المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: الجهة المختصة في النظر في دعوى الوقف: - مدونة أحكام الوقف الفقهية - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل التاسع إجارة الوقف

- ‌المبحث الأول تعريفات ومصطلحات

- ‌أولًا: الحكر أو الاستحكار:

- ‌ثانيًا: الإجارة الطويلة:

- ‌ثالثًا: عقد الإجارتين:

- ‌رابعًا: الكَدِك:

- ‌خامسًا: الكردار:

- ‌سادسًا: مشد المسكة:

- ‌سابعًا: المرصد:

- ‌ثامنًا: الخلو:

- ‌المبحث الثاني من يملك حق تأجير الوقف

- ‌أولًا: ولاية تأجير الوقف:

- ‌ثانيًا: ولاية القاضي في تأجير الوقف:

- ‌ثالثا: عزل القاضي للناظر:

- ‌رابعًا: تأجير الموقوف عليه للوقف:

- ‌أ) إذا أجر الموقوف عليه ما لم يصح له إجارته:

- ‌ب) إذا لم يكن هناك نص من الواقف:

- ‌ج) في حالة ما إذا كان هناك شرط من الواقف بعدم تأجير الناظر للوقف أو جزء منه:

- ‌المبحث الثالث الطرف المستأجر في عقد إجارة الوقف

- ‌المبحث الرابع المدة في إجارة الوقف

- ‌المسألة الأولى: إذا تم تقييد إجارة الوقف بمدة زمنية

- ‌المسألة الثانية: إذا لم يحدد الواقف مدة معينة لتأجير الوقف إهمالًا

- ‌أولًا: المذهب الحنفي:

- ‌ثانيًا: المذهب المالكي:

- ‌ثالثًا: المذهب الشافعي:

- ‌رابعًا: المذهب الحنبلي:

- ‌خامسًا: المذهب الزيدي:

- ‌سادسًا: المذهب الإمامي:

- ‌سابعًا: المذهب الإباضي:

- ‌المسألة الثالثة: الإجارة الطويلة

- ‌أولًا: المذهب الحنفي:

- ‌ثانيًا: المذهب المالكي:

- ‌ثالثًا: المذهب الشافعي:

- ‌رابعًا: المذهب الحنبلي:

- ‌خامسًا: المذهب الزيدي:

- ‌سادسًا: المذهب الإمامي:

- ‌سابعًا: المذهب الإباضي:

- ‌المسألة الرابعة: الإجارة بأجرتين

- ‌المسألة الخامسة: الإجارة المنتهية بالتمليك

- ‌المبحث الخامس أجرة الوقف

- ‌أولًا: حكم إجارة الوقف بأقل من أجرة المثل (الغبن الفاحش):

- ‌ثانيًا: مسألة تغيير الأسعار بعد إبرام عقد الإجارة:

- ‌أ) إذا كان التغيير بنقصان الأجرة:

- ‌ب) إذا كان التغيير بزيادة الأجرة:

- ‌المبحث السادس انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌المسألة الأولى: أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌السبب الأول: السبب الطبيعي:

- ‌السبب الثاني: السبب التعاقدي:

- ‌المسألة الثانية: الأثر المترتب على انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌1 - مذهب الحنفية:

- ‌2).2 -مذهب المالكية:

- ‌3 - مذهب بعض الشافعية:

- ‌4 - مذهب الحنابلة:

- ‌5 - مذهب الظاهرية:

- ‌6 - مذهب الزيدية:

- ‌7 - مذهب الإمامية:

- ‌8 - مذهب الإباضية:

- ‌مصادر ومراجع الفصل التاسع

- ‌الفصل العاشر الإبدال والاستبدال في الأوقاف

- ‌تمهيد:

- ‌أولا: تعريف الإبدال والاستبدال في اللغة:

- ‌ثانيا: تعريف الإبدال والاستبدال في الوقف عند الفقهاء:

- ‌المبحث الأول الاستبدال وصوره المشروعة

- ‌الصورة الأولى: اشتراط الواقف الاستبدال:

- ‌الصورة الثانية: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف ينتفع به:

- ‌الصورة الثالثة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف منقول معطل النفع

- ‌الصورة الرابعة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف معطل النفع وهو عقار غير مسجد

- ‌الصورة الخامسة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال والموقوف مسجد معطل النفع:

- ‌الصورة السادسة: في اشتراط الواقف عدم الاستبدال:

