الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك نشأ في كنف والديه تحت ظل الحب الوافر والعناية البالغة، واهتم والده بتعليمه وتربيته منذ نعومة أظفاره.
فلما بلغ السادسة من عمره أرسله إلى رهبان؛ ليتعلم منهم الإنجيل، فحفظ قرابة نصف الإنجيل عن ظهر قلب في عامين فقط، وواصل دراسته إلى أن تعلم لغة الإنجيل وعلم المنطق في ست سنوات (1).
(1) انظر تحفة الأريب ص (28).
رحلته لطلب العلم:
بعد ما تعلم مبادئ العلوم الدينية والمنطقية قام برحلة واسعة النطاق في طلب العلم، وكان ينتقل من مدينة إلى مدينة بغية الحصول على مزيد من العلم، إلى أن ألقى عصى الترحال في مدينة " بانولية " التي كان يسميها النصارى مدينة العلم، وقضى في تلك المدينة شطرا من عمره حتى بلغ أمانيه في العلم وانجلت له حقيقة التوحيد، وانكشفت له فضيحة التثليث، فعزم على معرفة الحق وقبوله. كما سيأتي تفصيله.
لقاؤه مع أكبر قسيس وملازمته إياه:
وفي الوقت الذي كان مقيما في مدينة " بانولية " التقى براهب كبير السن عظيم المرتبة كان يدعى " نقلاد مارتيل "، وما أن علم المؤلف رتبة هذا الراهب إلا ورغب في ملازمته وتقرب إليه بخدمته وامتثال أوامره، ولما أدرك الشيخ نباهة المؤلف وحرصه الشديد على حصول العلم قام بتشجيعه وإكرامه، فجعله أخص تلاميذه، وسلمه مفاتيح مسكنه وخزائنه.
هذا وقد لازم المؤلف ذلك الراهب الكبير عشر سنوات يتعلم منه النصرانية، أصولها وفروعها، حتى برع بين زملائه وفاق أقرانه.
النقاش حول شخصية فارقليط:
ولما طعن الشيخ في السن وأصابه الوهن بدأ يتخلف عن مجلس الدرس، وفي يوم من الأيام إذ كان متخلفا عن مجلس الدرس أثير الكلام حول شخصية " فارقليط " الذي بشر بنبوته عيسى عليه السلام، وقد وقع الخلاف بين أهل المجلس في تعيين هذا النبي وجرى بينهم نقاش طويل في هذا الصدد، وكل أدلى دلوه في غمار البحث، وأبدى رأيه في ضوء مبلغه من العلم والفهم إلا أن المجلس قد تفرق بهم دون أن يصلوا إلى نتيجة معينة رغم كثرة الكلام وطول النقاش.
ولما رجع المؤلف إلى منزل الشيخ سأله عما جرى بينهم من الكلام في غيبته.
فقال: يا سيدي كان موضوع الكلام في مجلس اليوم شخصية " فارقليط ".
وقد وقع بيننا اختلاف كبير في تعيين المراد من هذا النبي، وقد حكى المؤلف أمامه مفصلا ما قاله الحاضرون في هذا الصدد، فسأله الشيخ: وبماذا أجبت أنت؟
فقال: بما قاله القاضي فلان في تفسيره.
فقال: ما قصرت، ويكاد يكون جوابك صحيحا، وأما قول فلان
فهو خطأ، وأما قول فلان فهو قريب من الصحة، وجعل يضعف آراء أهل المجلس إلى أن قال:
إن تفسير هذا الاسم المبارك لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، وما أن سمع المؤلف هذا الكلام إلا وقد خر على قدميه وقبلهما، ثم قال:" يا سيدي أنت تعلم أني قد جئتك من بلاد نائية لا أقصد إلا العلم، وألازمك منذ عشر سنوات، وقد تعلمت منك في هذه المدة كثيرا من العلوم والحكم، ويسعدني جدا أن يكون ختام فضلك علي وإحسانك إلى أن تعرفني بهذا الاسم المبارك، فلما سمع الشيخ هذا الكلام مني جعل يبكي، وخاطبني قائلا: " يا ولدي والله إنك عزيز علي بما لاحظت منك الإخلاص في العلم، وبما بذلت في الجهد في خدمتي، ووالله إن في معرفة هذا الاسم المبارك لفائدة عظيمة، ولكنني أخشى أنه لو ظهر سر هذا الأمر منك لقام النصارى عليك وقتلوك، فقال: يا سيدي أنا لن أتكلم في هذا الأمر ما لم تأذن لي في ذلك.
