المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الوصية الخامسة: حج بيت الله الحرام

- ‌ حكم تولية كل منهم القضاء

- ‌ المذهب الحنفي:

- ‌ المذهب المالكي:

- ‌ المذهب الشافعي:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌ أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا

- ‌ المذهب الحنفي:

- ‌ المذهب المالكي:

- ‌ المذهب الشافعي:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌الخلاصة

- ‌ الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به

- ‌الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا:

- ‌التصرف في الكون

- ‌كيفية خلق الإنسان

- ‌أنتم خلفاء الله في أرضه

- ‌هل يقال عن الهواء ونحوه أنه طبيعي

- ‌شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌حكم من يسب الدين والسلام عليه

- ‌حكم الإسلام في بعض الأقوال

- ‌حكم ذبيحة من يسب الدين والأكل معه

- ‌حكم بعض الكلمات التي فيها سب الدين

- ‌حكم سب الذات الإلهية

- ‌حكم تمزيق المصحف

- ‌المكفرات التي تخرج من الإسلام

- ‌من كان أتقى لله فهو أفضل

- ‌أخذ الأجرة على تعليم القرآن

- ‌لا يكفي إطعام مسكين عشر مرات عن إطعام عشرة مساكين

- ‌يجب على المرأة التستر سواء كانت بدوية أو حضرية

- ‌حكم الاستماع للغناء

- ‌شرح حديث «استوصوا بالنساء خيرا

- ‌الحشرات التي يجوز قتلها

- ‌على المسلم أن يبلغ عن ربه وأن يؤدي الأمانة

- ‌لا يجوز للمسلم أن يخلو بالمرأة الأجنبيةسواء كانت خادمة أو غيرها

- ‌الزواج بنية الطلاق والفرق بينه وبين زواج المتعة

- ‌يجب منع المجلات التي عليها صور النساء

- ‌هل الذنوب تسبب محق البركة

- ‌الخاتمة

- ‌من منافع الحج وآدابه

- ‌الدعوة إلى اللهمكانتها وكيفيتها وثمراتها

- ‌تعريف الدعوة إلى الله

- ‌ أهمية الدعوة ومكانتها في الإسلام

- ‌ كيفية الدعوة ومجالاتها

- ‌الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية إلى الإسلام

- ‌ثمرة الدعوة إلى الله ونتائجها

- ‌مخطوطة "حجة التحذير فيالمنع من لبس الحرير

- ‌مقدمة

- ‌موضوع الرسالة

- ‌المؤلف

- ‌وصف النسخ:

- ‌التوثيق

- ‌منهج التحقيق:

- ‌الفقيه المفتيزيد بن ثابترضي الله عنه من مفتي الصحابة

- ‌ زيد بن ثابت:

- ‌ إسلامه:

- ‌ ذكاؤه:

- ‌ فكاهته:

- ‌ جهاده:

- ‌ علمه:

- ‌ الكتابة والخط:

- ‌ لغة العرب وشعرها:

- ‌ اللغات الأجنبية:

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ الحديث النبوي الشريف:

- ‌ القيافة:

- ‌ الفقه والفرائض:

- ‌ أحد الفقهاء الستة:

- ‌ إتقانه الفرائض مع الفقه:

- ‌ إتقانه القضاء مع الفقه:

- ‌ عمل أهل المدينة بقوله:

- ‌ سؤال الخلفاء إياه وعملهم بقوله:

- ‌ شواذه:

- ‌ إمتناعه عن الفتوى فيما لم يقع:

- ‌ منعه عن كتابة فتاواه:

- ‌ تأثره بفقه عمر بن الخطاب:

- ‌ حامل فقه زيد بن ثابت:

- ‌ الحساب:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ سيرته مع الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء:

- ‌ زيد مع الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ زيد مع أبي بكر:

- ‌ زيد مع عمر بن الخطاب:

- ‌ زيد مع عثمان بن عفان:

- ‌ زيد مع علي بن أبي طالب:

- ‌ زيد مع مروان بن الحكم (أمير المدينة المنورة):

- ‌ وفاة زيد بن ثابت:

- ‌حياة ابن الجوزي

- ‌أسرته:

- ‌مولده ونشأته:

- ‌طلبه للعلم:

- ‌مذهبه:

- ‌أعماله:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌مصادره في التفسير:

- ‌مصادره في أسباب النزول:

- ‌مصادره النحوية واللغوية:

- ‌مصادره الفقهية:

- ‌أبرز سمات تفسير ابن الجوزي:

- ‌مواقفه من القراءات:

- ‌تفسير القرآن بالقرآن أو بالسنة:

- ‌أسباب النزول:

- ‌الأحكام الفقهية:

- ‌اللغة والنحو:

- ‌موقفه من الإسرائيليات:

- ‌ترجيحه بعض الآراء على بعض:

- ‌وفاة ابن الجوزي:

- ‌تأويل الصفاتفيكتب غريب الحديث

- ‌ قدم الله ورجله:

- ‌ أصابع الرحمن:

- ‌ ضحك الله تعالى:

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌ استعراض بعض افتراءات المستشرقين حولأساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث

- ‌أولا: الادعاء أن النهي عن كتابة السنة أدى إلى ضياعها:

- ‌ثانيا: الادعاء أن المحدثين لم يعتنوا بمتون الأحاديث:

- ‌ثالثا: الادعاء أن الأحاديث الشريفة مليئة بالمتون المتعارضة:

- ‌ اختلاف الروايات حول تدوين الأحاديث وكيفية الجمع بينها

- ‌أولا: بعض الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن كتابة السنة:

- ‌ثانيا: بعض الأحاديث والآثار الواردة في كتابة السنة:

- ‌ثالثا: توفيق العلماء بين اختلاف الروايات في شأن تدوين السنة:

- ‌ بعض الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الحديث

- ‌ بعض المناهج التي اتبعها المحدثون للعناية بمتون الأحاديث

- ‌ بعض النتائج التي ترتبت على عناية المحدثين بمتون الحديث

- ‌ أساليب المحدثين في تمحيص المتون المتعارضةوالمتون التي ظاهرها التعارض

- ‌أولا: المتون المتعارضة:

- ‌ تعريف الشاذ ومثاله وحكمه

- ‌ تعريف المنكر ومثاله وحكمه:

- ‌ تعريف المضطرب ومثاله وحكمه:

- ‌ تعريف المنسوخ ومثاله وحكمه:

- ‌ثانيا: المتون المتعارضة ظاهريا:

- ‌ الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث

- ‌الخاتمة ونتائج البحث

- ‌الشهادة بالحق فيمهرجان الجهاد

- ‌من قرارات المجمع الفقهيالإسلامي بمكة المكرمة

- ‌القرار الثالثحول أوقات الصلوات والصيامفي البلاد ذات خطوط العرضالعالية الدرجات

- ‌القرار السادسحول العملة الورقية

- ‌من قرارات هيئة كبار العلماء

- ‌قرار رقم 10 بشأن الأوراق النقدية

- ‌وجهة نظر

- ‌بيان خطأ من جعل جدةميقاتا لحجاج الجو والبحر

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث

6 -

‌ الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث

لقد سبق أن رأينا إدعاء ألفريد غيوم وصاحبه ماكدونالد أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة قد تسبب في إهمال المحدثين للسنة، ومن ثم ضياعها، ولقد اعتمدا في ذلك على حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد فيه:«لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (1)» . . .

ومن الغريب في الأمر أن هذين المستشرقين قد تمسكا بحرفية هذا الحديث تمسكا أعمى، وتجاهلا أحاديث أخرى صحيحة، تدل على أن السنة كانت تدون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أذن بكتابة حديثه كما جاء في حديث أبي هريرة حيث قال:" ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ".

كما تجاهلا أيضا الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث عبد الله ابن عمرو وفيه: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق (2)» ، والحديث الآخر الصحيح الذي أخرجه الترمذي، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اكتبوا لأبي شاة (3)» .

وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذين المستشرقين لا يعتمدان إلا الأحاديث التي توافق هواهما وميولهما الشخصية المعادية للإسلام ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما علماء المسلمين فإنهم يرفضون مثل هذا المنهج الواهي عند اعتماد الأحاديث أو ردها، ولقد نظروا في الأحاديث التي تدل على النهي عن كتابة السنة، والأحاديث التي فيها إذن بكتابة السنة، وعلموا أنها جميعا أحاديث

(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3004)، سنن الدارمي المقدمة (450).

(2)

سنن أبو داود العلم (3646)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 162)، سنن الدارمي المقدمة (484).

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الرخصة في كتابة العلم 4/ 228 - 429 وقال: الترمذي حديث صحيح (من تحفة الأحوذي).

ص: 337

صحيحة، فقاموا التوفيق بينها، واستقروا على إباحة كتابة الحديث كما رأينا من كلام النووي حيث قال:" إنه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم وزال الخلاف ".

وليس هناك دليل على أن النهي عن كتابة السنة في أول الأمر قد أدى إلى ضياع السنة كما يدعي غيوم وصاحبه ماكدونالد، بل بالعكس فإن بعض السلف كان يرى أن عدم الكتابة يساعد على حفظ السنة، واستحضارها في القلب، والعمل بها، وعدم خلطها بغيرها من كتب أهل الكتاب وأساطيرهم.

ويدلنا على ذلك قول الخطيب البغدادي الذي ذكرناه آنفا وفيه: ". . . نهى عن الاتكال على الكتاب؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان. ولهذا قال سفيان الثوري: بئس المستودع العلم القراطيس ".

كما يدلنا على ذلك أيضا ما أورده الخطيب البغدادي " في تقييد العلم " عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: " كنا نسمع الشيء فنكتبه، ففطن لنا عبد الله، فدعا أم ولده ودعا بالكتاب وبإجانة من ماء فغسله ".

ولقد أورد الخطيب البغدادي تعليقا حول ذلك حيث قال: " إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكنه كان من كتب أهل الكتاب ".

أما ادعاء فيليب حتى أن المحدثين قد نقلوا متون الأحاديث عن أهل الكتاب وبخاصة أناجيل النصارى، فيبطله ما رأيناه من توجيهات إلهية واردة في القرآن الكريم، والتي تحث المسلمين على طاعة الله ورسوله قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (2)

(1) سورة الأنفال الآية 1

(2)

سورة الأنفال الآية 20

ص: 338

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1)، وقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2).

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه وتوعد الكاذبين والوضاعين بعذاب النار يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم:«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3)» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (4)» .

كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع سنن أهل الكتاب والاقتداء بهم، وذلك في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنة من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا؟ (5)» .

ولقد استجاب المسلمون لهذه التوجيهات وتمسكوا بها، واجتهدوا كي يضعوها موضع التنفيذ، ومما يدل على ذلك القصة التي أوردناها آنفا من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد استدعى رجلا كان يستنسخ كتاب دانيال، فضربه وأمره أن يمحو ما كتبه بالحميم والصوف الأبيض وألا يقرأه ولا يقرئه أحدا من الناس.

ولقد بين سيدنا عمر بن الخطاب سبب نهيه عن استنساخ كتب النصارى واليهود وغيرهم عن طريق هذه القصة التي رواها عن نفسه: «انطلقت أنا

(1) سورة محمد الآية 33

(2)

سورة التغابن الآية 12

(3)

صحيح البخاري الجنائز (1291)، صحيح مسلم مقدمة (4).

(4)

أخرجه مسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 196 (من صحيح مسلم بشرح النووي أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب العمل بخبر الواحد 1 - 62 (من صحيح مسلم بشرح النووي).

(5)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2/ 320 حديث رقم 3994 وعلق عليه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي بقوله: " إسناده صحيح ورجاله ثقات.

ص: 339

فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا في يدك يا عمر، قال: قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاه جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، إني أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصارا، لقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يقربكم المتهوكون، قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم».

