الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأسباب التي دفعت المحدثين للعنايه بمتون الأحاديث خاصة بعد عصر الفقه - ظهور الزنادقة والملاحدة ومناصري العصبيات والقوميات وغيرهم من أعداء الله ومحاولتهم دس الأحاديث الموضوعة وإشاعتها وسط المسلمين مما جعل المحدثين يتشددون في اعتماد الأسانيد والمتون ويسألون عن حال الرواة رجلا رجلا، ولقد أورد الإمام الذهبي في مؤلفه " تذكرة الحفاظ، عن هذا الأمر ما يلي: " إن الرشيد أخذ رجلا من الزنادقة ليقتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها ويخرجانها حرفا حرفا " (1).
ومن الأسباب التي أدت إلى مضاعفة جهود المحدثين في العناية بمتون الأحاديث وأسانيدها أنهم قد اضطروا للرحلة في طلب الحديث بعد توسع الدولة الإسلامية وتفرق الصحابة بالأمصار، فكان على المحدثين أن يرحلوا إليهم طلبا للإسناد العالي، وتوثيق نصوص الأحاديث وتقويتها بكثرة الطرق.
ولقد بين الخطيب (2) البغدادي في مؤلفه " الرحلة " معظم من رحل منهم كأبي العالية الذي رحل ليسمع من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكزر بن حبييش الذي رحل في خلافة عثمان رضي الله عنه ليسمع من الصحابة، ونقل قول عامر الشعبي:" لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره ما ضاعت رحلته "(3).
(1) تذكرة الحفاظ: 1/ 273.
(2)
الرحلة: 48، 49.
(3)
الرحلة: 48، 49.
3 -
بعض المناهج التي اتبعها المحدثون للعناية بمتون الأحاديث
لقد اتبع المحدثون مناهج عديدة في جمع السنة النبوية الشريفة وتوثيقها، وتقسيم ما وصلهم من أحاديث إلى مستويات متعددة تتراوح ما بين الصحيح
والحسن والضعيف ثم الموضوع، ولقد انصبت جهودهم على تمحيص ونقد أسانيد الأحاديث ومتونها، وقد ترتب على عنايتهم بالسند أن بحثوا في رجال السند وحكموا على كل منهم بما يليق بحاله، من حيث التوثيق أو الجرح، وترتب على ذلك ظهور علوم كثيرة تتعلق بسند الحديث كعلم الجرح والتعديل، وعلم طبقات الرواة، والبحث في الكنى والألقاب وغيرها.
أما فيما يتعلق بعنايتهم بالمتن وهو موضوع بحثنا هذا فقد اتبع المحدثون مناهج فريدة من نوعها أيضا، متينة في أسسها، وقوية في أركانها؛ لصيانة متون الأحاديث الشريفة كأسانيدها تماما من الوهم والنسيان والعوارض البشرية، ومن التزيد والوضع والدس وتشويه الحقائق.
ولقد اهتم المحدثون بفحص المرويات اهتماما بالغا، فكان كل منهم يعرض ما يجمعه من أحاديث على زملائه من المحدثين للتأكد من سلامتها وخلوها من العلل. ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه " الكفاية " حيث روى عن الأوزاعي قوله: كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا، كما يعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذناه وما أنكروا منه تركناه، قال جرير: كنت إذا سمعت الحديث جئت به إلى المغيرة فعرضته عليه فما قال لي ألقه ألقيته " (1).
ولم ينته القرن الرابع الهجري إلا وقد جمعت معظم متون الأحاديث النبوية الشريفة ودونت في مصنفات، ثم انصب نشاط المحدثين بعد ذلك في العناية بهذه المصنفات والعمل على ترتيبها وتبويبها وشرحها والتعليق والاستدراك عليها، وتحقيقها، وما إلى ذلك من ضروب الأنشطة التي توضح مدى اهتمام المحدثين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة عنايتهم بها وتفانيهم في خدمتها. وسوف نورد فيما يلي بعضا من المناهج التي أتبعوها في ذلك:
(1) الكفاية في علم الرواية: 431، 432.
