الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخلع في شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين بعد بيعته بأربعة أشهر، وبويع عبد الله بن المعتزّ فلم يتم أمره غير يوم أو بعض يوم، وانتقض يويه وعاد المقتدر لولايته.
ذكر عبد الله بن المعتزّ بالله وقصته ولمع من أخباره وأدبه وأشعاره
<هو أبو العباس عبد الله بن محمد المعتزّ بالله. أمّه أمّ ولد اسمها حائن.
وهو الخليفة الذي قام يوما أو بعض يوم وانتقض أمره. قال صاحب كتاب الوزراء إنه كان سبب بيعة المقتدر بالله، وتخلية البيعة عن ابن المعتزّ ما أشار به أبو الحسن بن الفرات على الوزير أبي العبّاس لما كانوا يعلمون من عبد الله بن المعتزّ وتجند الأمور ولأجل أنّ المقتدر يوم ذاك طفل ليكونوا المتصرفين بغير منازع، فصحّ لهم ما طلبوه من ذلك حتى قتل أبو العباس الوزير ووزر ابن الفرات، وكان الغالب على الأمور النساء وسمّوا السادة وهنّ السيّدة أمّ المقتدر، وحاط ودستنبويه أمّ ولد المقتدر، والقهرمانة ثمل>.
كان عبد الله بن المعتزّ رحمه الله غزير الروية كثير الأدب، راو من كلّ فنّ، جامع بلاغة النثر إلى رقّة الشعر. فمن كلامه في الحكمة قوله: البشر دالّ على السخاء كما يدلّ النور على الثمر. وقوله: إذا اضطررت إلى الكذاب فلا تصدّقه ولا تعلمه أنك تكذّبه فيتنقل عن ودّه ولا ينتقل عن طبعه. وقوله: كما أنّ الشمس لا يخفى ضوؤها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبي لا يخفى
غزير عقله وإن كانت مغمورة بأخلاق الحداثة. وقوله: كرم الله عز وجل لا ينقض حكمته؛ وكذلك لا يعجّل الإجابة في كلّ دعوة كما أنّ السيف جلاه أهون من طبعه كذلك استصلاح الصديق أهون من اكتساب غيره. وقوله: إذا استرجع الله تعالى مواهب الدنيا كانت مواهب الآخرة. وقوله: لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب. وقوله: الحوادث الممضّة مكسبة لحظوظ (268) جزيلة منها ثواب مدّخر وتطهير من ذنب وتنبيه من غفلة وتعريف بقدر النعمة ومرور على مقارعة الدهر.
ومن نثره الجاري في باب المرقص قوله: الأرض عروش مختالة في حلل الأزهار، متوّجة بأكاليل الأشجار، موشّحة بمناطق الأنهار. والجو خاطب لها قد جعل يسير بمخصرة البرق ويتكلّم بلسان الرعد، وينثر من القطر أبدع نثار.
وكان أحمد بن سعيد يؤدّبه في صغره فتحمّل البلاذري على قبيحة أم المعتز بقوم سألوها أن تأذن له أن يدخل على ابن المعتز وقتا من النهار فأجابت أو كادت تجيب؛ قال أحمد بن سعيد: فلمّا اتّصل الخبر بي جلست في منزلي غضبا لما بلغني من ذلك فكتب إليّ ابن المعتزّ وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة يقول (من البسيط):
أصبحت يا ابن سعيد حزت مكرمة
…
عنها يقصّر من يحفى وينتعل
سربلتني حكمة قد هذّبت شيمي
…
وأجّجت نار ذهني فهي تشتعل
أكون إن شئت قسّا في بلاغته
…
أو حارثا وهو يوم الحفل يرتجل
وإن أشأ فكزيد في فرائضه
…
أو مثل نعمان لمّا ضاقت الحيل
أو الخليل عروضيا أخا فطن
…
أو الكسائيّ نحويا له علل
تعلو بداهة ذهني في مراكبنا
…
كمثل ما عرفت آبائي الأول
وفي فمي صارم ما سلّه أحد
…
من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له
…
تبقى معالمه ما أطّت الإبل
قسّ الذي ذكره هو قسّ بن ساعدة الإياديّ وقد سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلامه وتعجّب منه-وقد ذكرناه في أوّل جزء من هذا الكتاب.
