الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفاته:
لم أعثر على تاريخ وفاته في كتب التراجم إلا أنه كان حيا في عام (823 هـ)؛ فإنه قد انتهى من تأليف هذا الكتاب في ذلك العام كما صرح بذلك في الكتاب (1).
هذا آخر ما أردت عرضه من قصة حياة هذا الرجل المجاهد المهاجر إلى الله ورسوله، ويليه التعريف عن كتابه القيم " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " وعرض بعض الإفادات العلمية منه بإذن الله وتوفيقه.
(1) انظر تحفة الأريب (ص 25).
كتابه: تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب:
لم يكن صاحبنا- عبد الله الترجمان - كثير التأليف والتصنيف، لم أعثر على كتاب له غير هذا الكتاب الذي نحن بصدد تعريفه. ولعل السبب في ذلك هو اشتغاله بالأمور الإدارية في الدولة - كما سبق التنويه به في قصة حياته.
غير أن المؤلف قد وعد في آخر هذا الكتاب بتأليف كتاب في البشارات الواردة في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم أقف على أثر لهذا الكتاب، ولا أدري هل وفقه الله عز وجل لتحقيق أمنيته، أم وافته المنية قبل ذلك. والله أعلم. .
أما كتابه: " تحفة الأريب " فهو بلا شك من أكبر التراث العلمي
في بابه، فهو من المؤلفات القيمة في دراسة الديانة المسيحية، ونقد أصولها وعقائدها نقدا علميا دقيقا.
والكتاب كما هو واضح من اسمه سلسلة من الدراسات في الأديان التي قام بها العلماء المسلمون عبر القرون؛ لكشف فضائح الشرك والكفر، والبدع والأوهام التي لا تزال تجد طريقها إلى ضعاف العقول - في مظاهر متنوعة وأساليب شتى- على مر العصور.
ولا ريب أن النصرانية المحرفة على يدي شاول وأتباعه، مظهر من مظاهر الشرك، وانحراف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن مؤلفه - قبل أن هداه الله إلى دين الحق - كان يعتنق النصرانية، وكانت له قدم راسخة في معرفة عقائدها وشرائعها، وتاريخها، فهو من أكبر علماء النصارى في عصره باعتراف من أهله.
ومن هنا كانت دراسة المؤلف للنصرانية، دراسة علمية دقيقة، كما كانت ضربة قوية على بنيان النصرانية؛ لأن المؤلف قام بالمقارنة بين نصوص الأناجيل، والكتب الأخرى المنسوبة إلى أنبياء بني إسرائيل في ضوء خطة منهجية علمية، وكشف النقاب عن فضائح التناقض بين تلك النصوص، وأوضح بطلان ما حكاه مؤلفو الأناجيل من الكذب والافتراء على الله ورسوله عيسى عليه السلام.
منهجه وخطته في هذا الكتاب:
يرى المصنف أنه اتبع في الرد على النصارى منهجا أغفله معظم المؤلفين قبله، وهو الجمع بين الدلائل العقلية والنقلية.
فهو يقول في معرض بيان أسباب التأليف لهذا الكتاب:
" وجدت تصانيف علمائنا الإسلاميين رضي الله عنهم محتوية على ما لا مزيد عليه إلا أنهم رحمهم الله قد سلكوا في معظم احتجاجهم على أهل الكتاب من النصارى واليهود مسلك مقتضيات المعقول، إلا الحافظ أبو محمد ابن حزم رحمه الله فإنه قد رد عليهم بالمعقول والمنقول خصوصا ما في كتبهم، وأعرضوا عن الاحتجاج عليهم لمقتضى المنقول إلا في نادر من المسائل، فكنت شديد الحرص على أن أضع في الرد عليهم موضوعا بطريق النقل والقياس، وتتفق عليه العقول والحواس (1).
هذا، وقد عقد المؤلف في الكتاب ثلاثة فصول:
أما الفصل الأول: فقد ذكر فيه قصة حياته من ولادته إلى هجرته إلى بلاد تونس، وإسلامه على يدي الأمير أبي العباس أحمد المستنصر (ت 796 هـ) وبين فيه ما تولاه من الوظائف في حكمه.
