الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى ابن حبان أيضا: «من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن (1)» ، وروى الحاكم وصححه:«اجتنبوا الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر (2)» .
وهذه الأحاديث ونظائرها رادعة حق الردع لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، والله سبحانه ما يريد ليعنت العباد، ولكن العباد يعنتون أنفسهم ويؤثرون متاعا ولذائذ تحول بينهم وبين الاستقامة، وتوقعهم في الخسران والشقوة في الدنيا والآخرة، ونسأل الله العافية.
وبعد هذا يمكن أن يقال: إن الاستدلال على التحريم بالكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأئمة، فما كان ليقع خلاف في أمر ينطق القرآن الكريم بتحريمه، فلا مجال فيه للتأويل ونطقت السنة بما ينادي على أنه من الكبائر، وأن فاعله مسلوب الإيمان حين يفعله، كما أن قواعد الإسلام والضرورات الخمس تقضي بحرمتها تحريما لا مجال فيه للريب، وسترى شأن المخدرات وبيان علاقتها بالخمر فيما يقتضي التحريم المؤكد في هذه الدراسة إن شاء الله.
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 272).
(2)
سنن ابن ماجه الأشربة (3371).
2 -
علاقة المخدرات بالخمر:
ليس هناك ما يدعو إلى الاهتمام بأمر تصوير المخدرات، وبيان الوصف الجامع المشترك بينها، فمن البين أنها جميعا تشترك في تخدير العقل وإحداث فتور عام في البدن، ويتصل بذلك تخيلات فاسدة وأفكار غير حقيقية قد يترتب عليها بعض الجرائم والجنايات، كما قرر ذلك الواقع لجان البحوث المختلفة حول هذه المخدرات وطرق مقاومتها، ولعلها تتفاوت في ذلك المعنى.
وقد أورد الفقهاء الإسلاميون الأسماء التي عرفت منذ ظهرت في الأفق وهي: الحشيشة والأفيون والشيركان وهو البنج - بفتح الباء - والعنبر وجوزة الطيب التي أوردها ابن حجر في كتاب الزواجر (1) وهؤلاء لم يذكروا ما عرف
(1) الزواجر عن الكبائر لابن حجر الهيثمي.
بعد وما لم يطلعوا عليه في عهدهم، مثل الكوكايين والهروين وغيرها مما ذكره القانون المصري مفصلا، وجعل عقوبتها مشتركة لا فارق بين واحد وآخر بعد ظهور الخصائص والمميزات المشتركة، وقد ذكر بعض الفقهاء السابقين المعاصرين الدخان من بينها، وحكم عليه بحكمها وخالف بعضهم في ذلك، كما سنبينه إن شاء الله.
وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في كتاب (1) الزواجر تلك المخدرات التي أوردناها وقال: إنها مسكرة، كما صرح بها النووي في بعضها (2): وفسر الإسكار بتغطية العقل لا مع الشدة المطربة؛ لأنها من خصوصيات المسكر المائع على أن ذلك خال من التحقيق، وإلا لما خصت به الحشيشة من بين المخدرات، ثم قال: إن ذلك لا ينافي أنها تسمى مخدرة. وهو يرى أنها من المسكر الطاهر، كما أورده في عنوانها في الكبيرة السبعين بعد المائة، وسترى أن كون الحشيشة طاهرة موضع خلاف بين الفقهاء، كما أن خلوها من الشدة المطربة مما يخالف فيه أيضا بعض الفقهاء، ولا شيء من هذا يمانع من أنها كلها تؤثر على العقل - الذي أمر الشارع بحفظه - أسوأ تأثير، وأن القليل منها مما يدعو إلى الكثير، فإذا اختلفت وجهة النظر عند بعضهم فأجاز القليل منها فإنه مذهب ضعيف يشبه القول بإباحة القليل من بعض الأشربة المسكرة، مخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أسكر كثيره فقليله حرام (3)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (4)» ، وكان هذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم سدا لباب الفساد وإغلاقا لمقدمة الشر، وقد تجلت حكمته صلى الله عليه وسلم في ذلك، فما شرب أحد من أي شراب محظور إلا وجد فيه الرغبة التي تغري بالمتابعة، ولا أخذ من الحشيشة قطعة إلا تركت فيه أثرا منها يدعوه إلى معاودتها إلا من عصم ربك، ولكن الأحكام الشرعية تناط بالغالب من أحوال الناس، ولهذا
(1) 179/ 2.
(2)
يريد الحشيشة.
(3)
سنن الترمذي الأشربة (1865)، سنن أبو داود الأشربة (3681)، سنن ابن ماجه الأشربة (3393)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 343).
(4)
سنن الترمذي الأشربة (1866)، سنن أبو داود الأشربة (3687).