ولم يكتف المسلمون بتجنب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحاشي الأخذ عن أهل الكتاب فقط، إنما ابتكروا مناهج رصينة وطرائق سديدة لتمحيص متون الأحاديث والاعتناء بأسانيدها قبل اعتمادها، ومن ذلك: طلب توثيق النص المروي بسند آخر أو شاهد للتأكد من سلامته، ونقد الحديث بعرضه على القرآن الكريم والسنة الثابتة، والتدقيق في طرق تحمل الحديث وأدائه ومذاكرة الحديث مع أهل الفهم والمعرفة ليتضح صحيحه من سقيمه، والتزام صحة السند والتشدد في ذلك؛ لأن صحة السند من أكبر الأدلة على صحة المتن، والتحذير من الأخذ عن الضعفاء والمجهولين والمتروكين، وأهل البدع والوضاعين وأشباههم، ومقارنة المكتوب بالأصل، وعرض الكتاب على الشيخ، وغير ذلك من المناهج الدقيقة التي تبطل دعوى تسرب الأساطير الوثنية من قبل أهل الكتاب أو غيرهم إلى السنة المقبولة. وفي ضوء هذه المناهج الدقيقة قام المحدثون بغربلة الأحاديث التي وصلتهم وتقسيمها إلى درجات متفاوتة من حيث القوة والضعف، وبهذه الطريقة أمكن معرفة صحيح الحديث من سقيمه.

كما قاموا بالتصدي للوضع والوضاعين، وكشفوا من مخططاتهم حتى أنهم أفردوا مصنفات خاصة للأحاديث الموضوعة لتحذير المسلمين من شرها.

أما الحديثان اللذان استشهد بهما فيليب حتى ليدلل بهما على عدم جدية

ص: 340

المحدثين في تمحيص السنة، وأن المحدثين كانوا يأخذون عن أناجيل النصارى فقد وردا في بعض الكتب الصحيحة منها سنن الترمذي وصحيح مسلم.

الحديث الأول أخرجه الترمذي بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم فقال: كل يوم سبعين مرة (1)» .

أما الحديث الثاني فقد أخرجه مسلم بسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها: هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن قال: فذبحتها، ففرعت إلى فراغي فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحيهلا بكم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي. فأخرجت له عجينا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا - أو كما قال الضحاك لتخبز كما هو (2)» .

(1) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في العفو عن الخادم 8/ 129، 130. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (من عارضة الأحوذي).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يتق برضاه 13/ 215 - 217 (من صحيح مسلم بشرح النووي).

ص: 341

إن الحديث الأول حسن، والثاني صحيح، مما يؤكد بأنهما قد نالا القبول من المحدثين في ضوء مناهجهم الدقيقة التي أشرنا إليها آنفا، أما ما ورد في الإنجيل من أقوال منسوبة لعيسى عليه السلام تتشابه في وجه من الوجوه مع ما جاء في هذين الحديثين، فلا يدل على أن المسلمين قد أخذوا متن هذين الحديثين عن أناجيل النصارى؛ لأن جميع الأقوال الواردة في الأناجيل لا يمكن إثبات نسبتها لسيدنا عيسى عليه السلام؛ لانقطاع سلسلة السند بين سيدنا عيسى وبين مؤلفي هذه الأناجيل، ذلك باعتراف علماء اللاهوت أنفسهم.

وعليه فإن أقوال النصارى هذه تعد من قبيل الحديث المرفوض الذي لا يأبه به المحدثون؛ لأنهم يعتبرونه من قبيل الحديث الذي ليس له إسناد قائم.

وعليه فلا يعقل أن يعتمد المحدثون في مروياتهم على أناجيل النصارى التي لا سند لها، بجانب أن مناهج المحدثين تحتم عليهم عدم أخذ الحديث إلا عن العدل الضابط، وهو المسلم البالغ العاقل غير الفاسق ولا مخروم المروءة، وهذه الصفات كما هو معلوم لا تنطبق بحال من الأحوال على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

أما اتهام موريس سيل لابن حجر العسقلاني بأنه استعان بما جاء عند النصارى عندما (فسر كلمة الأريسيين بالفلاحين) فهو زعم خاطئ؛ لأن الأريسين هم فعلا أتباع آريوس، وقد كانوا يقطنون الشام ومصر وشمال أفريقيا، وهذه من البلاد الزراعية، فلا يستبعد أن يكون معظم أنصار هذه الطائفة كانوا من الفلاحين؛ لأن الزراعة هي الحرفة الرئيسة لسكان تلك المنطقة، وعليه فلا يتعارض تفسير ابن حجر مع الواقع التاريخي لأنصار هذه الطائفة، ولهذا فليس هناك أي مبرر موضوعي لهذا الهجوم الصارخ الذي شنه موريس سيل على هذا العالم الجليل.