ا - الإقلال من رواية الحديث النبوي الشريف، وذلك لأسباب عديدة جمعها الشيخ محمد أبو زهو في مؤلفه " الحديث والمحدثون " وفيه يقول:
" نظر الخلفاء الراشدون، وتابعهم سائر الصحابة إلى السنة الشريفة، فألفوها كنوزا ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم فلم يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية، لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث ذريعة للتزيد فيه، وسلما لتزييف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون. كما كرهوا أن يشتغل الناس برواية الحديث وينصرفوا عن تلاوة القرآن، ولما تيسر حفظه لكثير منهم، لذلك نجدهم قد أنفقوا من السنة في كتاب أبي الزهو بقدر حسب ما يعن لهم من مسائل الفتوى والقضاء. . . وهذا أبو هريرة يمسك عن التحديث في زمن عمر بن الخطاب، مع أنه معدود في المكثرين من الصحابة لرواية الحديث، ولكنه اتباعا لسنة الشيخين في التقليل من الرواية يكف عنها، ثم لما طالت به الأيام واحتيج إلى ما عنده من العلم حدث به وأظهره للناس "(1).
2 -
طلب توثيق وتأكيد النص المروي بشاهد وسند يقويه ويعضده، ومما يدلنا على ذلك أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يطلب البينة على المروي تأكيدا وتقوية له، لا شكا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد أورد الإمام الذهبي في مؤلفه " تذكرة الحفاظ " في شأن تثبت سيدنا عمر بن الخطاب عن حديث سمعه من أبي بن كعب ما يلي " فقال عمر لأبي لتأتيني على ما تقول ببينة فخرج، فإذا ناس من الأنصار، قال: فذكر لهم قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما أني لم أتهمك ولكني أحببت أن أتثبت ".
وبعد أن نقل الذهبي تثبت عمر عن حديث أبي موسى الأشعري حول
(1) تذكرة الحفاظ 1: 8.
الاستئذان وطلبه البينة، وإحضار أبي موسى لشاهد يقر بصحة روايته، يقول الذهبي معلقا:" أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث؛ لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد ".
3 -
اختبار مدى قوة حفظ الراوي وتمكنه من استحضار ما رواه من أحاديث متى طلب منه ذلك. ومما يدلنا على أن المسلمين كانوا يمارسون هذا المنهج في العناية بمتون الأحاديث ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم بسنده من حديث عروة بن الزبير قال: " قالت لي عائشة، يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، قال: فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رءوسا جهالا فيفتونهم بغير علم فيضلون (1)». قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمرو قد قدم، فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى، قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص ".
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7307)، صحيح مسلم العلم (2673)، سنن الترمذي العلم (2652)، سنن ابن ماجه المقدمة (52)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 203)، سنن الدارمي المقدمة (239).
4 -
نقد الحديث بعرضه على القرآن الكريم والسنة الصحيحة المعروفة، ويدلنا على ذلك ما فعله كل من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والسيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك عندما بلغهما حديث فاطمة بنت قيس الوارد في شأن عدة المطلقة المبتوتة، فقاما برد الحديث لأنه غير متوافق مع ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المعلومة لديهما. ولقد أخرج الإمام مسلم الحديث المشار إليه بسنده من حديث الشعبي قال:«دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله عليها فقالت: طلقها زوجها ألبتة، فقالت: فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم (1)» .
وجاء في بعض طرق الحديث عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود ابن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدثت الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به فقال: ويلك تحدث بمثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2). اهـ.
وأخرج البخاري بسنده من حديث عروة بن الزبير أنه قال لعائشة
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها 10/ 102 (من صحيح مسلم بشرح النووي).
(2)
سورة الطلاق الآية 1
ألم ترين إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها ألبتة فخرجت؟ فقالت: بئس ما صنعت. قال: ألم تسمعي قول فاطمة بنت قيس؟ قالت: أما أنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث " ((1).
وأخرج البخاري تعليقا من حديث عروة أنه قال: عابت - يعني أن عائشة عابت حديث فاطمة - أشد العيب وقالت: إن فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم (2).
5 -
التدقيق في طرق تحمل الحديث (3) وأدائه سواء كان ذلك بالسماع من الشيخ أو بالقراءة عليه، أو بالإجازة منه، أو بالوجادة عنه وغير ذلك من طرق التحمل والأداء.
