الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين القديم والمحدث في مسمى الوجود حيث جعلوا الوجود الذي في الذهن هو عين الوجود الذي في الخارج فكما أن الوجود في الذهن مطلق عن القيود فكذلك هو في الخارج ومسمى الوجود في الذهن يجتمع فيه الخالق والمخلوق فكذلك يكون الأمر في مسمى الوجود في الواقع والحقيقة الخارجية عن الذهن (1).
قال ابن القيم رحمه الله: (والفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه أن تذهب المحدثات في شهود العبد وتغيب في أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا فلا يبقى له صورة ولا رسم ثم يغيب شهوده أيضا فلا يبقى له شهود ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات وحقيقته أن يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل)(2) وبمقارنة هذا الكلام بما حكاه نفسه عن الاتحادية يظهر صحة ما ذكرناه آنفا فيقول ابن القيم رحمه الله (والاتحادي يقول ما ثم غير يوحده بل هو الموحد لنفسه بنفسه إذ ليس ثم سوي في الحقيقة)(3).
(1) انظر مدارج السالكين (1/ 147، 148).
(2)
انظر المرجع السابق (1/ 149).
(3)
انظر مدارج السالكين (1/ 147، 148).
مصادر التلقي عند الصوفية:
لا تختلف
مصادر التلقي عند شيوخ التصوف
عما كان عليه السلف الصالح وهي كتاب الله والسنة فقد قال أحمد بن الحواري منهم: (من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله) وقال أبو حفص النيسابوري: (من لم يزن أفعاله وأقواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال) وقال الجنيد بن محمد: (الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من
اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أيضا: (من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) وقال أبو عثمان النيسابوري: (من أمر السنة من نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال أبو حمزة البغدادي: (من علم الطريق إلى الله سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله).
وقال أبو الحسن النوري: (من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقتربن منه) وقال: (أعز الأشياء في زماننا شيئان: عالم يعمل بعلمه وعارف ينطق عن الحقيقة) وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: (كل حال لا يكون عنه نتيجة علم فإن ضرره أكثر على صاحبه من نفعه وسئل عن التصوف فقال: (الصبر تحت الأمر والنهي).
وقد فسر معنى العلم عندهم بأنه الشرع المتمثل في نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف (2) هذا وقد حاول بعض الباحثين أن يشكك فيما تقدمت حكايته عن أئمة أهل التصوف بدعوى أن ذلك يقولونه أمام الناس وأما حقيقة ما يعتقدونه فخلاف ذلك (3).
(1) سورة النور الآية 54
(2)
انظر الاستقامة (1/ 96، 99).
(3)
انظر الاستقامة (1/ 96، 99).
وقد رد ابن تيمية رحمه الله هذه المقالة بأمور:.
أولا أن ما تقدم نقله عنهم بالأسانيد الصحيحة مما لا يدع شكا في أنه هو اعتقادهم ومسارهم الذي سلكوه والتزموه.
ثانيا: أن ما نقل عنهم خلاف ذلك لم ينقل عنهم بالأسانيد الصحيحة وبالتالي فلا يعتمد عليه من جهة النقل.
ثالثا: أن القلوب علمها عند الله ولنا ظواهر الخلق وأحكام الدنيا مبنية على ذلك.
رابعا: أن بعض النصوص المنقولة عنهم ليست ظاهرة في الباطل بل الظاهر فيها الحق لا سيما إذا قورنت بما ثبت عنهم من نقول صحيحة.
خامسا: أن خطأ المتأخرين منهم لا يلزم منه كون المتقدمين منهم مشاركين لهم في هذا الخطأ.
ونحن عندما نذكر ذلك لا ندافع عن الصوفية ولا عن التصوف لكنه إقرار لما يقتضيه البحث العلمي من الأمانة في النقل والعدالة في الحكم.
هذا وأما متأخرو الصوفية الذين خالفوا سبيل سلفهم المتبع للكتاب والسنة فأرجعوا طرق التلقي والمعرفة إلى ستة أمور:
الأول منها: هو الكشف ومعناه عندهم (هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا).
وعرفه صاحب المنازل فقال: (المكاشفة مهاداة الشر بين متباطنين)(1)
(1) مدارج السالكين (3/ 221) صاحب المنازل هو أبو إسماعيل الهروي.
وشرحه ابن القيم بقوله: (إطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن أمره وسره)(1).
وقال ابن تيمية (هو ما يلقي في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب)(2).
وعلى هذا فهو حالة تعتري القلب حال خلوة من حظوظ النفس ومشتهيات الطبع الإنساني من أحوال تقوي بصيرة القلب بحيث يبصر من الأمور والأحوال الغائبة عن الحس والعقل ما لا يبصره غيره ولا يعرفه من العلوم والأحوال.
