الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما كان من خلاف وسببه، وتبين أن الأمر بينهم انتهى إلى التحريم المطلق كما ذهب إليه ابن تيمية وصاحب الجوهرة والبزدوي وغيرهم ممن اتجه وجهة الحزم في مقاومة الفساد، والتشديد فيها دفعا للفساد، فما بالك في مثل هذا العصر وقد استشرى الداء وتضاعفت جهود المصلحين للمقاومة وحظره القانون والحاكم؟ إن ذلك كله لأكبر مؤكد لتحريم القليل والكثير، وإيقاع أقسى عقوبة على المتعاطي المهمل نفسه والمتهاون في أمره. وبالله التوفيق.
فقه السنة
وأعني به ما ورد في بعض شروح السنة:
وقد استوعب هذا الموضوع استيعابا صالحا الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق من علماء القرن الرابع عشر الهجري في كتابه عون المعبود شرح سنن أبي داود - لأن حديث النهي عن المفتر لم يرد في غير السنن من الكتب الستة من سنن الإمام أحمد كذلك - وقد أوردنا فقرة منه في علاقة المخدرات بالخمر واعتبار بعض العلماء أن المخدرات مسكرة كما هو رأي القسطلاني، أو تدخل صاحبها في حد السكران كما قال الزركشي، جاء في هذا الكتاب تعليقا على حديث أم سلمة رضي الله عنها، «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر (1)». قال: قال الطيبي: لا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج والشعثا ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل؛ لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها، والواقع أن الطيبي خلط في مسلكه؛ لأن هذه الأشياء إذا كانت تفتر وتزيل العقل فما الداعي إلى الاستدلال بوجود العلة بل ذلك مدلول النص نفسه، وهو النص على منع المفتر على أن قوله لا يبعد تحفظ لا داعي له، ولعله لم يطلع على تصريح لغيره فكتب من اجتهاده ونظره وبالغ في التحفظ، ثم نقل الشارح عبارة ابن حجر الدالة على أن الحشيشة مسكرة، وقد سبق أن أشرنا إليها وأوردنا عبارة الحافظ في الفتح.
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 309).
ومما أورده الشيخ محمد شمس الحق في هذا المقام أن الخطابي قال: في الحديث المفتر: كل شراب يورث الفتور والرخاوة في الأعضاء وهو مقدمة السكر نهى عن شربه؛ لئلا يكون ذريعة إلى السكر، ثم قال: وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، وأن من استحلها كفر، وقال ابن تيمية: أول ما ظهرت في أواخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار، وهي من أعظم المنكرات، وهي شر من الخمر من بعض الوجوه؛ لأنها تورث نشوة وطربا كالخمر ويصعب الطعام عليها أعظم من الخمر، وإنما لم يتكلم عليها الأئمة الأربعة؛ لأنها لم تكن في زمانهم، إلى أن يقول: والحافظ ابن القيم لا يرى السكران في الزعفران، وللأئمة الحنفية كلام على طريق آخر. فقال الشامي (يريد ابن عابدين) في رد المختار، وقال محمد:(ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهو نجس أيضا، قال الشامي: الظاهر أن هذا خاص بالأشربة المائعة دون الجامدة كالبنج والأفيون، فلا يحرم قليلها بل كثيرها المسكر، وبه صرح ابن حجر في التحفة وغيره، وهو مفهوم من كلام أئمتنا؛ لأنهم عدوها من الأدوية المباحة، وإن حرم السكر فيها بالاتفاق، ولم نر أحدا قال بنجاستها. ثم قال: والحاصل أنه لا يلزم من حرمة الكثير المسكر حرمة قليله ولا نجاسته مطلقا إلا في المائعات؛ لمعنى خاص بها أما الجامدات فلا يحرم منها إلا الكثير المسكر، ولا يلزم من حرمتها نجاسته كالسم القاتل؛ فإنه حرام مع أنه طاهر. . انتهى كلام الشامي.
ثم نقل الشيخ شمس الحق ما أورد صاحب الدر من حرمة أكل البنج والحشيش والأفيون؛ لأنه مفسد للعقل (1)، وقد أطال النقول المختلفة في ذلك، وأوضح أنه لم يقل أحد في جميع المذاهب بحل ما يغيب العقل، وقال بعضهم بحل القليل الذي لا يفسد ولا يكون على سبيل اللهو والآفة، وقد ذكرنا أنه بعد ظهور الفساد حرم القليل والكثير باتفاق أهل المذهبين (2) كما سبق النقل، فما بالك لو رأوا
(1) عون المعبود جـ 3 ص 323.
(2)
الحنفي والشافعي جـ 3 ص 323.
الفساد والاضطراب الديني والخلقي والعقلي في هذا العصر؟ ومما يضيفه صاحب عون المعبود نقلا عن الشامي: أن زهر القطن قوى التفريح يبلغ الإسكار كما في التذكرة (يريد تذكرة داود الأنطاكي في الطب القديم) فهذا كله ونظائره يحرم استعمال القدر المسكر منه دون القليل. قال ومثله (بل هو أولى)(البرش) وهو شيء مركب من البنج والأفيون وغيرهما، ذكر في التذكرة أن إدمانه يفسد البدن والعقل ويسقط الشهوتين (يريد الطعام والوقاع) ويفسد اللون وينقص القوى وينهك، وقد وقع به الآن ضرر كثير، وما أكثر ما ظهر في عصرنا من هذه المفسدات والمعاجين المختلفة التي أضاعت الأعمار وشوهت وجه الحياة نسأل الله العافية.
ثم قال صاحب عون المعبود: إذا عرفت هذه الأقاويل للعلماء فاعلم أن الزعفران والعنبر والمسك ليس فيها سكر أصلا ولا تفتير ولا تخدير. وأطال في الكلام على جوزة الطيب والبسباسة والعود الهندي بما خلاصته أن المحرم في هذه الأشياء هو القدر الزائد الذي يوقع في التخدير والتفتير؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مفتر» ولم يقل أن ما أفتر كثيره فقليله حرام. وقد يقال: المفتر يقاس على المسكر في تحريم القليل من كل منهما سدا لباب الفساد في كل منهما، فإذا نهى عن قليل المسكر فهو نهي عن قليل المفتر بالقياس البين؛ لأن في كل منهما فتحا لباب الإكثار، وهو مخاطرة قبيحة لا يرضاها الشرع (1)، ثم انتهى إلى الحكم على حديث النهي عن كل مسكر ومفتر الذي هو موضوع البحث بأن فيه شهر بن حوشب وفيه خلاف، والصحيح أنه يحتج به، قال الإمام المنذري: إن شهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين، وتكلم فيه بعضهم، والترمذي يصحح حديثه. وقال الشوكاني في بعض فتاواه: إن الحديث صالح للاحتجاج؛ لأن أبا داود سكت عنه، وقد ذكر عن نفسه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج به، وصرح بذلك جماعة من الحفاظ مثل ابن الصلاح وزين الدين العراقي والنووي وغيرهم. ثم قال: ما دام أحمد ويحيى
(1) فمن شاء فليراجعه ص 223 إلى 242.