الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكبر الإخوة فمات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين في آخر خلافة الإمام الواثق بالله وفي ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر فكانت ولايته سبعا وعشرين سنة فأقرّ أخاه أحمد بن أسد على عمله. وكان كريما وفيه قيل (من البسيط):
ثوى ثلاثين حولا في ولايته
…
فجاع يوم ثوى في قبره حشمه
وأقام أحمد إلى أن توفّي في شهر رمضان سنة إحدى وستين ومائتين فكانت ولايته ثلاثين سنة. وكانت وفاته في أيام المعتمد على الله. وقد كان استخلف ولده نصرا على سمرقند مع سائر أعماله فأقرّه المعتمد وأصدر إليه عهده في شهر رمضان سنة إحدى وستين فبقي على الأعمال طوال أيام الطاهرية. وكان أخوه إسماعيل بن أحمد نائبا عنه ببخارى فوقع بينهما مشاحنة أدّت إلى محاربة فالتقيا فهزم إسماعيل نصرا وأسره (253) فلمّا رآه أسيرا ترجّل له وقبّل يده وأعاده إلى سمرقند واليا على سائر بلاد ماوراء النهر إلى أن توفي فوليها إسماعيل.
ذكر سبب ملك إسماعيل خراسان
وأسره عمرو بن الليث الصفّار
لمّا استمرت يد عمرو بن الليث الصفّار على خراسان حملته نفسه على منازعة إسماعيل على ماوراء النهر فكتب إلى الإمام المعتضد بالله يطلب منه التولية فأجابه، وكتب إلى إسماعيل سرا يأمره بمنابذة عمرو ويشجّعه ويقوّي قلبه على محاربته. ولمّا حصلت الإجابة لعمرو بعث حاجبه محمد بن بشر في جيش كثيف لقتال إسماعيل بن أحمد، وبلغ الخبر إسماعيل فكتب إلى عمرو:
إنك وليت دنيا واسعة، وإنما في يدي ماوراء النهر وهو ثغر الشرق؛ فاقنع بما
في يدك واتركني ردءا لك بهذا الثغر! فلم يجبه عمرو إلى ذلك. فأعاد الكتاب إليه يسأله أن لا يغرّر بالمسلمين في تعدية النهر فأعاد الجواب أنّي لو أشاء أن أسكّره بالبدر والأموال وأعبر العساكر عليه لفعلت! فلمّا علم إسماعيل أنه لا بدّ من محاربته جمع عساكره وعبر النهر إلى خراسان ولقي محمد بن بشر فهزمه وقتل في المعركة مع أكثر جيشه. ثم عاد إلى ماوراء النهر. فلمّا رجع المفلولون إلى عمرو أخذ في توبيخهم ولومهم على الانهزام فقال له بعض الأجناد: أيّها الأمير! إنّ إسماعيل قد طبخ فيما وراء النهر قدرا كبيرة وإنّما غرف لنا منها مغرفة والباقي بحاله فمتى شئت أن تذوق فافعل! فسكت عنه ثم تجهّز الصفّار وخرج بنفسه قاصدا حرب إسماعيل. وبلغه الخبر فسار إليه وعدّى (254) النهر كما فعل في الكرّة الأولى. فنزل الصفّار على بلخ ونزل إسماعيل بإزائه وقطع الميرة عنه ومنعه النفوذ إلى ناحية من النواحي فصار الصفّار كالمحاصر وندم على ما فعل وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل فعزم على الحرب فلم يكن بينهما كبير قتال حتّى انهزم الصفّار ومرّ على وجهه هاربا فمرّ بأجمة قيل له إنها أقرب الطرق فدخلها في خاصّته وأمر باقي العسكر بالرجوع في الطريق الجادّة قصدا أن يتبع عسكر إسماعيل الطريق الجادّة فينجو! فما سار في الأجمة إلاّ يسيرا حتّى وحلت دابته فلم يكن في نفسه حيلة وهرب من معه ولم يلووا عليه فأدركه السابقون من أصحاب إسماعيل فأسروه فخيّره إسماعيل بين بقائه عنده والتوجيه إلى باب المعتضد بالله فاختار التوجيه. فبعثه إلى باب الخلافة مع أشناس فوصل في أول جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين ومائتين فأمر الإمام المعتضد غلامه بدر بتلقّيه فلقيه وسلّم عليه عمرو وكنّاه ولم يؤمّره فاغتاظ بدر وزاد في إشهاره عند الدخول به، وأركبه جملا وحمله من المصلّى وشقّ به بغداد من باب خراسان؛ وكان في حال إشهاره تدمع عيناه وهو رافع يديه يدعو! فرقّ الناس له، وأمر المعتضد بحبسه في القصر فحبس إلى أن توفي في السجن يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين؛ فكانت مدة مملكته إلى حين أسره قريب من اثنتين وعشرين سنة.
