الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البرامكة فيقتلون بأسرهم إلاّ يحيى بن خالد والفضل ولده يصفّدا ويحضرا ثم تخرّب جميع منازلهم وتحرّق بالنيران حتى تصير دكا. قال مسرور: فلم يطلع الفجر حتى قتل ألف ومائتي وزير وكاتب ومستصحب ثم نقلنا الأموال وخرّبنا الآدر، وقسّم جعفر نصفين (118) وصلب نصفه بالجانب الغربي، ونصفه بالجانب الشرقي، ونصبت رأسه على باب القصر. وأمر بالفضل بن يحيى ويحيى أبوه إلى السجن. انتهى كلام الواقدي رحمه الله في خبر البرامكة ممّا رواه الطبري، والله أعلم.
ذكر سنة ثمان وثمانين ومائة
النيل المبارك في هذه السنة
الماء القديم ذراعان وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد.
ما لخّص من الحوادث
الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي. وأحمد بن إسماعيل على الحرب بمصر، ومحفوظ على ضمان الخراج بها. والقاضي عبد الرحمن العمري بحاله مستمرّ.
وأمّا ما ذكره المسعودي في قتلة جعفر فقد تقدّم القول إنّ العبد أثبت جميع ذلك مفصّلا في كتابه المعروف بأمثال الأعيان وأعيان الأمثال. ولنذكر منه هاهنا كلاما مجملا. قال المسعودي إنّ الرشيد لمّا عقد لأخته العبّاسة على جعفر لتحلّ له بالنظر لم يرفع جعفر رأسه إليها قطّ ولا تمقّل لها وجها أبدا.
وكان جعفر جميلا بارعا في الجمال، لذيذ المفاكهة، راويا من كلّ فنّ، جامعا لسائر العلوم والآداب؛ فأحبّته أخت الرشيد محبة ما عليها مزيد وراسلته فامتنع ونهر رسولها وتهدّده فلمّا يئست منه احتالت عليه بأمّه وصحبتها حتّى ملكت قلبها ولم تزل بها في حديث طويل أثبتّه بكماله في ذلك الكتاب-حتّى احتالت على ولدها جعفر وأوهمته أنها جارية شرتها وعلّقت قلبه بذكرها ورصدته حتّى أتى ليلة من عند الرشيد وقد طفح به السكر، وكانت أخت الرشيد قد تنكّرت في تلك الليلة وحضرت إلى عند أمّ جعفر (119) فأخلتها معه وهو يظنّ أنها تلك الجارية التي وعدته أمّه بها فواقعها فوجدها بكرا فلمّا نهض عنها قالت له: كيف رأيت حيل بنات الملوك؟ فقال: وأيّ بنات الملوك أنت؟! فقالت: أنا زوجتك العبّاسة أخت مولاك أمير المؤمنين! فعندما سمع ذلك سقط إلى الأرض ولم تحمله ركبتاه وقال: والله لقد عملت على خراب بيوت آل برمك إلى آخر الأبد! ثم إنها علقت منه وولدت واستمرّ أمرها معه، واحتسبت لا يعلم بأمر ولدها فأنفذته إلى المدينة النبوية على ساكنها السلام. ثم إنّ زبيدة نمّت عليها وعلى جعفر لبغضها في آل برمك، وعرّفت الرشيد ما كان من جعفر وأخته سرا فحجّ في تلك السنة وتوقّع على الولد حتّى ظفر به وصحّح الخبر وكتم أمره حتّى أوقع بجعفر. وقال المسعودي في قتلة جعفر إنها كانت بسرّ من رأى في المخيّم، وإنّ الرشيد خرج مع جعفر ليودّعه عند مسيره إلى خراسان، وإنه جلس تلك الليلة التي قتله فيها مع الرشيد على مجلس الشراب وعاد الرشيد يشرب نصف الكأس ويعطيه لجعفر ويتناول أيضا منه نصف كأسه فيشربه منه، وجعل فخذه على فخذه ولم يزالا كذلك حتّى نهض جعفر يريد المضيّ إلى