6 -
التشدد في مواصفات طالب الحديث من حيث عدالته وضبطه وعدم فساد عقيدته وفهمه وإتقانه وتبصره بالرجال، وغير ذلك من الصفات التي لا مندوحة عنها فيمن يتصدى لتحمل حديث رسول الله وأدائه. ويدلنا على ذلك ما جاء في " معرفة علوم الحديث " من قول يحيى بن سعيد ما يلي:
لا ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعهد ذلك " (4).
وقال الحاكم: " ومما يحتاج إليه طالب الحديث في زماننا هذا أن يبحث عن أحوال المحدث أولا: هل يعتقد الشريعة والتوحيد، وهل يلزم نفسه طاعة الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم فيما أوحى إليهم ووصفوا
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب قصة فاطمة بنت قيس 9/ 447 (من صحيح البخاري بشرح فتح الباري).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس 9/ 447 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري).
(3)
فيما يختص بالتحمل والأداء يمكن اللجوء إلى تدريب الراوي 2/ 1 - 59.
(4)
معرفة علوم الحديث: 19.
من الشرع، ثم يتأمل حاله هل هو صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه؟ فإن الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة لإجماع أئمة المسلمين على تركه " (1).
7 -
مذاكرة الحديث مع أهل العلم لمعرفة علله. قال الحاكم في هذا الشأن ما يلي: " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ، وكثرة السماع، وليس لهذا العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علل الحديث "(2).
8 -
تحديد شروط واضحة تبين مدى صحة الحديث، وهي: اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، عدم الشذوذ، عدم العلة، وأضاف إلى ذلك الإمام البخاري شرطي المعاصرة واللقيا. ولقد وضع المحدثون لذلك معايير لقبول الرواية مطلقا أو مقيدا كما أوضح لنا ذلك ابن القيم بقوله:" إما أن تقبل روايته - أي الراوي - مطلقا أو مقيدا، فأما المقبول إطلاقا فلا بد أن يكون مأمون الكذب بالمظنة، وشرط ذلك العدالة وخلوه عن الأغراض والعقائد الفاسدة التي يظن معها جواز الوضع، وأن يكون مأمون السهو بالحفظ، والضبط، والإتقان "(3).
9 -
إخلاص النية عند طلب الحديث، وتوخي الأمانة والدقة في أدائه، والتواضع لطلبة العلم، والامتناع عن التحديث عند الهرم خوف الاختلاط، واشتراط تأدب (4) المحدث مع شيخه.
ولقد التزم المحدثون بكل ذلك وحرصوا عليه. ويدلنا على ذلك أن الإمام البخاري كان قد أخلص النية عند جمع السنة، فقد بدأ صحيحه بالحديث الذي أخرجه بسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
(1) معرفة علوم الحديث: 20.
(2)
معرفة علوم الحديث: 75.
(3)
علم الحديث: 108، 109.
(4)
فيما يختص بآداب المحدثين انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1)» .
قال ابن حجر في سبب تصدير البخاري لصحيحه بهذا الحديث ما يلي: " لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف "(2).
10 -
عدم الأخذ عن السفهاء والتحذير من الضعفاء والمتروكين. ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه (الكفاية) تحت باب (أن السفه يسقط العدالة) حيث أورد عن شعبة أنه قال: لم يكن شيء أحب إلي من أن أرى رجلا يقدم من مكة فأسأله عن أبي الزبير. حتى قدمت مكة، فسمعت منه فبينا أنا عنده، إذ جاء رجل فسأله عن شيء، فافترى عليه فقلت: تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه غاظني، قال: قلت: يغيظك فتفتري عليه؟ فآليت ألا أحدث عنه فكان - أي شعبة - يقول: في صدري منه أربعمائة لا والله لا أحدثنكم عنه بشيء أبدا " (3).
11 -
إمعان النظر في نصوص المتون ونقد محتوياتها، وذلك تنقية للأحاديث مما قد يلحق بها من قلب (4) أو إدراج (5) أو تصحيف أو غير ذلك.
12 -
البحث والتحري عن تاريخ مواليد ووفيات الرواة كوسيلة لتحديد مدى
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 90 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري).
(2)
فتح الباري 1/ 10.
(3)
فيما يختص بترك أحاديث السفهاء والتحذير من الضعفاء والمتروكين. انظر مقدمة صحيح مسلم.
