الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني
ضرب الأمثال في القرآن الكريم
وقد اعتمد الأسلوب القرآني على ضرب الأمثال، وجعله قاعدة أساسية في التعبير عن المعاني.
ومن أساليب ضرب الأمثال المتبعة في القرآن (1):
أ - إخراج المعاني الذهنية في صورة حسية ترسم في المخيلة حية متحركة، خذ هذا المعنى الذهني المجرد، وهو أن الكفار محرومون من دخول الجنة، وأنهم غير مقبولين عند الله بتاتا، وتأمل كيف عرضه الله في القرآن:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (2)، هكذا في صورة حسية ترسم في الخيال صورة تفتح أبواب السماء وصورة ولوج الجمل في سم الخياط. وسواء أكان الجمل هو الحيوان المعروف أم الحبل الغليظ، فقد استقر في مخيلة السامع استحالة دخول الكافرين الجنة (3).
ومن أمثلة ذلك أيضا أنك لو أردت أن تعرض لمعنى النفور الشديد من دعوة الإيمان بصورته التجريدية تقول: إن القوم ينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان، أما القرآن فقد عرض فيه الأمر بأسلوب تصويري حسي فقال تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (4){كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (5){فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (6)، فاشترك هنا مع الذهن حاسة البصر وملكة الخيال، وانفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون من الحق كما تفر حمر الوحش من الأسد (7).
ب - تصوير الحالات النفسية والمعنوية في صورة حسية متخيلة، حية متحركة.
فعندما أراد الله سبحانه أن يفضح ويعري أولئك الذين هيأ لهم
(1) راجع سيد قطب، التصوير الفني في القرآن (بيروت، القاهرة دار الشروق).
(2)
سورة الأعراف الآية 40
(3)
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص 34.
(4)
سورة المدثر الآية 49
(5)
سورة المدثر الآية 50
(6)
سورة المدثر الآية 51
(7)
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص 195.
سبيل الهداية لكنهم رفضوا، فأصبحوا في شقاء بما علموا وما جهلوا، فلا هم استراحوا بما هيأ الله لهم من سبيل الخير والرشاد، ولا هم استراحوا بإعراضهم عن هذا الخير، فيصور القرآن حالتهم النفسية والمعنوية هذه في صورة حسية متحركة، قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1){وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
يقول سيد قطب: " إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات، إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع. . . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخا، ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه، فهو ينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضا للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه. . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد. . إذا نحن بهذا المخلوق لاصقا بالأرض ملوثا بالطين، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد. . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر "(3).
ج - عرض القضايا المنطقية والجدلية في أسلوب ضرب الأمثال، وذلك في معرض الاستدلال على عظمة الخالق وقدرته، فالقرآن يأتي بالدليل المقنع من واقع الناس وما يشاهدونه ويعايشونه، لكنه معروض في صورة مؤثرة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4).
(1) سورة الأعراف الآية 175
(2)
سورة الأعراف الآية 176
(3)
سيد قطب، في ظلال القرآن 3/ 1396 - 1397، التصوير الفني ص 39.
(4)
سورة الرعد الآية 4
ومع أن هذا المشهد كما تلاحظ يتكرر في حياة الناس إلا أنه عرض بأسلوب تصويري، وكأنها لوحة طبيعية رسمت عليها النخيل والأعناب المثمرة (1).
د - إعطاء الحركة لما من شأنه السكون وخلع الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية، فتصبح كأنها أشخاص بارزة لها عواطفها وخلجاتها الإنسانية، تأمل في قوله تعالى:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (2)، تجد التعبير بالاشتعال يجعل الخيال يتصور أن للشيب حركة في الرأس كحركة اشتعال النار في الهشيم، مما يضفي على النص الحياة والجمال (3).
وأما خلع الحياة على المواد الجامدة فمثاله قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (4)، فالصبح مشهد معروف متكرر للناس، لكنه في التعبير القرآني كأنه شخص حي يتنفس كما يتنفس الأحياء، وكذا قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (5)، وقوله تعالى:{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (6).
وأما تصوير الانفعالات الوجدانية فهو في غاية الروعة، فالغضب والروع والبشرى انفعالات وجدانية تصبح في التعبير القرآني كأنها حية متحركة، فالغضب يسكت كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} (7). والروع يذهب ويزول، والبشرى تجيء كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (8).
إلى غير ذلك من أساليب التصوير المتبعة في التعبير القرآني.
وطريقة التصوير التي يتبعها القرآن الكريم في التعبير لها فائدة عظيمة في وصول المعاني إلى النفس بشتى الوسائل؛ لأن المعاني إذا عرضت في صورتها التجريدية خاطبت الذهن فقط، أما إذا عرضت بالأسلوب التصويري فإنها
(1) سيد قطب، التصوير الفني ص 57.
(2)
سورة مريم الآية 4
(3)
سيد قطب، التصوير الفني ص 66.
(4)
سورة التكوير الآية 18
(5)
سورة الفجر الآية 4
(6)
سورة الكهف الآية 77
(7)
سورة الأعراف الآية 154
(8)
سورة هود الآية 74