وأما الفصل الثاني: فقد ذكر فيه سيرة الأمير أبي فارس عبد العزيز بن أحمد، وأعماله، وما حصل في أيامه من الأمور والحوادث خاصة مما له علاقة بالمؤلف.
(1) انظر: تحفة الأريب (ص 21 - 22).
وخصص الفصل الثالث: في الرد على النصارى، وهو الغرض الأول من تأليف هذا الكتاب.
وهذا الفصل يشتمل على تسعة أبواب:
الباب الأول: في ذكر مؤلفي الأناجيل الأربعة، وبيان كذبهم.
الباب الثاني: في بيان تفرق النصارى إلى فرق مختلفة.
الباب الثالث: في بيان فساد أصول النصارى، والرد عليها من نصوص أناجيلهم.
الباب الرابع: في بيان عقائد شريعتهم، والرد عليها من أناجيلهم.
الباب الخامس: في إثبات بشرية عيسى عليه السلام، والرد على النصارى في معتقدهم في عيسى عليه السلام.
الباب السادس: في ذكر اختلاف مؤلفي الأناجيل فيما بينهم، وبيان كذبهم.
الباب السابع: في بيان ما نسبه النصارى كفرا وافتراء إلى عيسى عليه السلام.
الباب الثامن: في بيان ما يعترض به النصارى على المسلمين.
الباب التاسع: بيان البشارات الواردة في رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبقاء ملته إلى يوم القيامة.
هذه هي الخطة التي سار عليها المؤلف في تأليف هذا الكتاب، ولكي يعرف القارئ أهمية هذا الكتاب، وقيمته العلمية، أقتبس بعض النماذج مما كتبه في الفصل الثالث.
يقول في الباب الأول " في ذكر مؤلفي الأناجيل":
" اعلموا - رحمكم الله - أن الذين كتبوا الأناجيل أربعة، هم:
متى، ماركوس، ولوقا، ويوحنا. وهؤلاء هم الذين أفسدوا دين عيسى، وزادوا ونقصوا وبدلوا كلام الله. . وليس هؤلاء من الحواريين الذين أثنى الله عليهم (تحفة الأريب ص 58).
وقال في تعريف لوقا: " أما لوقا، فلم يدرك عيسى عليه السلام، ولا رآه أبدا، وإنما تنصر بعد رفع عيسى عليه السلام، وكان تنصر على يد بولس الإسرائيلي، وبولس أيضا لم يدرك عيسى، ولا رآه، وكان من أكبر أعداء النصارى، حتى حصل بيده أمر من ملوك الروم بأنه حيثما وجد نصرانيا يأخذه ويحمله إلى بيت المقدس، ويسجنه هناك. (تحفة الأريب ص 60 - 61).
وقال في الباب الثالث " في بيان عقيدتهم في التثليث ": " وعندهم لا يمكن دخول الجنة إلا به على ما شهدت به أئمة الضلال
والكفر، والإضلال من أوائلهم، فيؤمنون بأن الله - تعالى عن قولهم - ثالث ثلاثة، وأن عيسى هو ابن الله، وأن الله له طبيعتين: ناسوتيه، ولاهوتيه، وتلك الطبيعتان صارتا شيئا واحدا، فصار اللاهوت إنسانا محدثا تاما مخلوقا، وصار الناسوت إلها تاما خالقا غير مخلوق ".
ويستنكر هذه العقيدة عليهم قائلا: " ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من له مسكة من العقل يجب عليه أن يحول نفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد، السخيف الرذيل الفاسد، الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه، ومنهم ذوو الأفهام والأذهان، فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بينهم ". (تحفة الأريب ص 76 - 77).