(4)
الحديث المقلوب هو: ما أبدل لفظ بآخر في سنده أو متنه بتقديم أو تأخير ونحوه.
(5)
الحديث المدرج هو: ما غير سياق إسناده أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل.
صدق الراوي من كذبه، ويدلنا على ذلك ما ورد في " الكفاية " في علم الرواية لمؤلفه الخطيب البغدادي، حيث ساق المؤلف حول هذا الموضوع ما يلي:
" ومما يستدل به على كذب المحدث في روايته عمن لم يدركه معرفة تاريخ موت المروي عنه، ومولد الراوي. . . حدثنا عفير بن معدان الكلاني قال: قدم علينا عمر بن موسى حمص، فاجتمعنا إليه في المسجد، فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر قلت له: من شيخنا هذا الصالح؟ سمه لنا لنعرفه؟. . . فقال: خالد بن معدان، قلت له: في أي سنة لقيته؟ قال: لقيته سنة ثمان ومائة، قلت: فأين لقيته؟ قال: لقيته في غزاة أرمينية، قال: فقلت له: اتق الله يا شيخ ولا تكذب!! مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين!! وأزيدك أخرى أنه لم يغز أرمينية قط!! كان يغزو الروم. . . وقال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ. . . وقال حفص بن غياث: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين: يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه. وإذا روى الراوي عن نفسه بأمر مستحيل سقطت روايته "(1).
13 -
رد رواية من عرف بقبول التلقين أو من تساهل في سماع الحديث وروايته، وكذلك رد رواية من عرف بالشذوذ والغفلة.
لقد رد المحدثون رواية من عرف بقبول التلقين، ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في الكفاية حيث يقول: إن أبا داود سليمان بن الأشعث قال: عطاء بن عجلان بصري يقال له عطاء العطار ليس بشيء، قال أبو معاوية: وصفوا له حديثا من حديثي، وقالوا له: قل حدثنا محمد بن حازم، فقال: حدثنا محمد بن حازم، فقلت: يا عدو الله أنا محمد بن حازم ما حدثتك بشيء. . . وقال يحيى بن سعيد: إذا
(1) الكفاية في علم الرواية: 119، 120.
كان الشيخ إذا لقنته قبل فذاك بلاء. . . وقال الحميدي: من قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه، إذا علم ذلك التلقين حادثا في حفظه لا يعرف به قديما، وأما من عرف به قديما في جميع حديثه فلا يقبل حديثه ولا يؤمن أن يكون حفظه مما لقن " (1).
لقد نقل لنا الخطيب أيضا آراء العلماء حول من عرف بالتساهل في السماع والرواية منها ما يلي: " قال أحمد بن حنبل: رأيت ابن وهب وكان يبلغني تسهيله - يعني في السماع - فلم أكتب عنه شيئا، وحديثه حديث مقارب الحق. . . وقال عثمان بن أبي شيبة رأيت عبد الله بن وهب. . . ينام نوما حسنا، وصاحبه يقرأ له على ابن عيينة، وابن وهب نائم قال: فقلت لصاحبه: أنت تقرأ وصاحبك نائم. قال: فضحك ابن عيينة، قال: فتركنا ابن وهب إلى يومنا هذا. . . . وقال يحيى بن حسان: جاء قوم ومعهم جزء فقالوا: سمعناه من ابن لهيعة، فنظرت فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ابن لهيعة، فجئت إلى ابن لهيعة فقلت: هذا الذي حدثت به ليس فيه حديث من حديثك، ولا سمعتها أنت قط، فقال: ما أصنع يجيئوني بكتاب ويقولون هذا من حديثك فأحدثهم به. . . وكان عبد الله بن لهيعة سيئ الحفظ واحترقت كتبه، وكان يتساهل في الأخذ، وأي كتاب جاءوا به حدث منه، فمن هناك كثرت المناكير في حديثه. . . ومن عرف بكثرة السهو والغفلة وقلة الضبط رد خبره، ويرد خبر من عرف بالتساهل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "(2).
أما عن الراوي الذي يغلب على حديثه الشذوذ فقد أورد الخطيب من قول العلماء ما يلي: " من حمل شاذ العلماء فقد حمل شرا كثيرا ".
