الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1)» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي بينت الوجوه والمبررات التي تبيح للإنسان أن يأخذ من مال أخيه المسلم، فهل من تلك الوجوه كفالته ببدنه أو ضمانه بمال.
هذا هو ما يراد بحثه في الفقرة التالية إن شاء الله.
(1) صحيح البخاري الإيمان (25)، صحيح مسلم الإيمان (22).
3 -
هل يجوز للكفيل أن يأخذ أجرا على الكفالة
؟
الضمان والكفالة والحمالة والقبالة والزعامة يراد بها في عرف الفقهاء: ضم ذمة إلى ذمة للتوثق في الحقوق، واشتق منها الضامن والكفيل والحميل والقبيل والزعيم، وهي من باب المعروف الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم، وما يحدث لهم في تقلبهم وشئون حياتهم، ولذا شرعها الله تعالى تحقيقا للمصلحة ودفعا للحرج والحاجة عن الناس، قال الله تعالى في قصة
يوسف وإخوته: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزعيم غارم (2)» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن سلمه بن الأكوع قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه (3)» رواه أحمد والبخاري والنسائي، ورواه غيرهم من طرق بألفاظ مختلفة.
ومنع بعض الفقهاء الكفالة بالبدن، وبعضهم الكفالة بالطلب، وليس المقصود هنا بحث حكمها نفسها، وإنما المقصود هنا الكلام عن الضمان بأجر هل يجوز أو لا، فإن كثيرا من الناس صاروا يستقدمون عمالا على كفالتهم ويأخذون منهم نسبة من دخلهم اليومي أو الشهري مثلا، أو يأخذون منهم أجرا معينا سواء كسب العامل أم لا.
فلمن يجيز ذلك أن يقول: الأصل في العقود الإباحة حتى يثبت لدينا دليل ينقل عن الأصل، واتفاق الكفيل مع أحد أطراف الكفالة على أجر مقابل كفالته نوع من العقود فكان جائزا حتى يثبت دليل المنع.
ويناقش بأن الكفالة من أنواع المعروف التي من شأنها أن تبذل تبرعا بلا مقابل، فكان أخذ الأجر عليها ممنوعا، لمنافاته للكرامة، ولمقصد الشرع في بذل المعروف.
وأجيب بأن كثيرا من أنواع المعروف والتعاون على الخير وتحصيل المنافع كالخياطة والنجارة والحدادة ونحوها من الحرف والصناعات يجوز أخذ الأجر عليها من غير نزاع، بل يجوز أن يأخذ المسلم مالا ليحج عن ميت أو حي عاجز عن مباشرة الحج بنفسه، فيجوز أن يأخذ الكفيل أجرا
(1) سورة يوسف الآية 72
(2)
سنن الترمذي البيوع (1265)، سنن أبو داود البيوع (3565)، سنن ابن ماجه الأحكام (2405).
(3)
صحيح البخاري الحوالات (2291)، سنن النسائي الجنائز (1961)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 50).
على كفالته إذ لا فرق، قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن مفلح رحمه الله (1): ونص أحمد رضي الله عنه على أنه لو قال اقترض لي مائة ولك عشر أنه يصح، قال أصحابنا: لأنه جعالة على فعل مباح، وقالوا: يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما أو كافرا، وقاسوه على أجرة الدليل.
ونوقش بوجود الفارق، إذ الضمان أو الكفالة معروف محض غير متمول، فلا يقابل بعوض بخلاف ما ذكر من الصناعات ونحوها، فإنها أعمال متمولة فجاز أن تقابل بعوض.
وأجيب بأن بعض الأعمال معروف محض: كالقضاء، والفتيا، والشهادة ونحو ذلك، وقد جوز بعض العلماء أخذ الأجرة عليها في بعض حالاتها.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: (2).
(فصل) ويجوز للقاضي أخذ الرزق، ورخص فيه شريح، وابن سيرين، والشافعي وأكثر أهل العلم، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا، ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم.
وبعث إلي الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود، ورزقهما كل يوم شاة، نصفها لعمار، ونصفها لابن مسعود وعثمان، وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم، وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله.