- ‌المبحث الثاني أحوال جواز الإبدال والاستبدال

- ‌المبحث الثالث استثمار أموال البدل

- ‌أولًا: تعريف استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌ثانيًا: أنواع الموقوف بالنسبة للاستثمار:

- ‌ثالثًا: وسائل استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌الوسيلة الأولى: الإجارة:

- ‌1 - مدة إجارة الوقف:

- ‌2).2 -أجرة المثل في إجارة الوقف:

- ‌3 - الزيادة على أجر المثل:

- ‌الوسيلة الثانية: المزارعة والمساقاة:

- ‌الوسيلة الثالثة: الاستصناع:

- ‌الوسيلة الرابعة: صكوك المقارضة:

- ‌الوسيلة الخامسة: المشاركة المنتهية بالتمليك (المشاركة المتناقصة):

- ‌رابعًا: ضوابط استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌المبحث الرابع شروط الإبدال والاستبدال

- ‌المبحث الخامس الجهة المخولة بالتصرف في الوقف بالاستبدال

- ‌أولًا: مذهب الحنفية:

- ‌ثانيًا: مذهب الحنابلة:

- ‌مصادر ومراجع الفصل العاشر

- ‌الفصل الحادى عشر توثيق الوقف

- ‌المبحث الأول تعريف توثيق الوقف ومشروعيته

- ‌أولًا: تعريف توثيق الوقف:

- ‌ثانيًا: مشروعية توثيق الوقف:

- ‌ثالثًا: فوائد توثيق الوقف:

- ‌رابعًا: حكم توثيق الوقف

- ‌المبحث الثاني ثبوت الوقف

- ‌أولا: ثبوت الوقف بالحجة الوقفية (الصك الوقفي)

- ‌أ) تعريف الحجة الوقفية:

- ‌ب) حكم الاعتماد على الحجج الوقفية:

- ‌ج) حكم العمل بالحجة الوقفية بخط القاضي الذي ينظر النزاع:

- ‌د) ثبوت الحجة الوقفية التي هي في أيدي القضاة ولها رسوم في دواوينهم:

- ‌ثانيًا: ثبوت الوقف بشهادة الشهود:

- ‌أ) تعريف الشهادة:

- ‌ب) حكم توثيق الوقف بالشهادة:

- ‌ج) صور الشهادة على الوقف:

- ‌1 - الشهادة على الوقف لغير المعين:

- ‌2 - الشهادة على الوقف للمعين:

- ‌ثالثًا: ثبوت الوقف بالتسامع:

- ‌أ) تعريف التسامع لغة وفقها:

- ‌ب) مشروعية الإثبات بشهادة التسامع:

- ‌ج) إثبات الوقف بالتسامع:

- ‌رابعا: ثبوت الوقف بوضع اليد:

- ‌أ) تعريف وضع اليد:

- ‌ب) مشروعية العمل بوضع اليد:

- ‌ج) حالات وضع اليد:

- ‌خامًسا: ثبوت الوقف بالكتب العرفية:

- ‌أ) حكم ثبوت الوقف بالكتب العرفية:

- ‌ب) حكم ثبوت الوقف بالكتابة على أبواب المدارس والربط والحيوان ونحوها:

- ‌سادسًا: ثبوت الوقف بالإقرار

- ‌أ) تعريف الإقرار ومشروعيته وأهميته:

- ‌ب) الإقرار بالوقف من الواقف:

- ‌الحالة الأولى: إقرار الواقف حال صحته:

- ‌الحالة الثانية: إقرار الواقف حال مرضه مرض الموت:

- ‌الحالة الثالثة: إقرار الواقف حال مرضه أنه وقف في صحته:

- ‌ج) إقرار الورثة بالوقف:

- ‌الحالة الأولى: أن يقع الإقرار من جميع الورثة:

- ‌الحالة الثانية: أن يقع الإقرار من بعض الورثة:

- ‌د) إقرار الأجنبي واضعًا يده على أرض وأقر بأنها وقف حال صحته:

- ‌الحالة الأولى: إقرار الأجنبي مطلقًا من غير تعيين الواقف:

- ‌الحالة الثانية: إقرار الأجنبي ذي اليد في إقراره بالوقف مقيدًا معينًا:

- ‌الصورة الأولى: تعيين الواقف:

- ‌الصورة الثانية: تعيين الموقوف عليه:

- ‌المبحث الثالث محتويات حجة الوقف

- ‌المبحث الرابع المتطلبات القانونية لإثبات الوقف وتوثيقه

- ‌أولًا: تنظيم التوثيق في العصر الحاضر:

