الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة سبع وثمانين ومائة
النيل المبارك في هذه السنة
الماء القديم ذراعان وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
ما لخّص من الحوادث
الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي بالله. فيها خرج الليث بن الفضل إلى العراق، ووليها أحمد بن إسماعيل حربا. ومحفوظ على الخراج بحاله. وعبد الرحمن بن عبد الله العمري القاضي يومئذ بمصر.
فيها كانت نكبة البرامكة سلخ المحرّم من هذه السنة.
ذكر نكبة جعفر بن يحيى بن خالد وجميع آل برمك
اختلف المؤرّخون في سبب كائنة جعفر المذكور ونكبة آل برمك اختلافا كثيرا فذهب كلّ منهم إلى ما اتّصل به وحقّقه ثم رواه. والقريب من ذلك ما رواه الطبري رحمه الله تعالى ثم ما رواه المسعودي رحمه الله تعالى في كتابه المعروف بمروج الذهب. وقد ذكرت ذلك في كتابي الذي ألّفته قبل هذا التاريخ وسمّيته بأمثال الأعيان وأعيان الأمثال، وحذوت فيه حذو كليلة ودمنة، وأقمت مقام كلّ حكاية من حكاياته واقعة من نكت التاريخ تليق في مكانها، وجعلته اثنتي عشرة محاضرة، وأسّست بناءه على إقامة اسمين مجهولين أحدهما على صورة تنّين وسمّيته بناطق الطنين، والآخر صورة ثعلب وسمّيته
حاذق الأمين. واخترعت فيه من المحاضرات ما يلتذّ بها السامع التذاذ المسرف بالمسكرات، وأثبتّ فيه كائنة البرامكة من رواية المسعودي فلا أذكرها في هذا التاريخ حرمة لذلك الكتاب المقدّم ذكره، وخشية (114) أن يتكرّر الكلام فيما ألفته، فيقع الخطأ، ويعود من عيوب الشعر بمنزلة الإيطاء. وعلى الجملة فإنّ المؤرّخين أجمعوا أنّ سبب نكبتهم أخت الرشيد. فمنهم من ادّعى أنّ اسمها العبّاسة. ومنهم من قال ميمونة؛ وكان الرشيد يحبّها ولا يطيق الصبر عنها، وكذلك جعفر في منزلتها عنده في المحبّة فقصد أن يعقد له عليها لتحلّ له بالنظر وأوصاه أن لا يطمع نفسه منها بغير النظر. وكان كلّ من في القصر لا يحجب عن جعفر إلاّ زبيدة أمّ الأمين وهي تكنّى أمّ جعفر؛ وكانت تكره جعفرا ويحيى وجماعة البرامكة، وكانوا يحصرون عليها نفقاتها وإنعاماتها، ولا يجيزون أوامرها فشكت ذلك للرشيد فقال ليحيى: يا أبه! إنّ أمّ جعفر تشكو منك! فقال: أمتّهم أنا يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاذ الله! فقال: فلا يرجع أمير المؤمنين لأقوال النساء! ثم قوّى يحيى وجعفر الاحتجاز عليها فقلقت لذلك ولم تطق الصبر عليه؛ وكان الرشيد قد غزا في تلك السنة الروم وغاب مدّة وترك جعفر وراءه. فلمّا قدم الرشيد قال لزبيدة: لو وجدت من يعرّفني ما كان فعل جعفر في قصري! أنا متعوب وهو مستريح! فقالت: يا أمير المؤمنين! أرجو أنّ الزمام يحدّثك! فاستدعى بمسرور وجلس جلسة الغضب وقال: حدّثني ما فعل جعفر في قصري! فقال: يا أمير المؤمنين! لا علم لي إلاّ أنّ الساعة دفعت إليّ أختك ميمونة هذه الرقعة وقالت: ادفعها لجعفر! ففضّها فإذا فيها مكتوب (من الطويل):
عزمت على قلبي بأن يكتم الهوى
…
فصاح وأنبا إنني غير فاعل
(115)
من ميمونة المتيّمة بالهوى إلى سيّدها جعفر الذي بيده الداء والدواء.
