الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السؤال الأول من الفتوى رقم 9087.
س:
استشهاد الكنيسة بآيات من القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام ابن الله
ودليلهم على ذلك قالوا: لما كان الله وحده قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (1) بصفة المفرد، ولما خلق عيسى عليه السلام تغير أسلوب بعض الآيات إلى صيغة الجمع وضربوا مثلا بالآية الشريفة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (2) و {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} (3).
وقالوا: الله تعالى تكلم بصفة الجمع، أي بمعنى (الله وعيسى عليه السلام والروح القدس)؟.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ليس في تنوع الأسلوب القرآني وإخبار الله تعالى عن نفسه مرة بصيغة الإفراد وأخرى بصيغة قد تستعمل في الجمع أحيانا وفي المفرد أحيانا على وجه التعظيم ليس في ذلك دليل على بنوة عيسى عليه السلام لله، ولا على إلهيته، وذلك لوجوه:
الوجه الأول: أن تنوع الأسلوب في القرآن بالجمع والإفراد كان قبل أن يخلق الله تعالى عبده عيسى عليه السلام وأمه مريم بآلاف السنين وحين خلقهما وبعد أن خلقهما، فلا أثر لوجودهما في تنوع الأسلوب، بل ذلك لأمر آخر يتبين مما يأتي:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (4){وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (5)
(1) سورة طه الآية 14
(2)
سورة الحجر الآية 9
(3)
سورة الحجر الآية 23
(4)
سورة الحجر الآية 26
(5)
سورة الحجر الآية 27
وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (1) فجاء الأسلوب متنوعا قبل أن يكون عيسى وأمه عليهما السلام، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (2) إلى أن قال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3){وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (4) إلى أن قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (5) وقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (6) وقال في خليله إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (7){وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (8) وقال في كليمه موسى عليه السلام: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (9){وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (10) وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (11) الآية، وقال:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (12)
(1) سورة الكهف الآية 50
(2)
سورة المائدة الآية 44
(3)
سورة المائدة الآية 44
(4)
سورة المائدة الآية 45
(5)
سورة المائدة الآية 48
(6)
سورة نوح الآية 1
(7)
سورة مريم الآية 49
(8)
سورة مريم الآية 50
(9)
سورة مريم الآية 52
(10)
سورة مريم الآية 53
(11)
سورة النساء الآية 163
(12)
سورة الأنبياء الآية 91
وقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} (1) الآيات، وأمثالها من الآيات تنوع في الأسلوب إفرادا وجمعا في خلق عيسى ومخاطبته وقبل خلقه، ومن هذا يتبين أن الأسلوب ما تغير بعد خلق عيسى عليه السلام ليكون دليلا على بنوته لله أو إلهيته بل لأمر آخر يعرف من الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن كل من عرف لغة العرب وأسلوبهم في التعبير يعلم أن ضمير التكلم مثل كلمة (أنا)، وتاء المتكلم يستعملها الفرد في الحديث عن نفسه، أما ضمير التكلم لفظ، (نحن)، و (نا)، فيستعملها الاثنان فأكثر، وقد يستعملها الفرد العظيم أو المتعاظم إشعارا لعظمته وسياق الكلام ومقتضى الحال وما احتف بالحديث من القرائن هو الذي يرشد القارئ والسامع إلى المراد ويعين المقصود، ومن خالف في ذلك فهو إما جاهل عميت عليه الأنباء، وإما معاند يريد التلبيس وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا للهوى، ويأبى الله إلا أن يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، يكشف ذلك الوجه الثالث.