ص: 342

أما أحاديث الشفاعة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مخرجة في الكتب الصحيحة، وإنها تخالف ما جاء عند النصارى فيما يختص بسيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام تمام الاختلاف، لذا فإني سوف أورد هنا ما جاء في السنة الصحيحة عن الشفاعة، وما جاء في أسفار أعمال الرسل من أقوال حول هذا الموضوع ليتضح لنا فساد ما ساقه موريس سيل من افتراء حول تشابه الحديث الشريف مع ما جاء في تلك الأسفار.

أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى عامة الناس (1)» .

قال العيني: الشفاعة هي سؤال فعل الخير وترك الضرر عن الغير على سبيل الضراعة. وذكر الأزهري في تهذيبه عن المبرد: يغلب أن الشفاعة الدعاء، والشفاعة كلام الشفيع لملك عند حاجة يسألها لغيره. . وقال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيه للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وقيل الشفاعة التي اختص بها: أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل الشفاعة لخروج من في قلبه ذرة من إيمان من النار، وقيل: في رفع الدرجات في الجنة، وقيل: قوم استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم إياها. وقيل: إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهي أيضا مختصة به صلى الله عليه وسلم " (2).

أما ما جاء في سفر أعمال الرسل حول موضوع شفاعة عيسى ابن مريم ففيه

(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة 4/ 7 (من صحيح البخاري بشرحه عمدة القارئ). وانظر ما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:(ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) 13/ 243 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري).

(2)

عمدة القارئ 110.

ص: 343

شرك صريح بالله تعالى حيث زعم مؤلف السفر أن هناك إلهين أحدهما (الأب) وهو الله سبحانه وتعالى، أما الثاني فهو عيسى عليه السلام، وأنهما يشتركان في الألوهية، جاء في هذا السفر ما نصه:" قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعدائك موطئا لقدميك، فليعلم يقينا جميع آل إسرائيل أن الرب جعل يسوع هذا الذي صلبتموه ربا ومسيحا "(1).

ولقد تشكك علماء اللاهوت الغربيون في صحة نسبة هذا السفر - الذي استشهد به موريس سيل - إلى كاتبه الذي يدعون أن اسمه لوقا، وليس هذا فحسب، بل إن عالم اللاهوت الغربي الشهير ميريل تيني (2) قد صرح بأن كاتب هذا السفر غير معروف.

وبما أن علماء المصطلح يردون رواية مجهول العين ومجهول الحال حتى ولو كان مسلما، فلا يعقل أن يأبه هؤلاء المحدثون بما جاء في هذا السفر الذي لا يعرف راويه، وحتى لو عرف فإنه قطعا لا ينتمي لأمة الإسلام.

أما الحديث النبوي الذي ساقه المستشرق غيوم ليدلل به على أن الإجماع قد اتخذ بواسطة المحدثين كمبرر لتلفيق الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورا وبهتانا، فقد أخرجه الترمذي بسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار (3)» .

ولقد بين العلماء معنى الحديث، وأفاضوا في ذلك، منهم صاحب " الموقظة في علم مصطلح الحديث " حيث أورد في كتابه ما يلي: " ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله - تعالى - لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمدا ولا خطأ

(1) انظر كتاب: new testament survey pp. 171 - 172. .

(2)

انظر كتاب: introduction to the new testament pp. 129 - 132.

(3)

أخرجه الترمذي في أبوب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 9/ 11 قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه " من عارضة الأحوذي.

ص: 344

فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، إنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه، فإن قدر خطؤه في نقده فله أجر واحد " (1).