مخيّمه فقام الرشيد لقيامه ومشى معه خطوات وجعفر يعزم عليه في ردوده إلى مرتبته ويقبّل يديه، ولم يزل حتّى شيّعه إلى باب القبّة ثم عانقه وقبّله ورشفه وبكى وبكى جعفر أيضا ساعة ثم عاد الرشيد وجلس وأمر بحضور شرار الخادم؛ وكان هذا شرار بشع المنظر، وكان جعفر يكرهه وإذا أراد الرشيد أن يمزح مع جعفر يدع شرارا هذا يأتي إليه (120) ويداعبه ويعبث به، وكان جعفر يكرهه أشدّ كره؛ قال؛ فلمّا عاد الرشيد إلى مرتبته أحضر شرارا وقال له: يا شرار! إني قد انتدبتك لأمر لم انتدب فيه الأمين والمأمون! قال؛ فقبّل شرار الأرض وقال: الله الله يا أمير المؤمنين! والله لو أمرتني أن أنحر نفسي بيدي لفعلت ذلك! فقال: أما نظرت إلى ما كان مني في هذه الليلة إلى جعفر؟! قال: بلى يا أمير المؤمنين! فقال: إفهم كلامي ولا تظنّ أنّ بي ثملا من شراب! فقال: أعوذ بالله! يأمر أمير المؤمنين بما شاء! قال؛ فناوله
…
من على ركبته وقال: إمض في هذه الساعة واطلب جعفرا وقل أجب أمير المؤمنين بسرعة في شيئ سهى عنه وقد تفكّره ليوصيك بعمله فإنه سيقوم معك فإذا صار في باب الدهليز اضرب عنقه وأتني برأسه في الطست الذهب! قال؛ فارتعدت رجلا العبد وبهت فلمّا رآه الرشيد كذلك قال: يا شرار! وتربة المهدي والمنصور لئن لم تأتني هذه الساعة برأس جعفر لا ضربنّ رأسك! قال؛ فخرج شرار وأحضر جعفرا وهو يظنّ أنه أنفذه ليمازحه فوصل إلى باب الدهليز وهو يشتم شرارا ويسبّه فلمّا فهم المراد به قال: يا شرار! عاود في أمير المؤمنين، وتثبّت في أمرك، ولك عندي خزائن الأموال! وها أنا قد حصلت فادخل عليه فإن رأيته مصمّما على ما أمرك فافعل، وإن رأيته عاوده الندم والغلط تكون قد فعلت مراده، وأعود عتيقك! قال؛ فدخل شرار فلمّا رآه الرشيد قال: ويلك! وأين رأس جعفر؟! وصرخ حتّى سمعه جعفر فخرج شرار فضرب عنقه وأحضر <رأسه> في الطست فلمّا رآه بكى وأغمي عليه ساعة ثم أفاق فقال: يا
مسرور! فأجابه فقال: إضرب رأس شرار فإني لا أطيق أنظر قاتل جعفر! قال؛ ففعل ذلك! (121)
قلت؛ ما أحسن من قال: أشقى الناس بالسلطان صاحبه، كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا. وكقولهم: شبه أصحاب السلطان كقوم رقوا إلى جبل ثم سقطوا فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم في المرقى وشبّهوا صاحب السلطان كراكب الأسد؛ يهابه الناس <لموضعه> وهو لمركوبه أهيب. وقد قيل (من المتقارب):
بقدر الصعود يكون الهبوط
…
فإيّاك والدرج العاليه
وكن في منزل إذا ما سقطت
…
تقوم ورجلاك في عافيه
ومما حفظ من كلام جعفر بن يحيى قوله: الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم. وقوله: إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عناء، وإذا كان الإيجاز مقصّرا كان الإكثار أبلغ. وقوله: الخراج عمود، الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور. ووقّع إلى بعض العمال بدكين: كثر شاكوك وقلّ شاكروك، وترادف متظلّموك، وكثر بالشرّ ذاكروك؛ فإمّا اعتدلت وإمّا اعتزلت. والسلام. ووقّع أيضا: بئس الزاد إلى يوم المعاد العدوان على العباد.