وقال أبو الخطاب: يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة، فأما مع عدمها فعلى
(1) صـ 339 من جـ.
(2)
صـ 376 - 377 - 378 جـ 11
وجهين، وقال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا، وإن كان فبقدر شغله مثل والي اليتيم.
وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء، وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليها أجرا، وقالا: لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين، وقال أصحاب الشافعي: إن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه، وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة.
والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال، لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين، ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود، وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة، ولأن بالناس حاجة إليه، ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق.
فأما الاستئجار عليه فلا يجوز، قال عمر رضي الله عنه: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرا، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لأنه قربة، يختص فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة، ولأنه لا يعلمه الإنسان عن غيره، وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة، ولأنه عمل غير معلوم، فإن لم يكن للقاضي رزق، فقال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه جاز، ويحتمل أن لا يجوز، أهـ.
وفي الشرح الكبير على المقنع مثله.
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف: (1).
وقوله: (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها).
وهو المذهب مطلقا، قال في الفروع: (ويحرم في الأصح أخذ أجرة وجعل، وجزم به في الوجيز، ومنتخب الآدمي، والهداية، والمذهب، والخلاصة.
وقدمه في المحرر، والنظم، والرعايتين، والحاوي.
(1) صـ6 - 7 من جـ 12 من الإنصاف.
وقيل: لا يجوز أخذ الأجرة إن تعينت عليه إذا كان غير محتاج.
وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله وجها بجواز الأخذ لحاجة تعينت أولا، واختاره، وقيل: يجوز الأخذ مع التحمل، وقيل: أجرته من بيت المال.
وقوله: (ولا يجوز ذلك لمن تتعين عليه في أصح الوجهين) وكذا قال في الهداية، والمذهب، وصححه في الفروع كما تقدم، وجزم به في الوجيز، ومنتخب الأدمي، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم.
والوجه الثاني: يجوز، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله يجوز لحاجة، كما تقدم عنه، وقيل: لا يجوز الأخذ مع التحمل.
تنبيه: حيث قلنا بعدم الأخذ، فلو عجز عن المشي أو تأذى به، فأجرة الركوب على رب الشهادة، قال في الترغيب وغيره: واقتصر عليه في الفروع.
قال في الرعاية: وأجرة المركوب والنفقة على ربها.
ثم قال: قلت: هذا إن تعذر حضور المشهود عليه إلى محل الشاهد، لمرض أو كبر، أو حبس أو جاه، أو خفر.
وقال أيضا: وكذا حكم مزك، ومعرف، ومترجم، ومفت، ومقيم حد وقود، وحافظ مال بيت المال، ومحتسب، والخليفة.
وقد اقتصر عليه في الفروع، أهـ (1).
قال الشافعي رحمه الله تحت عنوان " شهادة من يأخذ الجعل على الخير ": (2) ولو أن القاضي، والقاسم، والكاتب للقاضي، وصاحب الديون، وصاحب بيت المال، والمؤذنين لم يأخذوا جعلا وعملوا محتسبين كان أحب إلى أن يترك الجعل من المؤذنين.
قال: ولا بأس أن يأخذ الرجل الجعل عن
(1) ومثله في كشاف القناع صـ 400 جـ6
(2)
صـ 213 من جـ6 من الأم.
الرجل في الحج إذا كان قد حج عن نفسه، ولا بأس أن يأخذ الجعل على أن يكيل للناس ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو وما يتأدبون به من الشعر مما ليس فيه مكروه، قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: لا تأخذ في الأذان أجرة ولكن خذه على أنه من الفيء.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: (فصل) ومن له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة، لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا، وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه، حل له أخذه، والنفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض كفاية، فإذا أخذ الرزق يجمع بين الأمرين، وإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل ألا يجوز؛ لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه، وهل يجوز لغيره على وجهين، أهـ (1).
ولن يمنع ذلك أن يقول: إن الكفالة أو الضمان معروف محض غير متمول، يعتمد على الملاءة أو مجرد المنزلة والجاه، فلا يقابل بعوض بخلاف ما ذكر من الحرف، والصناعات، والقضاء، والفتيا ونحو ذلك، فإنها وإن كانت معروفا يستعين به الناس في شئون حياتهم، لكنه ليس معروفا محضا، بل هو أعمال متمولة، فجاز أن تقابل بعوض.