وقيل إنّ المعتضد لمّا حضرته الوفاة أمر بقتله فأخرج وقتل.
ومن أخبار عمرو الصفّار؛ كان عمرو بن الليث إذا جلس للشرب وضع قلنسوته بين يديه وأجلس قوّاده أمامه وبين يدي كلّ منهم عمود ذهب أو فضّة (255) على أقدارهم. فإذا أعاد قلنسوته على رأسه قاموا بأجمعهم وأخذوا العمد بأيديهم لينظروا ما يأمرهم به فيمتثلوه. وكان ممن يحضر شربه أبو الفوارس صعلوك أحد القوّاد المستأمنة إليه فقال ليلة وهم على الشراب لمحمد بن زيدويه أحد أصفهسلاريّه الصفّار: هذا شاوك أيّها الأمير! وأشار بكأس! قال محمد بن زيدويه؛ فأعاد الأمير عمرو قلنسوته على رأسه فوثبنا كلّنا وفي أيدينا العمد فأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فلمّا كان السحر وجّه خلفي فأتيته وجلا فقال: لا بأس عليك اشتهيت أكل الرؤوس، وأحببت أن تساعدني عليها! وكشف طبقا بين يديه فإذا رأس صعلوك! فجفّ لساني وارتعدت فرائضي. ثم أخرج إليّ نصلين غير مغمدين وغمدا واحدا وقال: أغمدهما فيه! فقلت:
لا يمكن ذلك! فقال: وكذلك لا يجتمع أميران في جند! فإمّا تؤمّر وإمّا أؤمّر! فقلت: الله الله فيّ أنا عبدك ومملوكك والرجل غلط عليّ فيما قال، وإن أحببت قتلتني فهو بيدك، وإن استبقيتني فلخدمتك! فصرفني إلى منزلي وصفح عني وأبقى عليّ.
ومن أخباره. كان عمرو يشتري المماليك ويربّيهم ويهبهم لقوّاده فيكونون أصحاب أخبار عليهم ويجري عليهم الجرايات سرا فلا يخفى عنه خبر. خرج القاضي أبو رجاء يوما من منزله إلى مجلس عمرو فقدّم له مهر ريّض فركبه فنفر به في طريق خال وليس يراه أحد إلاّ غلامه فوقعت قلنسوته فأعادها ودخل إلى المجلس فقال عمرو: يا أبا رجاء! لم تركب المهارة؟ وإنما حقّك أن تركب القرّح فإنّ هذا الذي جرى عليك من سقوط قلنسوتك لا يليق بمثلك! فاشتدّ تعجّب أبي رجاء (256) وتحفّظ فيما بعد.