الوجه الثالث: أن القرآن كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، يفسر بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وقد قال تعالى فيه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (2){لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (3){تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (4){أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (5){وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (6){إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (7)
(1) سورة المائدة الآية 110
(2)
سورة مريم الآية 88
(3)
سورة مريم الآية 89
(4)
سورة مريم الآية 90
(5)
سورة مريم الآية 91
(6)
سورة مريم الآية 92
(7)
سورة مريم الآية 93
وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1){اللَّهُ الصَّمَدُ} (2){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (5) فوجب على من آمن به أن يجمع بين آياته، ولزم من استدل بنصوصه أن ينصفه من نفسه، فلا يستدل ببعضه ويعرض عن بعض، وإلا يلبس الحق بالباطل ليضرب بعضه ببعض بغيا وعدوانا ترويجا للباطل كما فعل أسلافهم السود بالتوراة، فأنكر الله عليهم ذلك بقوله:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (6) الآيات.
وعلى هذا لزم من نحا القرآن ليستدل به أن ينفي بنوة عيسى عليه السلام لله وإلهيته مع الله، ويثبت وحدانية الله تعالى، لما ذكر من الآيات ولقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (7){لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (8) الآيات وأمثال ذلك في القرآن كثير، وإلا فليكفوا عن هذا التلاعب حتى لا يلزمهم العار، ويضحكوا العقلاء من أنفسهم، ويحق فيهم المثل القائل:(ليس هذا بعشك فادرجي).
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2)
سورة الإخلاص الآية 2
(3)
سورة الإخلاص الآية 3
(4)
سورة الإخلاص الآية 4
(5)
سورة آل عمران الآية 59
(6)
سورة البقرة الآية 85
(7)
سورة المائدة الآية 72
(8)
سورة المائدة الآية 73
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو
…
عضو
…
نائب رئيس اللجنة
…
الرئيس
عبد الله بن قعود
…
عبد الله بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فتوى رقم 262
س: هل عيسى حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة؟. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يزل حيا، وأن الله رفعه إلى السماء، وأنه سينزل آخر الزمان حكما عدلا يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويدعوا إلى ما جاء به من الحق وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، قال الله تعالى في فرية اليهود والرد عليها:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (1){بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) فأنكر سبحانه على اليهود زعمهم أنهم قتلوه أو صلبوه وأخبر أنه رفعه إليه رحمة به وتكريما له وجعل ذلك آية من آياته التي يؤتيها من شاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم أولا وآخرا، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) أن يكون الله قد رفع عيسى بدنا وروحا حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم قتلوه أو
(1) سورة النساء الآية 157
(2)
سورة النساء الآية 158
(3)
سورة النساء الآية 158
صلبوه، لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم الصلب والقتل فلا يكون رفعها وحدها ردا عليهم؛ ولأن ذلك مقتضى كمال عزته وقوته وتكريمه ونصره من شاء من رسله حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (2) فأخبر سبحانه بأن جميع أهل الكتاب سوف يؤمنون بعيسى قبل موته، أي موت عيسى، وذلك عند نزوله آخر الزمان حكما عدلا داعيا إلى الإسلام كما سيجيء بيانه في حديث نزوله، وهذا المعنى هو المتعين فإن الكلام سبق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه ولبيان سنة الله في إنجائه ورد كيد أعدائه، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى رعاية لسياق الكلام، وتوحيدا لمرجع الضميرين، وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: (4)» الآية. وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم (5)» وثبت في الصحيح أيضا أن جابر بن عبد الله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة (6)» قال: «" فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة (7)» فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه
(1) سورة النساء الآية 158
(2)
سورة النساء الآية 159
(3)
صحيح البخاري البيوع (2222)، صحيح مسلم الإيمان (155)، سنن الترمذي الفتن (2233)، سنن أبو داود الملاحم (4324)، سنن ابن ماجه الفتن (4078)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 272).
(4)
سورة النساء الآية 159 (3){وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}
(5)
صحيح مسلم الإيمان (155، 8)، سنن الترمذي الإيمان (2610)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990)، سنن أبو داود السنة (4695)، سنن ابن ماجه المقدمة (63)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 52)، باقي مسند المكثرين (2/ 336).
(6)
صحيح مسلم الإيمان (156)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 384).
(7)
صحيح مسلم الإيمان (156)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 384).
يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزول عيسى من هذه الأمة، وعلى ذلك لا تكون هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث لم يأت عيسى برسالة جديدة، ولله الحكم أولا وآخرآ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم.
فمن زعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب أو قتل فهو كافر لمخالفته لصريح القرآن ولما ثبت من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال من المسلمين أن الله تعالى أمات عيسى عليه الصلاة والسلام موتا حقيقيا ثم رفعه إليه حينما كاد له اليهود وعزموا على صلبه وقتله فقد شذ عن جماعة المسلمين وضل عن سواء السبيل، لمخالفته ظواهر نصوص القرآن والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حداهم إلى هذا فهمهم الخاطئ لقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) حيث فسر التوفي بالإماتة فخالف بذلك ما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله إياه من الأرض ورفعه إليه حيا وتخليصه بذلك من الذين كفروا جمعا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على رفعه حيا وعلى نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به. وما روي عن ابن عباس من تفسير التوفي هنا بالإماتة فغير صحيح لانقطاع سنده إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع منه ولم يره، وإنما روى عنه بواسطة، ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة لأنه من رواية ابن إسحاق عن يهم عن وهب، ففيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالا
(1) سورة آل عمران الآية 55
في معنى التوفي، فإنه قد فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنا وروحا ورفعه إليه حيا، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى جمعا بين الأدلة، وردا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وكذلك القول في اختلافهم في تفسير قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1) فيجب المصير فيه إلى معنى يتفق مع سياق الكلام وما ثبت من أحاديث نزول عيسى آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به، جمعا بين الأدلة، ومحافظة على مقصد المتكلم من كلامه فمن نظر إلى هذه الآية مجردة عما قبلها وعن القصد الذي سيقت له وعن الأدلة الأخرى التي وردت في موضوعها وتأولها على معنى: لا أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بالله أو بعيسى قبل موته أي الكتابي فقد خالف ظاهر الآية وسياق الكلام وما ثبت من الأدلة الأخرى في شأن عيسى، وكان بذلك ممن اتبع ما تشابه من المنزل ولم يرده إلى المحكم منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فحق عليه وعيد من في قلوبهم زيغ، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2){رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} (3) ثم إن من يقول بإماتة الله لعيسى حين كاد له اليهود إما أن
(1) سورة النساء الآية 159
(2)
سورة آل عمران الآية 7
(3)
سورة آل عمران الآية 8
يعترف بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان عملا بما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك وإما أن ينكر نزوله، فإن اعترف به لزمه أن يثبت لعيسى موتا آخر بعد النزول ثم حياة عند البعث وهذا مخالف بلا دليل لقوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) ولقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (2) وإن أنكر نزوله بعد رفعه كان ردا للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب. . الخ ما ثبت من أحواله بعد نزوله، وكلا الأمرين لا مخلص منه إلا بالقول بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى من كيد اليهود ورفعه إليه بدنا وروحا، وإنزاله آخر الزمان حكما عدلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو
…
عضو
…
نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع
…
عبد الله بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
(1) سورة البقرة الآية 28
(2)
سورة غافر الآية 11
صفحة فارغة
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ما يشرع في التوسل بالنبي ومالا يشرع
س:. ما حكم التوسل بسيد الأنبياء، وهل هناك أدلة على تحريمه؟.
جـ: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره وترك نواهيه والإخلاص لله في العبادة فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل من. . وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة، أما التوسل بدعائه والاستغاثة به وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى- فهذا هو الشرك الأكبر، وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام. وهناك نوع ثالث يسمى التوسل وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بحقه أو بذاته مثل أن يقول الإنسان: أسألك يا الله بنبيك أو جاه نبيك أو حق نبيك أو جاه الأنبياء أو حق الأنبياء أو جاه الأولياء والصالحين وأمثال ذلك فهذا بدعة ومن وسائل الشرك ولا يجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم ولا مع غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر، وأما توسل الأعمى به في حياته صلى الله عليه وسلم فهو توسل به صلى الله عليه وسلم ليدعو له