الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضيعت " (1).
(1) تقييد العلم: 87 - 107.
ثالثا: توفيق العلماء بين اختلاف الروايات في شأن تدوين السنة:
لقد وفق الله سبحانه وتعالى كثيرا من العلماء إلى فهم الروايات التي وردت في شأن النهي عن كتابة السنة والروايات التي وردت في الإذن بكتابتها، مما جعل هذا الأمر مفهوما لدى كثير من المسلمين، وسوف أقوم هنا بإيراد أقوال بعض العلماء في هذا الشأن لكي يزداد الأمر وضوحا:
جاء في مختصر سنن أبي داود من قول ابن القيم رحمه الله ما يلي: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، فإنه صلى الله عليه وسلم، قال في غزاة الفتح:«اكتبوا لأبي شاة (1)» يعني خطبته التي سأل أبو شاة كتابتها " وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمح وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح والحمد لله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته: ائتوني باللوح والدواة والكتف؛ لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا - وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها، وكتبه في الصدقات معروفة. . . وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة.
وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة خشية الالتباس، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها. . . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان
(1) أخرجه الترمذي في أبواب العلم، ما جاء في كتابة العلم 1/ 135 وقال: حديث حسن صحيح.
بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل. اهـ (1).
وقال الخطابي: يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة. وقد قيل إنه إنما نهي أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم منهيا عنه فلا. . . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ وقال: ليبلغ الشاهد الغائب، فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ، ولم يؤمن ذهاب العلم، وأن يسقط أكثر الحديث، فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، والنسيان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط.
«ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل اشتكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك» . . . وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا في الصدقات والمعاقل والديات أو كتب عنه، فعملت بها الأمة، وتناقلها الرواة، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف، فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم. اهـ (2).
وقال الخطيب البغدادي: " وقد ثبت أن كراهة من كتب الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة التي تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنا عليها. ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه من كلام الرحمن. . . وأمر الناس بحفظ السنن، إذ الإسناد قريب والعهد غير بعيد، ونهي عن الاتكال على الكتاب، لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوى
(1) مختصر سنن أبي داود: 245، 246.
(2)
مختصر سنن أبي داود: 246، 247.
لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان. ولهذا قال سفيان الثوري:. . . بئس المستودع العلم القراطيس. . . . وكان سفيان يكتب، أفلا ترى أن سفيان ذم الاتكال على الكتاب وأمر بالحفظ، وكان مع ذلك يكتب احتياطا واستيثاقا. . . . قال الأوزاعي: كان هذا العلم شيئا شريفا، إذ كانوا يتلقونه ويتذاكرونه بينهم. . فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله. قلت إنما اتسع الناس في كتب العلم، وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات انتشرت والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول صلى الله عليه وسلم لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك. . اهـ (1).
وقال الأبي: " كره كثير من السلف كتب العلم لهذا النهي - النهي عن كتابة الحديث - وأجازه الأكثر، ثم وقع الإجماع على جوازه. . . والحديث محمول عند بعضهم على كتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة خوف أن يختلط به ويشتبه على القارئ، ويحتمل أن النهي منسوخ "(2).
وجاء في شرح النووي أيضا ما يلي: " كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف "(3).
يتضح لنا مما سبق أن النهي عن كتابة السنة كان لأسباب وجيهة ومقبولة، منها الحيلولة دون خلط القرآن بالسنة، والدليل على ذلك زوال هذا النهي عندما أمن المسلمون الوقوع في مثل ذلك الخلط، ومنها أن النهي كان لترويض المسلمين على مذاكرة الحديث النبوي وتعهده بالحفظ وعدم إهمال السنة اعتمادا
(1) تقييد العلم: 57 - 65.
(2)
صحيح مسلم بشرح الأبي والسنوسي: 305.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129.