وكان ينفق في أجناده كلّ ثلاثة أشهر وله جعبة فيها تسعون سهما فيأخذ كلّ يوم سهما يخزنها غلام له اسمه ضاحك؛ فيرمي بذلك السهم إلى آخر نهاره ثم يودع في جعبة أخرى فإذا تفرّغت تلك الجعبة وامتلأت الأخرى ضرب طبل العطاء فيحضر الناس فأول ما يعرض فرسه بجميع آلاته وينادى باسمه فيوزن ثلاثمائة درهم وتحمل إليه فيأخذها بيده ويقول: الحمد لله الذي وفّقني لطاعة أمير المؤمنين حتّى استحققت الرزق! ثم يودعها خفّه فتكون لمن ينزعه. وكان أعور فركب ليلعب بالصوالجة فقال له أزهر أحد قوّاده: ليس بصواب لك أن تحضر هذا اللعب! قال: ولم؟ قال: ربّما أصابت عينك السليمة الكرة فتبقى بلا عين ونبقى نحن بغير أمير! فلم يعاود اللعب بعدها. وكان يجحف بالأغنياء ويلطف بالفقراء ويقول: إنما يطلب الشحم في بطون البقر لا في بطون العصافير! ومن مليح الشعر قول البسّامي في عمرو وقد أرجف بدخوله الكرج (من الخفيف):
أنا عبد الصفّار إن فرّج اللّ
…
هـ هموم القلوب بالصفّار
لا يغرّنك الجواشن والبيض
…
فمن تحتها قلوب العذارى
وإذا مالقوك بالخيل فاعلم
…
أنّها عدّة ليوم الفرار
وقال من قصيدة بعد دخوله أسيرا إلى بغداد مشهورا على جمل يصف سعادة بني العبّاس (من الطويل):
وحسبك بالصفّار نبلا وهمّة
…
يروح ويغدو للجيوش أميرا
حباهم بأجمال ولم يدر أنّه
…
على جمل منها يقاد أسيرا
وكانت سيرة الصفّار كسيرة أخيه يعقوب إلاّ أنه كان أقرب للطاعة (257).
وفيها قتل محمد بن زيد الداعي صاحب طبرستان وقام بالأمر بعده الناصر للحقّ الحسن بن عليّ ثالث العلويين حسبما يأتي من خبره في سنة ثلاثمائة واثنا عشر. وسبب ذلك لمّا أسر إسماعيل بن أحمد بن سامان عمرو بن الليث الصفّار وملك خراسان سار محمد بن زيد إلى جرجان فملكها وحصل له بها من أموال عمرو ودفائنه ما سوّل له أنه يقصد خراسان فكتب إليه إسماعيل يستنزله عن جرجان وأمره بالرجوع إلى طبرستان فأبى فسيّر إليه إسماعيل خليفة كان لرافع بن هرثمة يقال له محمد بن هارون السرخسي في جيش عظيم فالتقى الجمعان على باب جرجان فاستظهر الداعي وانهزم جيش خراسان. ثم وقف محمد بن هارون على قرب من البلد لعادة جرت للخراسانيين بعد الهزائم فثاب إليه الناس والمهزومون من أصحابه، وانتقضت صفوف الداعي وتفرّق عسكره في طلب النهب فكرّ عليه السرخّسى بعد اليأس منه فهزمه وقتل أكثر عسكره وفقد الداعي وأسر ابنه زيد بن محمد وأحضر بين يديّ السرخّسي فسأله عن أبيه فقال: كنت معه وفارقته وقت الهزيمة. فبينا هو يخاطبه إذ مرّ فارس من الخراسانية يجرّ فرسا فقال زيد: هذا فرس أبي! فاستدعاه محمد بن هارون وسأله عن فارسه فقال: نكّسته وجرحته وها هو على ضفّة النهر! فصاروا إليه فأخذوه وهو مثخن بالجراح فمات بعد يوم ونقل ولده زيد إلى بخارى فأقام بها إلى أن توفي، وله بها عقب. وكانت الوقعة يوم الجمعة لخمس خلون من شوّال سنة سبع وثمانين ومائتين. فمدة مملكته سبع عشرة سنة وأشهرا زاحمه فيها رافع بن الليث ثلاث سنين. (258)
وفيها ظهر أبو سعيد القرمطي حسبما يأتي من ذكره في الجزء الذي يتلو هذا الجزء المتضمّن أخبار العبيديين خلفاء مصر كون هؤلاء القرامطة أصلهم