الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاءه خبر عزله عن المدينة وأقبل الوالي الجديد الذي سيلي المدينة بعده وهو عثمان بن حيان المري وهو يتهددهم ويتوعدهم وأرسل حراسه يبحثون عن العراقيين ويسوقونهم إلى السجن، أما عمر فقد خرج ليلا من المدينة هو ومزاحم خفية عن أعين الناس وتذكر حين خروجه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده ما خرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه أو ماله (1)» ، وتذكر أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:«المدينة تنفي خبثها (2)» ، فاضطرب وقال: يا مزاحم: نخاف أن نكون ممن نفت المدينة (3).
وفي الموطأ بلغني أن عمر بن عبد العزيز حين خروجه من المدينة التفت إليها ثم بكى وقال: يا مزاحم: أتخشى (4) أن نكون ممن نفته المدينة (5).
وواصل رحلته حتى وصل قرب دمشق وأقام بالسويداء بمقاطعة له بعيدا عن الضوضاء.
(1) موطأ مالك الجامع (1641).
(2)
صحيح البخاري الحج (1883)، صحيح مسلم الحج (1383)، سنن الترمذي المناقب (3920)، سنن النسائي البيعة (4185)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 393)، موطأ مالك الجامع (1639).
(3)
الطبري ص 51.
(4)
في البداية ص 9 ص 195: نخشى.
(5)
الموطأ ص 2 ص 889 في الجامع: باب ما جاء في سكن المدينة والخروج منها.
كلمة حق عند سلطان جائر:
جلس عمر في مقاطعته بالسويداء وراجع نفسه وما حوله فوجد العالم الإسلامي يموج في بحر متلاطم من الظلم والجور، فالولاة يظلمون الناس وينهبون أموالهم ويأكلونها ظلما وعدوانا ولا رقيب عليهم ولا حسيب، والبلاء يزداد في كل يوم ونار الظلم تشتعل ويشتد أوارها ويندلع لهيبها ولا يصطلي بها إلا الضعفاء من عامة الناس، فيا ويل من قصر في دفع المطلوب منه مهما كان كثيرا، والوليد يسمع ويرى ويعينهم على ظلمهم وبغيهم، وقد أطلق يد الحجاج في قصف رقاب العباد وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
ومن أجل هذا كله فكر عمر ثم رأى من واجبه أن يتحرك وأن ينصح الخليفة فإذا لم يسمع النصيحة ويستجب لها يكون قد أدى ما عليه تجاه دينه، ولا يهمه أغضب الخليفة أم رضي، ما دام قد أوصل كلمة الحق إليه وأعلنها صريحة مدوية ليبرئ ذمته أمام الله يوم القيامة.
فأخذ طريقه إلى دمشق حيث الوليد بن عبد الملك فنصحه في عماله وولاته وعنف عليه في النصح، وذات يوم قال له:
- يا أمير المؤمنين، إن عندي لك نصيحة، فإذا خلا لك عقلك واجتمع فهمك فسلني عنها. قال الوليد:
ما يمنعك الآن؟
قال:
- أنت أعلم. إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم.
فسكت الوليد أياما، ثم دخل عليه عمر في جماعة من أهل الشام.
فقال الوليد:
- نصيحتك يا أبا حفص.
ولعله أراد بذلك أن يحرجه فيخفف، ولكن عمر لم يخفف من صريح النصح فقال: - إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وإن عمالك يقتلون ويكتبون لك ذنب المقتول، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحدا حتى يكتب إليك بذنبه، ثم يشهد عليه ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فكتم الوليد غيظه وقال:
- بارك الله فيك يا أبا حفص:
ثم رأى الوليد أن يجرب فكتب إلى الأمصار وخص الحجاج بن يوسف بما في نصيحة عمر، فكان جواب الحجاج أن يرسل إلى الوليد برجل حروري من الخوارج كان يسب الخلفاء من بني أمية ثم يسمو في ذلك صعدا ويزداد سبا حتى يبلغ الوليد فيستوفي له الشتم والسب لأنه يراه أجور الخلفاء وأظلمهم ولا سيما حين استعمل الحجاج
على العراق.
وأرسل الوليد إلى عمر في الظهيرة في وقت لم يكن يرسل إليه فيه فحضر فدخل عليه فإذا هو قاطب بين عينيه فقال له:
اجلس هنا. وأشار إلى مجلس الخصوم بين يديه، فجلس عمر وليس عند الوليد إلا الحرسي القاسي القلب خالد بن الريان قائما بسيفه.
فقال الوليد للحروري: -
- ما تقول في فلان وفي فلان من الخلفاء؟ فسبهم الحروري ولعنهم. ثم قال:
- وما تقول في؟ فقال الحروري: ظالم جائر جبار.
فقال الوليد لحارسه خالد بن الريان:
- اضرب عنقه. فضرب الحرسي عنقه.
ثم عاد الوليد على عمر فقال له. كيف ترى فيمن سب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت عمر. فانتهره الوليد. وقال: ما لك لا تتكلم؟ فظل ساكتا لا يتكلم. وعاد الوليد واستمر عمر في صمته. ولما برم عمر بالوليد قال: - ينكل به. فازداد غضب الوليد لأنه كان يريد من عمر أن يفتي بقتله. ثم ترك مجلسه ودخل إلى بيته؛ وأشار ابن الريان إلى عمر بالانصراف. قال عمر: فانصرفت وما تهب ريح من ورائي إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه (1) وكانت منزلة عمر تزداد يوما بعد يوم وحب الناس له يتعاظم ولهذا رأى الوليد أن يستعين بعمر حين فكر في خلع سليمان من ولاية العهد وجعلها في أبنائه فقال له عمر:
(1) ابن عبد الحكم ص 25.