ويظهر من هذا القول أن الإجماع المقصود ليس هو إجماع الرعاع والغوغاء حول رأي يصلون إليه كيفما اتفق، إنما الإجماع المقصود هنا هو إجماع أصحاب الحديث الذين لهم مناهجهم الدقيقة المحكمة في تحقيق المتن والسند فلا يعقل أن يجتمعوا على توثيق ضعيف أو تضعيف ثقة.

ونفس هذا المعنى تقريبا أورده أبو عيسى الترمذي عند إخراجه لهذا الحديث حيث يقول: " وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه والعلم والحديث ".

وقال ابن العربي في العارضة في تعريفه للجماعة معلقا على هذا الحديث ما يلي: " إنما أراد عبد الله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة. . ".

فالإجماع إذن عند علماء المسلمين وفقهائهم ومحدثيهم لا يمكن أن يكون مدخلا أو مبررا لتلفيق الأحاديث ونسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما ادعى غيوم.

أما الحديث الآخر والذي أورده غيوم ليدلل به على أن علماء الحديث قد لفقوا بعض الأحاديث ونسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم، والذي ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «إن جاء الحديث مطابقا للقرآن فانسبوه إلي، وإلا فاعلموا أنه لم يصدر عني» ، فهو حديث موضوع. ولقد أورد الشيخ أبو زهو في كتابه " الحديث والمحدثون " حول هذا الحديث ما يلي:" حديث وضعه الخوارج والزنادقة. وهذا ليس ببعيد على قوم وقفوا على ظواهر الكتاب وردوا الحديث إذا جاء من غير من ينتمون إليه ".

(1) الموقظة في علم مصطلح الحديث: 84.

ص: 345

وبما أن هذا الحديث موضوع فلا يحل لأحد من المسلمين نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستشهاد به أو العمل بما جاء فيه.

وعليه فإن المستشرق غيوم يكون قد استند على حديث موضوع، لا قيمة له في تهجمه على المحدثين الذين قاموا بجمع السنة النبوية الشريفة.

أما زعم غيوم أن سلطة الإجماع عند المسلمين تعادل سلطة المجامع الكنسية فهو محض افتراء؛ لأن المجامع الكنسية كما هو معروف لها السلطة المطلقة في التشريعات الدينية، بما في ذلك نسخ ما لا يروق لها من محتويات الأناجيل واستبداله بغيره على اعتبار أن روح القدس مازال يلهمهم ويسدد خطاهم، بجانب اعتقادهم أن رئيسهم البابا معصوم من الخطأ.

أما الإجماع عند المسلمين فهو المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن والسنة، وهو بهذا لا ينسخ القرآن ولا الحديث، ولا يبطل أيا منهما، فكيف يدعي غيوم أن الإجماع عند المسلمين له سلطة النسخ والتمكن من إبطال مفعول نص قراني أو حديث نبوي كما تفعل المجامع الكنسية عند النصارى.

أما ادعاء كل من نيكلسون وغيوم أن السنة النبوية الصحيحة مليئة بالمتون المتعارضة بصورة أعيت المحدثين وحيرتهم فهو ادعاء باطل، ويظهر بطلان هذا الادعاء في ضوء الحقائق التي أوردناها آنفا في هذا البحث، والتي تدل على أن معظم الأحاديث الشريفة الصحيحة محكمة. أما المختلف فهو قليل ومع قلته فقد تصدى له جهابذة العلماء والمحدثون، ووفقوا في تأويله بصورة مقنعة، كما فعل ابن قتيبة في تأويله لكثير من الأحاديث التي ظاهرها التعارض بما في ذلك الأحاديث التي استشهد بها غيوم ونيكلسون وزعموا أنها أعيت المحدثين وأربكتهم.

ولقد رأينا أيضا كيف تعامل المحدثون مع الأحاديث المتعارضة كالشاذ والمحفوظ والمنكر والمعروف والمضطرب والناسخ والمنسوخ، وأصدروا الأحكام الصائبة في كل حالة حيث قبلوا المحفوظ والمعروف وردوا كلا من الشاذ

ص: 346