الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدر من دراهم، وخمسة تخوت من قماش فاخر، وحملني على بغلة من مراكيبه. قال ابن حازم: فلم أملك نفسي دون أن حضرت باب الرشيد واستأذنته في غير وقت تكون لي عادة بذلك فأذن لي؛ فلمّا دخلت عليه تبسّم وقد رآني متغيّر الحالة، مضطرب الكون فبادرني وقال: يا محمد! أو أحدّثك بما جئت فيه؟! فقلت: جعلت فداك يا أمير المؤمنين! إنه أمر ليس فيه غير أخذ الروح، وزوال النعمة! فقال: خفّف عليك أبا عبد الله قد كان بينك وبين جعفر كيت وكيت، وقصّ عليّ حتّى لم يخلّ بحرف واحد! فقلت: يا أمير المؤمنين! طيّب الله قلبك، وجعل الجنّة مأواك! ليس العجب منك فإنكم أهل بيت وحي (110) صلوات الله عليكم أجمعين! العجب من جعفر! فقال: يا محمد! مع جعفر من الفراسة ما هو أعظم مما شاهدت! سأقصّ لك ما هو أعجب من هذا! فقلت: بلى جعلت فداك يا أمير المؤمنين! فقال: كان جعفر جالسا عندي منذ أيام ثم نهض وولاّني قفاه فتأمّلت إلى عنقه وقلت في نفسي: أترى إذا أمرت بضرب عنقه يقع السيف محاذيا رأسه أم محاذيا كتفيه؟ فالتفت إليّ من عند باب المخرج وقال: بل في الوسط يا أمير المؤمنين! فقلت له: وما ذاك! فقال: كلام خطر بقلبي جعلت فداك! قال ابن حازم: فتعجّبت لتوارد خواطرهما.
ذكر سنة ست وثمانين ومائة
النيل المبارك في هذه السنة
الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
ما لخّص من الحوادث
الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي بالله. وعمّال مصر مستقرون حسبما تقدّم في السنة الحاليّة.
وصل جعفر بن يحيى من التمكّن من الرشيد ما لم يصله أحد أبدا من أول زمان وإلى آخر وقت مما أجمعت الدولة وأرباب التواريخ على ذلك. فمن ذلك ما رواه الجاحظ قال؛ طلب جعفر الإذن من الرشيد ليفصد وجلس ذلك للخلوة مع ندمائه وجلساء حضرته بعد ما لبسوا خلع المنادمة، وجلسوا في مراتبهم، وأمر الحاجب أن يمنع عنه كلّ أحد ما خلا صالحا؛ ولم يذكر اسم أبيه-وكان صالح أحد ندماء حضرته. فبينا هم في أوائل أمورهم ومبتدأ سرورهم إذ حضر صالح بن علي عمّ الرشيد فظنّ الحاجب أنه صالح (111) الذي عناه جعفر فأذن له. فلم يشعر القوم إلاّ وقد أطلّ عليهم! فلمّا حقّقه جعفر < .... > أسرع إلى لقائه؛ ولم يكن صالح ركب إلى جعفر قطّ. فأشار لجعفر أن اجلس! وقال: ألبسونا ما لبستم من خلع المنادمة! فاستعظم ذلك جعفر! فقال: والله لا بدّ من ذلك! أحضر ذلك بين يديه فلبس وتعطّر وجلس إلى جانب جعفر وتناول قدحا وسمع عليه ألحانا وشرب ثم قال: والله ما ذقتها منذ عمري سوى في ساعتي هذه! هذا وجعفر قد تهلّل بقدومه وفعله وقال: يا سيّدي! لقد عطمت خطاك عليّ، وشققت والله على عبد بيتك! فهلاّ أمرتني بالمثول بين يديك لأمتثل أوامرك؟ فقال: أحببت زيارتك في محلّك، ولي حوائج إليك! فقال جعفر: ليأمر مولاي بمهما شاء ليقضى إن شاء الله! فقال: عليّ دين ألف ألف درهم! فقال جعفر: قد قضاها الله تعالى من مال أمير المؤمنين الرشيد! ثم ماذا! جعلت فداك! قال: إنّ ولدي عبد الله قد كبر وأحبّ الولاية، وأحبّ أن يعقد له على ما يليق بمثله! فقال جعفر: قد ولاّه أمير المؤمنين ما أحببت أنت له
من سائر ما هو تحت طاعة أمير المؤمنين من الدنيا! ثم ماذا؟ فقال: وأحببت أن تكون له بأمير المؤمنين صلة فإنه أهل لذلك! فقال جعفر: وقد زوّجه أمير المؤمنين هارون الرشيد ابنته آمنة وأمهرها من عنده ألف ألف! ثم ماذا؟ فقال:
قد تجاوز بك الإحسان فوق الظنّ فلله أنت! ثم نهض وشيّعه جعفر إلى باب الدار. قال الجاحظ، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: فعجبنا من إنعام جعفر لصالح في جميع ما طلب حتّى في زواج ابنة أمير المؤمنين من غير (112) إذنه في ذلك، ثم قطعنا بقية يومنا في ألذّ عيش وأهنئه، ثم بكرّنا إلى دار الخلافة فبينا نحن جلوس على الباب ننتظر الإذن، وجعفر قد جاز إلى عند الرشيد ساعة لم نشعر إلاّ بالأموال وقد حملت إلى دار صالح، والبنود تخفق على رأس عبد الله ولده بولاية مصر. ثم عقد له على ابنة الرشيد في ذلك اليوم وكان يوما عظيما لم ير الناس مثله في الاحتفال! فلمّا كان عشيّة ذلك اليوم اجتمعنا بحضرة جعفر فقال: أما تسألونني ما كان من أمري مع الرشيد بسبب صالح وولده؟ فقلنا: والله لقد وددنا ذلك وهيبة الوزير تمنعنا من السؤال فيه! فقال:
لمّا صرت عند أمير المؤمنين حكيت له أمر صالح وما كان منه وعبوره إلينا إلى حيث قال ألبسونا مما لبستم! فقال أمير المؤمنين: أحسن والله! ثم لمّا شرب فقال أمير المؤمنين: وأحسن والله ثمّ أحسن! فما كان منك إليه؟! فقلت: يا أمير المؤمنين! وهل لي يد تمتد إلى بيت الخلافة إلاّ بيد أمير المؤمنين؟! ذكر لي أنّ عليه ألفي ألف درهم فقلت: قد قضاها الله تعالى من مال أمير المؤمنين؛ فقال:
أحسنت والله! قد أمرنا له بذلك! ثم ماذا؟ فقلت: واختار أن يولّي ولده عبد الله عملا من أعمال أمير المؤمنين! فقلت: قد ولاّه الله وأمير المؤمنين ما أحببت! فقال: أحسنت والله قد وليته مصر حربا وخراجا! قلت: وأحبّ أن تكون له صلة بأمير المؤمنين فعقدت له على آمنة ابنة أمير المؤمنين! فقال: أحسنت والله قد زوّجته ابنتي آمنة ومهرتها من عندي ألف ألف درهم! فقلت: وكذا والله ضمنت له يا أمير المؤمنين! فجرى الأمر على ما رأيتم. قال إسحاق: فعجبنا والله لهذا التمكين. (113)