وأقرب ما يكون إلى الضمان والكفالة: الشفاعة، وبذل الجاه لتحقيق مصلحة لأحد، أو دفع مضرة عنه، ولا يجوز أخذ أجرة على الشفاعة وبذل الجاه لنفع الناس.
(1) صـ 19 من جـ 12 الشرح الكبير مثله
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن مفلح في كتابه، الآداب الشرعية:(1).
جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة، أو في لفظ: ونحن نرى كتب الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشأ يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي
…
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع
…
فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
قال القاضي المعافي بن زكريا: ولله در القائل:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة
…
من جاهه فكأنها من ماله
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن ماجه من حديث موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، عن جهمان عن أبي هريرة مرفوعا:«لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم (2)»
وقال بعضهم:
وإذا السعادة أحرستك عيونها
…
نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل
…
واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة، قال:«اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء (3)» رواه البخاري ومسلم، وفي لفظة "تؤجروا " ورواه أحمد، ولأبي داود «اشفعوا إلي لتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء (4)» وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا (5)» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا (6)» رواه
(1) صـ 185 من جـ 2 من الآداب الشرعية.
(2)
سنن ابن ماجه الصيام (1745).
(3)
صحيح البخاري التوحيد (7476)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627)، سنن أبو داود الأدب (5131).
(4)
صحيح البخاري الأدب (6027)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627)، سنن الترمذي العلم (2672)، سنن النسائي الزكاة (2556)، سنن أبو داود الأدب (5131)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 400).
(5)
سنن النسائي الزكاة (2557)، سنن أبو داود الأدب (5132).
(6)
صحيح البخاري الزكاة (1432)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627)، سنن أبو داود الأدب (5131)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 400).
النسائي عن سعيد بن سعيد الأيلي (1) عن سفيان عن عمر عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن معاوية - إسناد جيد، أهـ.
وقال أيضا: فصل في قبول الهدية إذا لم تكن على عمل البر:
قال أبو الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يسأله الرجل الحاجة فيسعى معه فيها فيكافيه على ذلك بلطفه، يهدي له، ترى له أن يقبلها؟ قال: إن كان شيئا من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك، فهذا النص إنما فيه الكراهة لمن طلب البر والثواب، وظاهره يجوز لغيره، ونظيره قول أصحابنا في المعلم: إن أعطى شيئا بلا شرط جاز، وأنه ظاهر كلام أحمد، وكرهه بعض العلماء لحديث القوسي.
قال في المغني: يحتمل أنه قصد القربة فكره له أو غير ذلك، وقال صالح: ولد لي مولود فأهدى إلي صديق لي شيئا، فمكثت على ذلك أشهرا، وأراد الخروج إلى البصرة، فقال لي: كلم لي أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة، فكلمته، فقال: لولا أنه أهدى إليك كتبت له لست أكتب له، وقال صالح: قلت لأبي: رجل أودع رجلا وديعة فسلمها إلى الذي أودعه فأهدى إليه شيئا يقبله أم لا، فقال أبي: إذا علم أنه إنما أهدى إليه لأداء أمانته فلا يقبل الهدية إلا أن يكافئ بمثلها، وهذا موافق لرواية أبي الحارث السابقة.
وقال يعقوب: قال أبو عبد الله: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية، وظاهر هذه الرواية التحريم مطلقا أو الكراهة، واختار التحريم الشيخ تقي الدين بن تيمية في كل شفاعة فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، وفي شفاعة عند ولي أمر ليوليه ولاية، أو يستخدمه في المقاتلة وهو مستحق لذلك، أو ليعطيه من الموقوف على الفقراء أو القراء والفقهاء
(1) كذا- وفي تقريب التهذيب: التغلبي بدل الأيلي.
