله على ما سبق وأن حذر عباده منه، وهو البعد عن المنكرات والمحرمات التي تكون مقدمات وخطوات لكبائر الذنوب ونيل أشد العقوبات.

5 -

آداب دخول البيوت تفصيل لما ذكر سابقا في سورة الأحزاب:

ثم ذكر الله آداب دخول البيوت بتفصيل موسع وتعليم مسهب أكثر من الوارد في الأحزاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ {29} قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} [النور].

وهذا تفصيل في مسألة الاستئذان وبيان آداب دخول البيوت، وهذا تفصيل بعد الإجمال الذي تقدم في سورة الأحزاب بمنع الدخول على النساء سواء بيوت النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها أمهاتهم أو بيوت غيره من المسلمين إلا للأصناف المذكورين هناك، وزاد في النور أصنافا جديدة لم يكونوا مذكورين من قبل.

وزاد أيضا في تعليمهم آداب الاستئذان لأنه وبعد أن حرم الدخول والنظر للنساء، وكان لا بد من دخول بعضهم لبعض، بيَّن هنا كيفية آداب الاستئذان بشكل دقيق لكل أحواله، وكل ذلك حماية للعورات

ص: 100

ورعاية لغفلات الناس، وصيانة من الوقوع في مقدمات الزنا والتي مبدؤها من النظر، وما جُعل الاستئذان إلا من أجل عدم النظر للحرمات، فلو لم يكن هناك شيء مستور وممنوع من النظر إليه لما أمر الله بالغض عنه، وعفا عن نظر الفجأة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:(اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى (1) يحك به رأسه، فقال النبي: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).

ولهذا أمر المؤمنين بعدها بأن يفهموا أن الغاية من الاستئذان أن يغضوا من أبصارهم عما لا يحل لهم النظر إليه والغاية من غض البصر ليحفظوا فروجهم وفي كل ذلك زكاة لهم وهو سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم.

(1) مدرى: المشط.

ص: 101