فإننا نرى تحريم القليل والكثير، ومما أورده صاحب (عون المعبود شرح سنن أبي داود) في هذا المقام نقلا عن العلامة أبي بكر بن قطب القسطلاني في كتابه (تكريم المعيشة) (1): أن الحشيشة ملحقة بجوزة الطيب والأفيون والبنج، وهذه من المسكرات المخدرات. وهو تصريح يمثل ما أورده ابن حجر الهيثمي في هذا المقام كما رأيته.
وكان إلحاق القسطلاني إياها بجوزة الطيب ونحوها ناشئ عن أنه سبق له حكم هذه الأشياء قبل حكم الحشيشة أو نحو ذلك. ثم نقل شارح السنن عن الزركشي أنه قال: (إن هذه المخدرات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران، وذكر عدة تعريفات مما أورده الفقهاء للسكران في كتب الفقه منها: أنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم، ومنها: أنه الذي لا يعرف الأرض من السماء.
وهذا المعنى ينقله الحنفية عن الإمام أبي حنيفة في بعض كتبهم، ثم انتقل إلى بيان وجه اعتبارها مسكرة أو غير مسكرة، فإن أريد بالإسكار تغطية العقل فهي مسكرة، وإن أريد تغطية العقل مع الطرب فهي غير مسكرة، وسترى أن بعض فقهاء الحنابلة ذهب إلى أن في بعضها وهو الحشيش النشوة والطرب كالخمر، ولهذا أعطى الحشيش أحكام الخمر الثلاثة (2) دون بقية المخدرات فإن فيها الحرمة والتعزير فقط، وقد أطال صاحب عون المعبود النقل عن الزركشي في هذا المقام بما ليس من جوهره عندنا، فليراجعه من شاء.
ثم نقل عن القاموس ما يفسر الفتور الوارد في حديث أبي داود، «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر (3)» فقال: فتر جسمه فتورا: لانت مفاصله وضعف، والفتار كغراب: ابتداء النشوة. ونقل عن المصباح في التخدير خدر العضو خدرا من باب تعب: استرخى فلا يطيق الحركة.
ومن هذه النقول وأشباهها يتضح لك أن كون هذه المخدرات تعتبر
(1) عون المعبود 321/ 3.
(2)
وهي الحد والنجاسة وتحريم القليل.
(3)
سنن أبو داود الأشربة (3686)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 309).
مسكرة موضع بحث الفقهاء، ومع ذلك سترى في النقول الآتية إجماعهم على حرمة الكثير المفسد للعقل، وإن أجاز بعضهم القليل منها للتداوي فقط من وجهة نظره التي سنزيدها بيانا مع البحث والتحقيق الفقهي، ومن تتمة النظر في هذا أن نضيف أن بعض الفقهاء لم يكتف في بعض هذه المخدرات باعتباره مسكرا بل سماه خمرا منهم شيخ الإسلام الفقيه المحقق الإمام أحمد ابن تيمية، وكانت فيه غيرة دينية عجيبة وسعة أفق كما سترى في رأيه الفقهي مع أراء الفقهاء من مختلف المذاهب، وكذلك الحافظ الذهبي كما جاء في كتاب (الزواجر):
والواقع أن دراسة العلاقات بين هذه العناصر المخدرة وبين الخمر دراسة لها شأنها في صميم موضوعنا؛ لأنها هي التي بنى الفقهاء حكمهم في الجملة عليها، ولقد استبان ذلك في الرابط المحقق بينها، وهو حصول المفسدة في تناولها وهي في محيط المفسدة في شرب الخمر، فكيف لا تقرن بها في مناسبة الأحكام الشرعية؟ ولقد وضح ذلك المعنى في التصويرات النبوية لمن يعقل مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«كل مسكر خمر (1)» وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (2)» ، ونحو ذلك، كما أنه وضح في آثار هذه المخدرات التي جعلت الناس تتساءل وترجع إلى رجال الفقه من علماء الإسلام؛ لتعرف حكم الشرع في تعاطيها على وجهه، فإذا كان القرآن الكريم قد اتجه بحكمه الواضح الصريح في الخمر التي شربت في الجاهلية، ثم استمر شربها حتى حكم الإسلام بحرمتها فذلك لأنها هي التي كانت، فورد الحكم بشأنها، وإذا كانت السنة قد شنعت كل التشنيع على الخمر وبائعها وعاصرها، فإنها لم تترك البيان في المسكرات الأخرى ولا في المفتر كما أشرنا، وكما نبين إن شاء الله، وكان من حكمة الإسلام أن لا يذكرها بأسمائها.
كما كان الشأن في غيرها مما أحدث الناس من الفجور حتى لا يخاطب الناس بما لا يعرفون، ولكن الإسلام نهى عن الضرر والضرار، ونهى عن الخبائث
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
(2)
سنن الترمذي الأشربة (1866)، سنن أبو داود الأشربة (3687).