أو غيرهم من أهل الاستحقاق ونحو ذلك، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، وقد رخص بعض الفقهاء المتأخرين في ذلك وجعل هذا من باب الحمالة يعني من الشافعية، وهذا مع مخالفته للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهو غلط؛ لأن مثل هذا من المصالح العامة التي القيام بها فرض عين أو كفاية، فيلزم من أخذ الجعل فيه ترك الأحق، والمنفعة ليست للباذل بل للناس، وطلب الولاية منهي عنه، فكيف بالعوض؟ فهذا من باب الفساد، انتهى كلامه.
وهذا المعنى الذي احتج به خاص، ويتوجه لأجله قول ثالث وهو معنى كلام ابن الجوزي الآتي، وأما الخبر الذي احتج به فقال أبو داود في سننه (باب الهدية للحاجة) ثم روى عن أبي أمامه مرفوعا:«من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (1)»
من رواية القاسم بن عبد الرحمن، وقد وثقه ابن معين، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، والنسوي، والترمذي، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال الجوزجاني: كان خيرا فاضلا، وتكلم فيه أحمد، وابن حبان، وقال ابن (2) خراش: ضعيف جدا، وقال ابن الجوزي: ضعيف بمرة واحدة، ورواه أحمد من رواية ابن لهيعة، وضعفه مشهور.
وفي صحته نظر، وكيف يكون هذا بابا عظيما من الربا ثم يحمل على شفاعة متعينة لا سيما في ولاية أو على قصد القربة، ولهذا رتب الهدية على الشفاعة، ورأيت تعليقا على خلاف القاضي على النسخة العتيقة لابن تيمية وعليها خط جماعة من أصحابنا، منهم الحسن بن أحمد بن البنا نسخة سنة سبع وعشرين وأربعمائة، رأيت على المجلدة الأخيرة: لا يجوز أخذ العوض في مقابلة الدفع عن المظلوم.
ثم ذكر رواية أبي الحارث السابقة، وقال: فإذا كره ذلك فيما لا يجب عليه فعله فأولى
(1) سنن أبو داود البيوع (3541)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 261).
(2)
في المصرية: جراش بالجيم.
أن يكره فيما يجب عليه من دفع المظالم، ثم ذكر أن ابن بطه وصاحبه أبا حفص رويا خبر أبي أمامه ونحو ذلك.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وبإسناده عن زاذان أنه سمع عمر يقول لمسروق بن الأجدع -: «إياك والهدية في سبب الشفاعة فإن ذلك من السحت» ثم ذكر رواية يعقوب السابقة، ثم قال: وذكر أبو حفص في كتاب الهبات (باب كراهة الهدية على تعليم القرآن) قال الأثرم لأبي عبد الله: الرجل يعطي عند المفصل؟ قال: لا يعجبني، انتهى كلامه.
وتكلم أبو مسعود لرجل في حاجة فأهدى له هدية فأمر بإخراجها، وقال: آخذ أجر شفاعتي في الدنيا.
رواه صالح عن أبيه عن إسماعيل عن ابن عوف عن محمد عنه.
وعن عبد الله بن جعفر في هذه المسألة أنه ردها، وقال: إنا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا.
رواه صالح عن أبيه عن علي بن عاصم، وقد ضعفه جماعة عن خالد الحذاء، وهشام بن حسان عن محمد عنه.
وقد كان إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج -صاحب التصانيف الحسان ومن أهل الفضل والعلم مع حسن الاعتقاد- أدب القاسم بن عبيد الله، فلما تولى القاسم الوزارة كان وظيفة أبي إسحاق عنده أنه يعرض عليه القصص، ويقضي عنده الأشغال، ويشارط على ذلك، ويأخذ ما أمكنه، وقصته مشهورة.
وقال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم بعد أن ترجم أبا إسحاق بهذه الترجمة، ذكر قصته، قال: رأيت كثيرا من أصحاب الحديث والعلم يقرءون هذه الحكاية ويتعجبون مستحسنين لهذا الفعل غافلين عما تحته من القبيح، وذلك لأنه يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، فإقامة من يأخذ الأجعال على هذا القبيح حرام، وهذا مما يهي به
الزجاج وهيا عظيما ولا يرتفع، لأنه إن كان لا يعلم ما في باطن ما قد حكاه عن نفسه فهذا جهل بمعرفة الشرع، وإن كان يعرف فحكايته في غاية القبح، فنعوذ بالله من قلة الفقه، انتهي كلامه.
