الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبادة وخشوع، وسجود، يتسق معه تصوير الأرض بأنها "خاشعة" فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت. . . . " (1).
ومن أمثلة ذلك التمام والكمال، فالفرق بينهما أن الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولذلك كان استعمال كلمة (كاملة) أبلغ من استعمال كلمة (تامة) في قوله تعالى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (2)، لأن التمام علم من العدد وإنما جاءت كلمة (كاملة) لنفي احتمال نقص في الصفات (3).
ومن ذلك أيضا القعود والجلوس، فالأول يستعمل لما فيه لبث بخلاف الثاني، ولهذا قال تعالى:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (4)، إشارة إلى أنه لا زوال لذلك، وقال في آية أخرى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} (5) لأن مثل هذه الجلسات لا تحصل إلا في زمن يسير (6). إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة (7).
(1) سيد قطب، التصوير الفني ص 97.
(2)
سورة البقرة الآية 196
(3)
السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد علي البجاوي (مصر، دار الفكر العربي) 3/ 605.
(4)
سورة القمر الآية 55
(5)
سورة المجادلة الآية 11
(6)
السيوطي، معترك الأقران 3/ 605.
(7)
انظر الخطابي، بيان إعجاز القرآن ص 29 - 34، السيوطي، معترك الأقران 3/ 602 - 606.
السادس
الجملة القرآنية
ما سبق قوله في الكلمة القرآنية نقوله هنا، وهو أن المقصود مكانة الجملة في النظم القرآني المعجز لا الجملة المفردة، لأن قيمة الجملة ليست ذاتية، وإنما تعود قيمتها إلى مكانها من النظم المعجز الأخاذ، لذلك أقل ما وقع به التحدي السورة لا الجملة.
ومظاهر الإعجاز في الجملة القرآنية كثيرة منها:
الأول: أنها مسوقة في موقعها المناسب لتتلاءم مع ما قبلها وما بعدها، وتنبئ عن حسن نظم الكلمات وهي غاية في الإحكام
والترابط. ولهذا كان حفظ القرآن أيسر من حفظ سائر أنواع النثر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (1) فلو أخذنا كلمة (النذر) منفصلة عما قبلها في الآية لوجدنا ثقلا في توالي الضمة على النون والذال معا لكن الكلمة جاءت في القرآن متلائمة تماما مع السياق يقول الرافعي: " تأمل مواضع القلقلة في دال (لقد) وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا)، مع الفصل بالمد، ليكون تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها فلا تجفو عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر) "(2).
اشتملت هذه الآية على تسع جمل متلائمة مع ما قبلها وما بعدها وهي في غاية الدقة والإحكام.
أما الجملة الأولى في تلك الآية فهي قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) والآية التي قبلها تضمنت أن كل من في السماوات
(1) سورة القمر الآية 36
(2)
الرافعي، إعجاز القرآن ص 258.
(3)
سورة الرعد الآية 16
(4)
سورة الرعد الآية 16
والأرض ساجد لله فلزم الإنكار على عبدة الأصنام والتوجه إليهم بهذه الجملة الآمرة بلفظ "قل". ولما كان عبدة الأصنام يقرون توحيد الربوبية ناسب أن يأتي جواب الجملة الأولى على لسان محمد عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} (1) ولما بين الله سبحانه أنه الرب لكل المخلوقات ناسب أن يسألهم النبي: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (2) ومن يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر يكون كالأعمى الذي يعيش في الظلمات بخلاف من يهديه الله ولذلك ناسب أن يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (3) ولما كان من البدهي أن الظلمة لا تساوي النور وأن العمى لا يساوي البصر فهم أيضا أن الجاهل الذي يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر لا يساوي العالم الموحد لله، لذا أكد الله سبحانه ما تقدم بالجملتين التاليتين:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) وقد جاء قوله: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (5) متلائما مع ما قبله لأن خالق كل شيء تلائمه وتثبت له صفة الوحدانية والقهر والقوة (6).
الثاني: أن الجملة القرآنية تدل على معنى واسع يعجز عنه الناس بعبارات كثيرة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (7) وقد سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث الإيجاز في القرآن.
ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (8). فقد جمعت هذه الآية كل خير ونهت عن كل شر قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن أجمع آية للخير والشر في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (9) ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
(1) سورة الرعد الآية 16
(2)
سورة الرعد الآية 16
(3)
سورة الرعد الآية 16
(4)
سورة الرعد الآية 16
(5)
سورة الرعد الآية 16
(6)
محمد بن سعد الدبل، النظم القرآني في سورة الرعد (عالم الكتب) ص 110 - 111.
(7)
سورة البقرة الآية 179
(8)
سورة النحل الآية 90
(9)
سورة النحل الآية 90