- ‌ثانيًا: تسجيل الوقف في العصر الحاضر عن طريق قوانين خاصة صادرة لهذا الغرض:

- ‌ توثيق الوقف في المملكة العربية السعودية:

- ‌ توثيق الوقف في مصر:

- ‌ توثيق الوقف في سورية:

- ‌ توثيق الوقف في دولة الإمارات العربية المتحدة:

- ‌ثالثًا: تحديد الاختصاص في توثيق الوقف في القوانين المعاصرة:

- ‌رابعًا: إجراءات توثيق الوقف في القوانين المعاصرة:

- ‌خامسًا: بطلان توثيق الوقف:

- ‌مصادر ومراجع الفصل الحادي عشر

- ‌الفصل الثاني عشر المنازعات والدعاوى في الوقف

- ‌أولًا: مشروعية وخصوصية دعوى الوقف:

- ‌ثانيًا: طبيعة المنازعات الوقفية ومناشئها:

- ‌ثالثًا: الجهة المختصة في النظر في دعوى الوقف:

- ‌رابعًا: الخصم في دعوى الوقف:

- ‌الحالة الأولى: موطن الدعوى حالة التمييز بين المدعي والمدعى عليه:

- ‌الحالة الثانية: موطن الدعوى حالة عدم التمييز بين كل من المدعي والمدعى عليه:

- ‌خامسًا: التقادم في دعوى الوقف:

- ‌أ) مدة التقادم:

- ‌ب) وقف التقادم وانقطاعه:

- ‌سادسًا: وسائل الإثبات في دعوى الوقف:

- ‌أ) الإقرار: معناه، حجيته، وأنواعه:

- ‌ب) الشهادة: معناها، حجيتها، أركانها وشروطها:

- ‌1).1 -الشهادة بالتسامع:

- ‌2 - الشهادة على الشهادة:

- ‌ج) اليمين والنكول عنها:

- ‌1 - اليمين:

- ‌2 - معنى النكول:

- ‌سابعًا: صور المنازعة في الوقف:

- ‌أ) المنازعة بين المتولي من جهة، والمستحقين والقاضي من جهة أخرى:

- ‌1 - المنازعة بين المتولي والمستحقين:

- ‌2 - المنازعة بين المتولي والقاضي:

- ‌ب) المنازعة في الاستحقاق في الوقف وتفسير شرط الواقف:

- ‌ج) المنازعة بين الموقوف عليهم من جهة، وبينهم وبين الورثة من جهة أخرى:

- ‌مصادر ومراجع الفصل الثاني عشر

- ‌الفصل الثالث عشر انتهاء الوقف

- ‌مقدمة: معنى انتهاء الوقف فقهًا

- ‌المبحث الأول حالات انتهاء الوقف

- ‌أولًا: انتهاء الوقف المؤقت بانتهاء مدته:

- ‌ثانيًا: انتهاء الوقف بالرجوع فيه:

- ‌ويلزم الوقف عندهم بأحد الأمور الآتية

- ‌ثالثًا: انتهاء الوقف بتخرب الأعيان الموقوفة:

- ‌رابعًا: انتهاء الوقف بقلة غلته:

- ‌خامسًا: انتهاء الوقف بانقراض الموقوف عليهم:

- ‌المبحث الثاني ما يترتب على انتهاء الوقف

- ‌أولًا: مصيره إلى قرابة الواقف:

- ‌ثانيًا: مصيره ملكًا للموقوف عليهم:

- ‌ثالثًا: رجوعه إلى ملك الواقف:

- ‌رابعًا: مصيره إلى الخيرات:

- ‌خامسًا: مصيره إلى بيت مال المصالح العامة:

- ‌المبحث الثالث اشتراط حكم القاضي لإنهاء الوقف

- ‌مصادر ومراجع الفصل الثالث عشر

- ‌فهرس الأعلام والألقاب والمذاهب والفرق والأماكن والبلدان

- ‌مصادر ومراجع فهرس الأعلام

- ‌العلماء والباحثون الذين أسهموا في إنجاز مدونة أحكام الوقف الفقهية (حسب الترتيب الألفبائي)

- ‌أعضاء اللجنة العلمية (الحالية) لمنتدى قضايا الوقف الفقهية (المشرفة على مدونة أحكام الوقف)

- ‌أعضاء سابقون في اللجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية

الفصل: ‌ثالثا: الجهة المختصة في النظر في دعوى الوقف:

ولأجل ذلك كله حسن أن تُفرد دعوى الوقف ببحث مستقل يستوفي كل جوانبها، ويحدد ركائزها وأركانها، ويبيّن أحكامها ويوضح تفصيلاتها

ارتكازًا إلى الأحكام العامة للدعاوي بشكل عام.