ولنا خلاف مشهور في أخذ الأجرة والجعالة على تحمل الشهادة وأدائها والتفرقة، فغاية الشفاعة كذلك.
ونص أحمد رضي الله عنه " على أنه لو قال: اقترض لي مائة ولك عشرة أنه يصح، قال أصحابنا: لأنه جعالة على فعل مباح، وقال: يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما كان أو كافرا، وقاسوه على أجرة الدليل ".
وأما ما يروى عن ابن مسعود وسئل عن السحت، فقال: أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها، فقيل له: أرأيت إن كان هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1).
ففي صحته نظر والمعروف عنه، وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل، ثم يجاب عنه بما سبق، والله سبحانه أعلم، أهـ.
وأيضا قد يكون فيه ربا، وذلك فيما إذا غرم الكفيل مالا عن مكفوله، ثم استوفى عنه ما غرمه، فإن ما أخذه من الأجر يكون زيادة، وهذه الزيادة ربا.
وممن ذكر المنع من الحنفية أبو محمد البغدادي في مجمع الضمانات.
قال رحمه الله (2): ولو كفل بمال على أن يجعل الطالب له جعلا، فإن لم يكن مشروطا في الكفالة؛ فالشرط باطل، وإن كان مشروطا في الكفالة، فالكفالة باطلة، أهـ.
وممن قال بالمنع أيضا المالكية:
قال الشيخ أحمد الدردير رحمه الله في شرحه الكبير لمختصر خليل (3):
(1) سورة المائدة الآية 44
(2)
صـ 383 من مجمع الضمانات.
(3)
صـ 306 - 307 من جـ 3.
ثم شرع يتكلم على ما يحرض للضمان من المبطلات، فقال:(وبطل) الضمان (إن فسد متحمل به) أصالة كدراهم بدنانير أو عكسه لأجل أو عروضا، كما لو باع ذمي سلعة لذمي بخمر أو خنزير وضمنه لذمي فأسلم الضامن فلا يلزم الضامن حينئذ شيء، وظاهره ولو فات المبيع الفاسد ولزم فيه القيمة (أو فسدت) الحمالة شرعا بأن حرمت بطل الضمان.
بمعنى أنه لا يعتد به، فأراد بفسادها الفساد الشرعي، وهو عدم موافقة الشرع لعدم استيفاء الشروط، أو لحصول المانع وبالبطلان الفساد الغوي، أي عدم الاعتداد به فاندفع ما قيل يلزمه اتحاد المعلق والمعلق عليه فتدبر، ومثله بقوله (كيجعل من غير ربه) أي رب الدين (لمدينه) بأن كان من رب الدين أو من المدين أو من غيرهما للضمان، لأنه إذا غرم رجع بمثل ما غرم مع زيادة ما أخذه، إما بجعل من رب الدين لمدينه على أن يأتيه بضامن، فجائز كما لو أسقط عنه بعض الحق على أن يأتيه بضامن، لكن شرط الجواز حلول الدين وإلا امتنع، بخلاف ما لو وقع من أجنبي للمدين على أن يأتي بضامن فجائز مطلقا وبالغ على بطلان الضمان بجعل بقوله (وأن ضمان مضمونه) أي وإن كان الجعل الواصل للضامن ضمان مضمون للضامن، وذلك كأن يتداين رجلان دينا من رجل أو رجلين ويضمن كل منهما صاحبه فيما عليه لرب الدين فيمنع إذا دخلا على ذلك بالشرط لا على سبيل الاتفاق إذ لا جعل، واستثنى من المنع قوله (إلا في اشتراء شيء) معين (بينهما) شركة ويضمن كل منهما الآخر في قدر ما ضمنه فيه فإنه جائز، (أو) في (بيعه)، أي بيع شيء معين بينهما كما لو أسلمهما شخص في شيء وتضامنا فيه (كقرضهما) أي اقتراضهما نقدا أو عرضا بينهما على أن كل واحد منهما ضامن لصاحبه فيجوز (على الأصح) لعمل السلف بشرط أن يضمن كل صاحبه في قدر ما ضمنه الآخر فيه وإلا منع.