فقال الرشيد: ويلك! أو كان بينهما أمر قبل هذا؟! فقال: يا أمير المؤمنين! رزقت منه ولدين اسم أحدهما حسنا والآخر حسينا وهي الآن حامل وأنت زوّجتها به وأذنت لها في الاجتماع به! فقال الرشيد: نعم على غير هذا كان! قال الطبري رحمه الله؛ قال مسرور: فأمرني بضرب عنق أرجوان الزمام الذي كان على باب أخته ثم قال: عليّ بعشرة فعلة فأتيت بهم فأمر بحفر سرداب عميق ثم دخل فوجد أخته ميمونة في الحليّ والحلل تتجلّى كالطاووس الذكر فأمر بها فكتّفت بشعرها ثم أحضر ولديها فذبحهما في حجرها وجعلها في صندوق وولديها معها وأقفله وأمر بحمله فحملته الفعلة إلى السرداب فألقاه فيه ثم أمرني فضربت رقاب الفعلة خيفة أن يشيع الخبر بين العامّة ففعلت وألقوا في الحفيرة. ثم أصبح وجلس مع زبيدة فقال لها: كيف حالي مع البرامكة! قالت:
أغريقا في بحر كنت؟! قال: نعم! قد كنت كذلك، ولكن قد أفقت الآن! فقالت زبيدة: إني أخاف عليك إذا خرج جعفر إلى خراسان، وكان خارجا بالغد إلى خراسان يكشف أحوالها ويجمع أموالها. فلمّا كان ذلك الغد خرج فجلس مجلسا عاما. قال يحيى بن أكثم: دخلت على الرشيد في ذلك اليوم فرأيت الشرّ لائحا عليه فنظر إليّ وقال: يا ابن أكثم! أنظر إلى الخيل كيف وجوهها إلى باب جعفر وأذنابها إلى أبوابنا! فقلت: يا أمير المؤمنين! ومن جعفر؟ (116) رجل من بعض خدمك! فقال لي: يا أكثم! هذا هو الاستخفاف! والله لا صبرت على هذا! ثم تنفّس تنفّسا شديدا وفي نفسه أمر عظيم.
قال الواقدي-وهو من علماء التاريخ-:ودخل عليه في ذلك النهار جعفر يستأذنه في الخروج. وقيل إنه كان عقد له اللواء على خراسان وقلّده وولاّه-هذا من رواية الواقدي رحمه الله. وقال الدولابي: بل كان متوجّها لكشف أحوالها كما قد تقدّم من القول في ذلك. فقال الرشيد: ليس بالرأي خروجك يوم الجمعة ولكن يكون يوم السبت من الغد فهذا يوم مذموم في الاصطرلاب! فلم يرجع جعفر لقوله بل قام وتناول الاصطرلاب وأخذ الطالع
وحسب-وكان فاضلا عالما جدا؛ فقال: صدقت-والله-يا أمير المؤمنين هو كما ذكرت! ثم خرج من عنده. قال مسرور: فاستدعاني الرشيد وقال لي:
اضرب لي القبة الحمراء في وسط القصر وضع فيها الدست المذهّب والإبريق ففعلت. فلمّا مضى من الليل شطره طلبني وقال: إمض في هذه الساعة إلى جعفر وقل له: قد وصلت خريطة من خراسان ولم يقرأها أمير المؤمنين حتّى تحضر، فهل لك في الحضور؟ قال مسرور: فمضيت لما أمرني به ودخلت على جعفر وهو في مضجعه فقال: ليس لي معه لا نوم ولا قرار، ما الخبر؟ فعرّفته فلمّا سمع بأمر خراسان نهض فأفرغ عليه ماء ثم لبس أفخر الثياب وخرج ومعه ألف مملوك بالمناطق الذهب. وكان جعفر قد اشتمّ بعض خبر فكان شديد الحرص على نفسه، وكان الرشيد قد أمر البوّابين والحجّاب مع جماعة كبيرة رتّبهم معهم مختفين أن لا (117) يمكّنوا أحدا ممن يصحبه جعفر من العبور معه؛ وكان من عادته أنه لا يلتفت إلى خلفه أبدا. فلمّا وصلنا إلى القصر دخل جعفر مسرعا فلم يشعر بنفسه إلاّ وهو وحده فالتفت إليّ وقد فهم ما يراد به فقال: يا مسرور! هذا وقت الصنيعة راجع فيّ أمير المؤمنين فإن أمر برأسي فلك ذلك وإلاّ فأكون عتيقك، ولك من الأموال سبعين قفلا من عين، والله على ما أقول وكيل! قال مسرور: فرحمته وتركته محتفظا به، ودخلت على الرشيد فلمّا رآني غضب وقال: ويلك! أين رأس جعفر؟ إن كنت عجزت عنه فعندي من هو أشدّ منك يأخذ رأسك ورأسه! قال؛ فخرجت مسرعا فوجدت جعفر يصلّي فضربت عنقه في سجوده، وجعلت رأسه في الطست، وغطّيتها بالمنديل الذهب ثم دخلت بها إلى الرشيد فلمّا رآها بكى وأغمي عليه ساعة ثم قال: يا مسرور! أما كنت ترفق به؟ أما كنت تعلم أنه كان يحبّك ويعرف مقدارك؟ ثم بكى وأغمي عليه ثانية فلمّا أفاق قال: يا جعفر! خوّلناك ورفعناك وائتمنّاك فلم تف لنا ففعلنا بك ما تستحقّ! ثم قال: يا مسرور! عليّ بالأمين والمأمون وابن حميد متولّي بغداد فأشخصتهم فقال: تركبون في هذه الساعة إلى منازل