ومن الأمر المعلوم بضرورة العقل والشرع أن ما يحصل في القلب من أمور لغير النبي والرسول الموحى إليه لا تخلو من حالين:
الحال الأول: أن يدل الدليل الشرعي على صحة الأمور التي تعلم عن طريق الفراسة الإيمانية كما قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله (3)» رواه الترمذي عن أنس بن مالك وهو حديث حسن.
أو عن طريق الكرامة الربانية كاطلاع عمر رضي الله عنه على حال سارية في المعركة مع الروم وكعلم أبي بكر ما في بطن امرأته لكن هذه الأشياء لا تستمر بل يحدث خلافها إذا ما خالطت الغفلة قلب العبد كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4).
الحالة الثانية: أن لا يدل الدليل الشرعي على صحتها وفي هذه الحالة يجب عرضها على الشرع لأن الخواطر التي تحصل للإنسان قد تكون
(1) مدارج السالكين (3/ 221) صاحب المنازل هو أبو إسماعيل الهروي.
(2)
انظر بيان تلبس الجهمية (1/ 263).
(3)
سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3127).
(4)
سورة المطففين الآية 14
وساوس شيطانية كما قال سبحانه: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} (1){الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (2){مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (3) عندما أمرنا أن نتعوذ به من وسوسة الشيطان (4).
هذا والمتصوفة ترى أن الكشف حالة مستمرة بشيوخهم وأن أولئك الشيوخ دون سائر المؤمنين قد اختصوا بها وظنوا أن الكشف لا يكون إلا من الله خاصة وأنه لا يكون بعضه من الشيطان ولم يفرقوا بين الكشف الرحماني والكشف الشيطاني مما فتح الباب أمام الشيطان ليتلاعب بهم وبعقولهم مع أن هذا النوع من الكشف المدعى كما يكون للمؤمن يكون لسواه من الفساق والكفار والمشركين من الكهان والمنجمين والرمالين الذي كان سببا في انتشار أنواع من الخرافات والشعوذات في محيط الصوفية والتصوف.
وقد ذكر ابن تيمية عدة وجوه تدل على بطلان هذا النوع من الكشف وعدم إمكان الاعتماد عليه في تحصيل المطالب الشرعية وهي: (5) أولا: أن الرسل لم تأت به وإنما جاءت بالرد للكتاب والسنة وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (6).
ثانيا: أن مجرد ترك الشهوات لا يكفي في تحصيل الحال الإيماني بل لا بد أن تنضم إليه أنواع من العبادات الظاهرة والباطنة حتى تكتمل بصيرته.
(1) سورة الناس الآية 4
(2)
سورة الناس الآية 5
(3)
سورة الناس الآية 6
(4)
انظر مدارج السالكين (3/ 222، 223، 226، 228) شرح العقيدة الأصفهانية (12).
(5)
انظر الفتاوى (2/ 65، 69، 74).
(6)
سورة النساء الآية 59
ثالثا: اتفاق شيوخ الصوفية وأئمتهم على وجوب تعلم العلم الشرعي وأن طريقتهم لا تستقيم إلا باتباع الكتاب والسنة مما تقدم بيان شيء منه.
رابعا: أن الاعتماد في تحصيل المطالب الإلهية عليه غير مأمون لما تقدم من إمكان أن يكون الحاصل في القلب من وساوس الشيطان.
خامسا: أن الكشف لا يمكن أن يكون طريقا للمطالب الإلهية لأن إيصاله للمطلوب غير متيقن والدليل لا بد أن يستلزم المدلول وهو لا يستلزم المطلوب فقد يوصل إليه وقد يوصل إلى ضده.
سادسا: عدم معرفة إيصاله إلى الحق إلا إذا وصل إليه فهو ليس بمأمون ولا متعين للوصول إلى الحق.
سابعا: أن الكشف لا يوصل إلا إلى معرفة إجمالية أما التفصيلية فهذا ما لا يمكنه أن يوصل إليه وإذا ظهر لنا عدم إمكان الاعتماد على الكشف كطريق للمعرفة الصحيحة المدلول عليها بالكتاب والسنة وأن خطأ الكشف يعرف بمخالفة الكتاب والسنة أو مخالفة العقل الصحيح المهتدي بهما أو مخالفته للحس الظاهر والباطن (1).
علمنا بأن أكثر ما يدعيه هؤلاء الصوفية من المكاشفات ما هي إلا أحوال شيطانية أو تخيلات وهمية تحصل لبعض الناس إذا غاب عن وعيه وحسه بسبب قوة الواردات وضعف النفس مما يفقد صوابه فيرى ويشاهد بخياله ما لو كان في حال اعتداله وحسه لم يره ولم يشاهده الأمر الذي أدى ببعضهم إلى الحلول والاتحاد لاعتقاده أن ما شاهده هو ربه أو من حدثه هو كذلك (2).
(1) انظر الجواب الكافي (2/ 134، 135، 136).
(2)
انظر الجواب الكافي (2/ 134، 135، 136).