هذا وقد رد على هذه العقيدة من نص الإنجيل، وبين أن هذه العقيدة تناقض ما حكاه متى في إنجيله عن المسيح؛ فإنه كتب في الفصل السادس والعشرين:" أن عيسى عليه السلام حين عزم اليهود على أخذه وقتله، تغير في تلك الليلة، وحزن حزنا شديدا ". (انظر: إنجيل متى 26 عدد 37).
يقول المؤلف: " وكل من يحزن فليس بإله، ولا بابن إله عند كل ذي عقل صحيح، وإن هذا لأشنع من قولهم في هذه القاعدة.
بأن عيسى له طبيعتان: لاهوتية وتاسوتية، وإنهما صارتا شيئا واحدا.
وهذا أقبح ممن يقول: إن الماء والنار صارا شيئا واحدا.
ثم يتساءل منهم ويقول: وأين كان لاهوته لما مات ناسوته؟
لا سيما على قولهم: " إنهما اتحدا وتمازجا والتحما " فما الذي فرق بينهما عندما ضرب جسده وناسوته السياط - على زعمهم - وعصب رأسه بالشوك، وصلب على خشبة، وطعن بالرماح حتى مات وهو يصيح جزعا وخوفا؟!
فأين غاب لاهوته عن ناسوته في هذه الشدائد؟ مع الممازجة والالتحام على قولهم؟! (تحفة الأريب ص 79).
وقال في معرض إثبات بشرية عيسى عليه السلام:
قال مرقوس في آخر إنجيله: إن عيسى قال: وهو على خشبة الصلب بزعمهم: " إلهي إلهي لم خذلتني؟ "(انظر: إنجيل مرقوس الأصحاح 15 عدد 34).
وذلك آخر ما تكلم في الدنيا، وحاشاه أن يكون الله خذله، أو تمكن اليهود من صلبه، وإنما احتججنا على النصارى به؛ لأنهم قد رضوه من نصوص أناجيلهم، وهم مصدقون به ".
وفيه تصريح بأن عيسى قال: " يا إلهي يا إلهي " فأقر بأن له إلها يدعى في الشدائد، وتبرأ من ادعاء الألوهية لنفسه ".
فلزم تكذيب عقائد النصارى ضرورة لا محيد لهم عنها، ولكنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وفي باب بشارات الأنبياء الواردة في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال:
ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث والثلاثين من كتاب الخامس من التوراة، أن الرب تعالى جاء من طور سيناء، وطلع إلينا من ساعير،
وظهر من جبل فاران، وإن رايات القديسين معه وعن يمينه ".
فقوله: جاء الله من طور سيناء، يريد بمجيئه ظهور دينه، وتوحيده تبارك وتعالى بما أوحى إلى موسى بطور سيناء ".
" وطلع من ساعير " يعني جبلان بالشام به كان ظهور دين عيسى عليه السلام بما أوحاه الله إليه.
وظهر في جبل " فاران " يريد بما أوحى الله تعالى من دين الإسلام بمكة، والحجاز إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن فاران اسم رجل من ملوك العمالقة الذين اقتسموا الأرض، فكان الحجاز وتخومه لفاران، فتسمى القطر كله باسمه.
وقوله: " إن رايات القديسين معه وعن يمينه ".
فالقديسون، هم الرجال الأولياء الصالحون، والمراد بهم هنا أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم الذين كانوا معه، وعن يمينه، فلم يفارقوه قط رضي الله عنهم.
ثم قال: " ومن ذلك ما اتفق عليه الأربعة الذين كتبوا الأناجيل الأربعة: أن عيسى عليه السلام قال للحواريين حين رفع إلى السماء: " إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وأبشر بنبي يأتي من بعدي اسمه " بأرقليط ".
وهذا الاسم الشريف هو باللسان اليوناني، وتفسيره بالعربية " أحمد " كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) وهو في الإنجيل اللاطيني " براكلتس "، وهذا الاسم الشريف هو الذي كان سبب إسلامي. كما تقدم ذكره في أول هذا الكتاب. (تحفة الأريب ص 137).
والله أعلم،،،
عبد القيوم محمد شفيع البستوي
(1) سورة الصف الآية 6