الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والناس في لهفة ينتظرون. فلما تكلم خلع نفسه وأراد الناس أن يختاروا رجلا آخر، ولكن الناس ضجوا وهاجوا وماجوا وصاحوا قائلين: قد اخترناك ورضينا بك فل أمرنا باليمن والبركة.
وخطب عمر خطبته المشهورة التي كانت أشبه بخطبة أبي بكر الصديق التي قال فيها: أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ألا وإني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير من أحدكم ولكني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1)، وكان ذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين (2).
(1) تاريخ الخلفاء ص 215.
(2)
العقد الفريد ص 3 ص 432.
الانقلاب الكبير
في الخلافة الإسلامية بعد موت سليمان بن عبد الملك:
كان عمر في حياة سليمان يعايش الظلم ولا يستطيع تغييره، والآن وقد أتته الفرصة لتغييره فماذا يقول لربه حين يلقاه إن سكت عن الظلم أو توانى في رفعه، فكتب من فوره ثلاثة كتب وأنفذها إلى أصحابها: الأول: بعزل أسامة بن زيد صاحب صدقات مصر الذي أنهك أهلها، وحلب الدر حتى انقطع، وكان ظالما غشوما معتديا في العقوبات يقطع الأيدي في خلاف ما يؤمر به.
والكتاب الثاني برجوع جيش مسلمة بن عبد الملك عن بلاد الروم، فقد كاد هذا الجيش يفنى من طول الحصار، والكتاب الثالث: بعزل يزيد بن أبي مسلم عن أفريقية؛ لجبروته وظلمه ومخالفته للحق، وما عجل بذلك إلا لنذر نذره لله تعالى فوفى بنذره، ويهم عمر بمغادرة المسجد بعد انتهاء الخطبة فإذا بموكب الخلفاء ينتظره عند الباب
مهرجان كبير، خيول ومراكب، وسرادقات وفرسان وصخب فيشيح عن هذا كله ويقول: إيتوني ببغلتي (1). ويجتاز الطريق من المسجد صوب الدار فإذا بالطريق مغطى بالفرش والسجاد الذي لم يستعمل من قبل، والذي كان من تقاليد بني مروان أن يضعوه لكل خليفة جديد كي تطأه قدماه أول ما تطأ، فجعل عمر يركله برجله حتى يفضي إلى الحصير ويلتفت إلى مزاحم قائلا: ضم هذا لأموال المسلمين (2).
ويتقدم إليه أهل سليمان قائلين: هذا لنا وهذا لك. فيجيبهم قائلا: ما هذا لي ولا لسليمان ولا لكم، ولكن يا مزاحم ضم هذا لبيت مال المسلمين (3).
لقد كان انقلابا كبيرا، وكان على عكس التيار لا يستطيعه إلا من أوتي قوة في العقيدة وصلابة في الحق وإيمانا راسخا، لقد رد الجواري إلى أهلهن وبلادهن، ورد المظالم إلى أهلها، وألغى المجالس التي أشبهت مجالس الأباطرة والقياصرة، وتمسكت بسنن كسرى وقيصر إلى بساطتها الأولى ووضعها الإسلامي، فنهى عن القيام له وابتدأ بالسلام، وأباح دخول المسلمين عليه بغير إذن (4)، هذا الشاب الذي كان يلبس الحلة بألف دينار ولا يلبسها إلا مرة واحدة، نراه بعد أن تولى الخلافة وتحمل المسئولية لا يلبس إلا قميصا واحدا، وينظر فيرى زوجته فاطمة بنت عبد الملك تلبس عقدا رائعا من جوهر ثمين كان أبوها عبد الملك قد أهداها إياه، فيتقدم إليها ويضعها أمام اختيار صعب.
(1) تاريخ الخلفاء 214.
(2)
ابن عبد الحكم سيرة عمر ص 39.
(3)
ابن عبد الحكم ص 39 - 40.
(4)
رجال الفكر والدعوة الإسلامية للندوي ص32، 33.
قال: اختاري. إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك؛ فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد.
قالت فاطمة: -
- لا بل أختارك عليه وعلى أضعافه (1).
تلك هي المرأة التي يقول فيها الشاعر: -
بنت الخليفة والخليفة جدها
…
أخت الخلائف والخليفة زوجها
ذلك هو الوفاء، وهذا هو الإيمان، ويمتد ذلك الوفاء وهذا الإيمان إلى ما بعد وفاته فيعرض عليها يزيد بن عبد الملك ما تخلت عنه من الجواهر والحلي فترد قائلة: - لا والله لا أطيب به نفسا في حياته، وأرجع فيه بعد موته (2).
وينظر عمر فيرى خالد بن الريان الذي قتل الحروري بحضرته أيام الوليد. فيقول له: ضع هذا السيف عنك. وعزله وجعل يقول: اللهم إني قد وضعت لك خالد بن الريان فلا ترفعه أبدا. ثم يتفرس عمر في وجوه الحرس فيرى عمرو بن مهاجر الأنصاري وكان تقيا: فقال له عمر حين رآه: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه ما بيني وبينك قرابة إلا قرابة الإسلام، ولكني قد سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن أن لا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة. خذ هذا السيف. وقد وليتك حرسي (3).
وقد شمل هذا الانقلاب الكبير كل نواحي الحياة، فتنازل عمر عن كل القطائع والأراضي والمزارع التي أقطعت له، وردها جميعا أو أثمانها إلى بيت مال المسلمين، ثم أمر الأمراء أن يؤدوا ما بأيديهم من حقوق الناس حتى لا يكرههم على ترك ذلك بالقوة، فثقل ذلك عليهم وتبرموا، ولكنهم علموا أن عمر لن يتباطأ في إنزال العقوبة بهم إن امتنعوا عن الأداء، فلجئوا إلى عمة
(1) تاريخ الخلفاء: ص 216.
(2)
الكامل: ج 5 ص42، 41، ابن عبد الحكم ص 62.
(3)
ابن عبد الحكم ص 171.