(1) الكفاية في علم الرواية: 149.
(2)
الكفاية: 152.
وقال شعبة: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ " (1).
أما عن أحاديث أهل الغفلة فقد أورد الخطيب أيضا من قول ابن عباس رضي الله عنه ما يلي: " لا يكتب عن الشيخ المغفل "(2).
14 -
رد رواية أهل المجون والخلاعة والالتزام بالأخذ عن المشهورين المشهود لهم بطلب الحديث مع تجنب التحديث إلا بعد الحفظ والإتقان، ويظهر لنا كل ذلك فيما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه الكفاية حيث يقول:
" كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن رجل نظروا إلى صلاته وإلى سمته وإلى هيئته. . . حدثنا العباس بن محمد قال: سمعت يحيى بن معين، وذكرت له شيخا كان يلزم سفيان بن عيينة يقال له ابن مناذر، فقال: أعرفه كان صاحب حديث، وكان يتعشق ابن عبد الوهاب الثقفي ويقول فيه الأشعار، ويشبب بالنساء، وطردوه من البصرة، وكان يرسل العقارب في المسجد حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ منها حتى يسود وجوه الناس، ليس يروي عنه رجل فيه خير. . . قال أبو نعيم: لا ينبغي أن يؤخذ الحديث إلا عن حافظ له، أمين عليه، عارف بالرجال، ثم يأخذ نفسه بدرسه وتكريره حتى يستقر له حفظه، ويجب أن يتثبت في الرواية حال الأداء، ويروي ما لا يرتاب في حفظه، ويتوقف عما عارضه الشك فيه. . .
وعن محمد بن سيرين قال: التثبت نصف العلم. . . . وحدثنا أبو زرعة الدمشقي قال: رأيت أبا مسهر يكره للرجل أن يحدث إلا أن يكون عالما بما يحدث ضابطا له. . . قال عبد الرحمن بن مهدي: محرم على الرجل أن يروي حديثا في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن وكاسم الرجل. والمستحب له أن يورد الأحاديث بألفاظها؛ لأن ذلك أسلم. . . فإن كان ممن يروى على
(1) الكفاية: 142.
(2)
الكفاية في علم الرواية: 148.
المعنى دون اعتبار اللفظ، فيجب أن يكون توقيه أشد، وتحرزه أكثر خوفا من إحالة المعنى الذي به يتغير الحكم " (1).
15 -
مقابلة النص المكتوب بالأصل أو عرضه على الشيخ وتصحيحه، والتدقيق في كيفية أداء النص بعد ذلك. ويصف لنا هذا المنهج الخطيب البغدادي بقوله:" عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان يقول: كتبت؟ قلت: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قلت: لا. قال: لم تكتب. . . وعن يحيى بن كثير قال: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج. . . وعن الأخفش قال: إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا. . . . ويستحب نظر جماعة السامعين في النسخة وقت قراءة المحدث لها، وخاصة لمن أراد النقل منها. . . ومن سمع من الراوي ولم يكن له في الحال نسخه، ثم نسخ من الأصل بعد ذلك، استحب له عرض ما نسخه على الراوي للتصحيح، وإن كان قد قابل به؛ لأنه يحتمل أن يكون في الأصل خطأ أو نقصان حروف وغير ذلك مما يعرفه الراوي "(2).
16 -
ضبط طرق التحمل والأداء بألفاظ مخصوصة تبين للسامع كيفية التحمل بأمانة تامة، وفي هذا الشأن أورد الخطيب البغدادي ما يلي:" عن يحيى بن سعيد قال: ينبغي للرجل أن يحدث الرجل كما سمع، فإن سمع يقول: حدثنا، وإن عرض يقول عرضت، وإن كان أجازه يقول: أجاز لي. وسئل الأوزاعي عن الرجل يقرأ على الرجل الحديث يقول حدثنا؟ قال: لا يقول كما صنع قرأت. . . وقال أحمد بن حنبل: إذا سمعت من المحدث فقل: حدثنا، وإذا قرأت عليه فقل: قرأت، وإذا قرئ عليه يقول: قرئ عليه "(3).
(1) الكفاية في علم الرواية: 165 - 167.
(2)
الكفاية: 237 - 239.
(3)
الكفاية في علم الرواية: 299.