والحارث هو الحارث بن حلّزة اليشكريّ ووصف ارتجاله يوم فخره بقصيدته (269) التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أوّلهما (من الخفيف):
آذنتنا ببينها أسماء
…
ربّ ثاو يملّ منه الثواء
وزيد هو زيد بن ثابت الأنصاريّ رضي الله عنه وإليه انتهى علم الفرائض. ونعمان هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت رضي الله عنه رئيس أهل العراق في الفقه. والخليل هو الخليل بن أحمد الفراهيديّ ويقال الفرهوديّ منسوب إلى حيّ من الأزد. والكسائيّ هو عليّ بن حمزة الكسائيّ الكوفيّ النحويّ، وكان مؤدّب الأمين والمأمون.
ومن كلام ابن المعتزّ: الكتاب فاتح الأبواب، جريء على الحجّاب، مفهم لا يفهم وناطق لا يتكلّم، به يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق. والقلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة، يسكت واقفا وينطق سائرا على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء. كأنه يقبّل بساط سلطان أو يفتح نوار بستان.
ومنها كقوله منظوما في القاسم بن عبيد الله؛ قال الصولي: لمّا عرض القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب خطّه على المعتضد ليخلف أباه؛ قال ابن المعتزّ (من الخفيف):
قلم ما أراه أم ملك يج
…
ري بما شاء قاسم ويشير
خاشع في يديه يلثم قرط
…
اسا كما قبّل البساط شكور
ولطيف المعنى جليل نحيف
…
وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم عطايا وكم حت
…
ف وعيش تضمّ تلك السطور
نقشت في الدجى نهارا فما أد
…
ري أخطّ فيهنّ أم تصوير
هكذا من أبوه مثل عبيد اللّ
…
(م) هـ يسمو إلى العلى ويصير
<وقال أيضا في أبيه عبيد الله بن سليمان بن وهب (من الطويل):
عليم بأعقاب الأمور كأنّه
…
بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه
…
تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا>
(270)
وعبد الله بن المعتزّ إمام المشبّهين. ووقع له في تشابيهه من المعاني المبتكرة ما فاق بها على من تعلّق بالتشبيه؛ فمن ذلك قوله (من البسيط):
سقى الجزيرة ذات الظلّ والشجر
…
ودير عبّدون هطّال من المطر
فطال ما نبهتني للصبوح به
…
في غرّة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم
…
سود المدارع نعّارين في السحر
مزنّرين على الأوساط قد جعلوا
…
فوق الرؤوس أكاليلا من الشجر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل
…
بالسحر يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتّى استقاد له
…
طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا
…
يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فبتّ أفرش خدّي في التراب له
…
ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
…
شبه القلامة قد قدّت من الظفر
وكان ما كان ممّا لست أذكره
…
فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
وله من التشابيه الداخلة في المرقصات قوله (من الطويل):
سقتني في ليل شبيه بشعرها
…
شبيهة خدّيها بغير رقيب
فما زلت في ليلين بالشعر والدجى
…
وشمسين من خمر ووجه حبيب
وله من ذلك أيضا (من الوافر):
وفتيان سروا والليل داج
…
وضوء الصبح متّهم الطلوع
كأنّ بزاتهم أمراء جيش
…
على أكتافهم صدّأ الدروع
وله في تشبيه الهلال أيضا وهو هلال الفطر يقول (من الكامل):
أهلا بفطر قد أنار هلاله
…
فالآن فاغد إلى الشراب وبكّر
وانظر إليه كزورق من فضّة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر (271)
وله في تشبيه البنفسج ما هو داخل في باب المرقص قوله (من البسيط):
بنفسج جمّعت أوراقه فحكت
…
كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت
كأنّه وضعاف القضب تحمله
…
أوائل النار في أطراف كبريت
وقوله (من البسيط):
ساروا وقد خضعت شمس الأصيل لهم
…
حتّى توقّد في ذيل الدجى الشفق
وله (من الوافر):
كأنّ سماءنا لمّا تجلّت
…
خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل نداه
…
تفتّح بينه نور الأقاحي
وقد ضمّنت كتابي الذي وسمته بالمذاكرة والمفاخرة وآداب المعاشرة جملة كبيرة من تشابيهه البديعة ممّا يغني <؟؟؟ > إعادتها هاهنا، وتخرج عن الغرض في التاريخ. وله من التصانيف عدة كتب نفيسة. وكان يقول: ولو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه؟ لقلت قول العباس بن الأحنف (من البسيط):
قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا
…
وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم
…
وصادق ليس يدري أنّه صدقا
وهذا الشعر أيضا من أعلى المرقصات طبقة. ولنعد الآن إلى سياقة التاريخ بحول الله تعالى ومعونته.