‌ثانيًا: طبيعة المنازعات الوقفية ومناشئها:

ودعوى الوقف إنما يستوجبها التخاصم والتنازع شأنها شأن غيرها من الدعاوى، إذ لا قوام لها ولا معنى من غير تنازع، لكن التنازع في الوقف متعدد المناشيء والأسباب، فبعضه يتصل بعلاقة الواقف بالناظر، وآخر بعلاقة الناظر بالموقوف عليهم سواء كانوا من الذرية أم لا، وثالث بأصل ادعاء استحقاق النظارة، ورابع بعلاقة الناظر بالقاضي، وخامس ينشأ بين الموقوف عليهم لناحية مقدار الاستحقاق وأشخاص المستحقين، وآخر بينهم وبين الورثة، وسادس ينشأ من الاختلاف حول تفسير شروط الواقف من هنا كان لدعوى الوقف كذلك خصوصيتها وتميزها عن غيرها من الدعاوي، مما استوجب أن تعالج كموضوع له استقلاله وهويته الخاصة، وأن تبحث في إطار هذه الخصوصية.

‌ثالثًا: الجهة المختصة في النظر في دعوى الوقف:

كان القاضي في الدولة الإسلامية هو المخوّل بالنظر في الخصومات والمسئول عن فض النزاعات والحكم في المظالم

وهو الذي كانت له كذلك سلطة البت في الخلافات الناشئة حول الحقوق والتصرفات، لا يميز عنده بينها بحسب طبيعتها ولا اختلاف بحسب موضوعاتها، أو تعدد أنواعها

(1)

.

ولقد نص الفقهاء على أنه يفصل في دعاوى الوقف قضاة المظالم، وهو مما يندرج تحت الوقوف الخاصة، والنظر فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم متعينين، فيعمل فيها عند التشاجر فيها على ما ثبت به الحقوق عند الحاكم، ولا يجوز أن يرجع إلى ديوان السلطنة، ولا إلى ما يثبت من ذكرها في الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدلون

(2)

.

(1)

انظر: وأصول المرافعات في القضاء الشرعي، محمد شفيق العاني، 10، والروض النضير، شرف الدين الصنعاني، مطبعة السعادة، مصر، ط 1، 1347 هـ، 3/ 438.

(2)

انظر: الأحكام السلطانية، الماوردي، ط دار الكتب العلمية، 103.

ص: 203

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بنفسه بادئ الأمر بمهمة القضاء، ويفصل في الخصومات، ويحكم في الناس بما أنزل الله عليه، فيما كانوا يختلفون فيه من قضاياهم؛ سواء منها ما يتصل بالحقوق أم بالتصرفات، وكان يوجه بعض أصحابه ويرشدهم لممارسته تحت نظره وبإشرافه، ولما اتسعت دائرة الدولة في زمنه صلى الله عليه وسلم ثم في زمن الخلفاء من بعده، وتعاظمت المشكلات وتعقدت، وأصبح الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الخلفاء أمرًا متعذرًا أو تكتنفه الكثير من الصعوبات، بات تعيين القضاة وتوزيعهم في الأمصار والأقاليم المتباعدة أمرًا ضروريًا تسهيلًا على الناس؛ ولأن ذلك يحقق المقصد من تشريع القضاء، وهو تثبيت العدل، ومنع الظلم، وإيصال الحقوق إلى أصحابها، وإزالة أسباب التنازع والخصام، فنصب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه من يتولى مثل هذه المهمة، ممن تتوفر فيهم شروط الأهلية والكفاءة، والورع والدين، وكذلك فعل الخلفاء من بعده، فنصبوا من القضاة من يثقون بورعهم وعلمهم وبمعرفتهم الواسعة بالقضايا والمشكلات التي تعرض عليهم

وبدينهم الذي يسمح لهم بالقيام بواجبهم وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة ومبادئ العدالة توثيق.

ولقد كان يتوسع عمل القضاة بتوسع أقطار الدولة الإسلامية من جهة، ويتعقد المشكلات التي تعرض أمام القضاء وتشعبها واتساعها وبتعقد أمور الحياة ومشكلاتها من جهة أخرى، فكان لا بد من تنظيم شؤون القضاء ليواكب التطور الذي كانت تتجه نحوه مرافق الدولة ومؤسساتها من جهة وليواكب الحاجات المتجددة من جهة أخرى؛ فأصبح القضاء شيئا فشيئا مؤسسة لها نظامها الذي يكفل لها سلامة عملها، وقوانينها وتشريعاتها الواضحة التي كان يمدها الاجتهاد الشرعي بما يكفل لها أن تقوم بدورها على أحسن حال وأفضل صورة توثيق.