فقال الشيخ: لعلك تذكر عندما جئتني كنت قد سألتك عن بلدك وعن بلاد المسلمين، أهم قريب منك؟ وهل يقاتلونكم أم تقاتلونهم؟
وقد كنت سألت عن ذلك لأعرف منك مدى كراهيتك من
المسلمين وحقدك عليهم، واعلم يا بني أن " فارقليط "، اسم من أسماء نبي المسلمين.
وقد أنزل عليه الكتاب الرابع، وهو الذي ورد ذكره على لسان دانيال النبي، وقال فيه: إن دينه يكون دين حق وملته ملة بيضاء، وقد بشر به عيسى عليه السلام أيضا في الإنجيل.
يقول المؤلف: فقلت لهذا الشيخ: فما رأيك في دين النصارى؟
فقال: يا بني لو كان النصارى على دينهم لكانوا على دين الله؛ لأن دين عيسى ودين جميع الأنبياء دين الله.
فقلت: فما طريق النجاة إذن؟
فقال: أن تدخل في دين الله الإسلام.
فقلت له: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا ما يراه خيرا له، فإن كنت تعلم أن الإسلام خير وأفضل فما يمنعك من قبوله؟
يقول المؤلف: ولما سمع الشيخ هذا الكلام مني قال: يا بني إن الذي ذكرته لك من فضل الإسلام ومقام نبي المسلمين وفقني الله لمعرفة ذلك بعد ما كبر سني، وضعف جسمي، وقلت حيلتي، هذا ولم يبق لي العذر الآن وإن حجة الله قائمة علي، ولكن لو هداني الله وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، ولا يخفى " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، وأنت ترى منزلتي عند النصارى، وفي هذا الوقت لو عرفوا مني أنني أميل إلى الإسلام شيئا لقتلوني في حينه، ولو نجوت منهم ولحقت بالمسلمين وقلت لهم: جئتكم مسلما لردوا علي: لا تمنن علينا إسلامك لأنك كسبت لنفسك خيرا، وبذلك سأصبح بينهم شيخا فقيرا في سن التسعين لا أفهم لسانهم، ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعا.
وأحمد الله على أنني على دين عيسى عليه السلام ومتمسك بما جاء به والله أعلم بذلك مني.
يقول المؤلف: ثم قلت له: وهل تشير علي بأن أذهب إلى بلاد المسلمين، وأدخل في دينهم؟ فأجاب قائلا: إن كنت عاقلا وطالبا للنجاة فبادر إلى ذلك، ستنال به الدنيا والآخرة، وأخذ مني موثقا على أن لا أكشف سر هذا الأمر ثم بدأت أستعد للسفر، ولما عزمت على السفر وجئت لوداعه أعطاني خمسين دينارا لنفقات السفر ودعا لي بالخير، ولما عزم المؤلف على الهجرة إلى بلاد المسلمين رجع أولا إلى بلده
" ميورقة " ومكث فيها ستة أشهر، ثم توجه إلى جزيرة صقلية، (1) ومنها في سفينة إلى تونس حيث رحب به النصارى، فأكرموه وأنزلوه في منازلهم، وقد قضى حوالي أربعة أشهر في قراهم قبل أن يعلن إسلامه.
وبعد ما أقام المؤلف أربعة أشهر مع النصارى سأل الناس عن رجل في قصر السلطان يعرف لغة النصارى، فدله بعضهم على رجل كان طبيبا خاصا للسلطان أبي العباس أحمد المتوفى سنة (697هـ) الذي كان أميرا للبلاد آنذاك، فاتصل المؤلف بهذا الرجل وأخبره عما يريده من السفر إلى تونس، ولما علم الطبيب أنه جاء مسلما فرح كثيرا، وذهب به إلى قصر السلطان، ودخل على الأمير فحكى له قصة حياته، واستأذن له بالدخول على الأمير، فأذن له ورحب به.
يقول المؤلف: ولما حضرت مجلسه سألني أولا عن عمري؟ وعما تعلمت من العلوم والفنون؟
فقلت: أنا ابن خمس وثلاثين سنة، وذكرت له ما كنت قد تعلمت.
فقال الأمير: مرحبا بك، وأسلم على بركة الله.
فقلت للأمير: إذا خرج امرؤ عن دينه، فأهل دينه يتهمونه بأمور شتى ويطعنون على شخصيته، فيا حبذا لو أرسلتم إلى بعض علماء النصارى وتجارهم، ثم سألتموهم عني في غيبتي؛ لكي تعرفوا بماذا سيبدون من آرائهم في شأني، ومن هنا أحضر المجلس وأقوم بالإعلان عن إسلامي على رؤوسهم.
(1) صقلية جزيرة في البحر المتوسط وهي الآن تقع تحت سيطرة إيطاليا.