وذلك أنه لمّا ولي المقتدر بالله دبّر الأمور الوزراء والكتاب، وغلب على أمرهم النساء والخدم حتّى أنّ جارية لأمّه تعرف بثمل القهرمانة كانت تجلس للمظالم وتحضرها الفقهاء والقضاة. وكان الوزير العباس بن الحسن فأساء
السيرة، وتعاظم في نفسه، وامتنع، وحجب نفسه عن الناس، وزاد كبره على القوّاد فاجتمع القوّاد والحاشية ووثبوا عليه فقتلوه وبايعوا لعبد الله بن المعتزّ بعد خلعهم للمقتدر بالله. وكان الذين قاموا بهذا الأمر الحسين بن حمدان ومحمد بن داود بن الجراح مع جماعة (272) من القواد وقالوا إنّ المقتدر غير بالغ وإنّ إمامته لا تجوز! فخلعوه وبويع عبد الله بن المعتزّ، ولقّب المرتضى بالله؛ وذلك يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ست وتسعين ومائتين. ثم اضطرب أمره وضعف ثاني يومه لمّا أراد الانتقال إلى دار الخلافة دارت عليه الدائرة، وغلبت عليه حرفة الأدب، وحاربه غلمان المقتدر بمعونة العامة لهم فهزموا أصحاب ابن المعتزّ حتى تهاربوا. وهرب ابن المعتزّ واستتر عند أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بالجصّاص التاجر الجوهريّ فوشي به فقبض عليه بعدما أعيدت البيعة للمقتدر بالله، وسلّم ابن المعتزّ لمؤنس الخادم فأخرج ميّتا من دار السلطان يوم الخميس لليلتين خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وسلّم إلى أهله فدفن في خراب بإزاء داره وله خمسون سنة. ولمّا مات رثاه عليّ بن بسّام فقال (من البسيط):
لله درّك من ميت بمضيعة
…
ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوّ ولا لولا فينقصه
…
وإنّما أدركته حرفة الأدب
وفي هذه السنة ظهر عبيد الله المهديّ بالمغرب وأخرج الأغالبة الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في الجزء المختص بذكر العبيديين وهو الجزء التالي لهذا الجزء.
وفيها قتل أبو سعيد القرمطي المعروف بالجنابي الآتي ذكره أيضا في ذلك الجزء إن شاء الله تعالى وأوصى لولده سعيد.
وفيها قام بأمر دولة الصفّاريّة الليث بن علي بن الليث ابن أخي عمرو الرابع من الصفارية. وذلك أنه لمّا اشتغل طاهر بن محمد بن عمرو باللهو والصيد خرج عليه الليث (273) بن علي بن الليث ابن عم أبيه في هذه السنة فأخرجه من سجستان فسار إلى بلاد فارس هو وأخوه يعقوب بن محمد فثقل على سبكري مقامهما فحدّث نفسه بالقبض عليهما، وبتقلّد أعمال فارس من قبل الخلافة فكاتب الوزير أبا الحسن علي بن الفرات فقلّده ونقل إليه الكتاب فقرأه عليهما فاستكبرا ذلك واستمالا جماعة من القوّاد وخرجا عن البلد وخرج سبكري إليهما فهزماه ومرّ إلى داره، وتشاغل أصحابهما بالنهب فكرّ عليهما سبكري فقبض عليهما وبعث بهما إلى بغداد وسأل أن لا يشهرا فأدخلا في عمارية مكشوفة مقيّدين وعليهما ثياب بياض. وأعظم الناس ما فعله سبكري ولعنوه. وكانت مدّة ولاية طاهر بن محمد نحو من عشر سنين. وكان قد غلب الليث بن علي على سجستان حسبما ذكرناه فاستخلف عليها أخاه المعذّل بن الليث، وسار إلى بلاد فارس فهرب السبكري بين يديه إلى رامهرمز وأرّجان وطلب النجدة من السلطان فجرّدت الجيوش من بغداد في شهر رمضان من هذه السنة، وقدّم مؤنس المظفّر عليها، وانضمّ إليه بدر الكبير والحسين بن حمدان، واجتمعوا بالسبكري، والتقوا مع الليث بن علي بن الليث فكسروه وانهزم جيشه وأسروه وأخوه محمد وابنه إسماعيل بن الليث وابن عمّه الفضل. واستقرّ مؤنس ببلاد فارس وولاّها السبكري بعد أن أمره الخليفة بذلك. وقيل إنه لم يولّ