وإن مما استوجبته التعقيدات الحادثة والنوازل تنويع الاختصاصات القضائية، الجهة أن القاضي الواحد مهما أوتي من علم بالشريعة، وإحاطة بالأحكام وخبرة بممارسة القضاء، ومهما كانت مؤهلاته ومَلكاته، ومهما اتسعت معارفه وقدراته وطاقاته، فإنه يصعب عليه، بل يتعذر، أن يكون قادرًا على الفصل في خصومات

ص: 204

تتنوع مجالاتها وتختلف ميادينها وتتشابك أسبابها ومنشؤها

وكان لزامًا والحال هذه على الدولة حينما توسعت حاجاتها، وتعقدت التزاماتها، وتعاظمت المشكلات التي تواجهها، أن تخصص لكل نوع من أنواع المنازعات التي تنشأ في الاجتماع المدني اختصاصًا قضائيًا محددًا تسنده إلى قاض بعينه، يكون من مهامه النظر فيه والتفرغ له .. فنشأت الاختصاصات القضائية، والمحاكم المختصة توثيق.

واللافت أن مثل هذا الأمر كان سابقًا في البلاد الإسلامية على شكل الدولة بمعناها الحديث، وعن استقلال نظام القضاء عن السلطة السياسية استقلالًا تامًا أو شبه تام

ولم تكن مبرراته فقط أن يتمتع القاضي بحرية النظر في الدعاوي وفق ما يقوده إليه علمه ونظره، وما يتوفر أمامه من بينات وأدلة وقرائن، من دون أن يقع تحت إكراه سلطة مرغمة، يكون منشؤه في العموم السلطة السياسية، بل كانت مبرراته في الأساس ظروف التوسع في عمل القضاء مما لم يكن يسمح لقاضٍ واحد بالنظر في جملة المشكلات والقضايا التي تواجهه، فكان الاختصاص القضائي في حقيقته تسهيلا لمهمات القضاء، وتيسيرًا على القضاة، ودفعًا باتجاه تكوين خبرات أكثر اتساعًا في ميادين محددة يكتسبها القضاة جراء تفرغهم لقضايا بعينها فيكونون بذلك أكثر قدرة على الإحاطة بما يعرض عليهم النظر فيه من القضايا والمشكلات توثيق

(1)

.

(1)

انظر للتوسع: روضة القضاة وطريق النجاة، أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد الرحبيّ المعروف بابن السِّمناني، تحقيق: د. صلاح الدين الناهي، مؤسسة الرسالة، بيروت - دار الفرقان، عمان، ط 2، 1404 هـ/ 1984 م، والأحكام السلطانية، الماوردي، ومن المراجع المعاصرة: السلطات الثلاث في الإسلام، التشريع - القضاء - التنفيذ، عبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، ط 2، 1409 هـ/ 1989 م، ونظام القضاء في الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة البشائر، عمان - الأردن، ط 2، 1409 هـ/1989 م، والقضاء في الدولة الإسلامية، تاريخه ونظمه، د سلامة محمد الهرفي البلوي، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض، 1415 هـ، والقضاء ونظامه في الكتاب والسنة، د. عبد الرحمن إبراهيم عبد العزيز الحميضي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط 1، 1409 هـ./ 1989 م.

ص: 205

ولقد كان لنشوء الدولة الحديثة وتطور بنائها وأنظمتها وقوانينها، وما رافق ذلك من إعادة صياغة للنظم بغية مواكبة تطورات شؤون الحياة وتوسع مجالاتها، أثر بارز في نظام القضاء نفسه في البلاد الإسلامية خصوصًا بعد الاحتكاك القريب والتفاعل في مجمل الميادين بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الحديثة، فمست الحاجة إلى إعادة صياغة قوانين القضاء صياغة عصرية يكفل لها الاستجابة للمستجدات وللنوازل، ويسمح لها بالنهوض بما يواجهها، وكانت أبرز محاولة في هذا السياق مجلة الأحكام العدلية الصادرة سنة 1293 هـ، والتي حاولت الدولة العثمانية تطبيقها في مجمل الأقطار التي خضعت لسلطانها، وهي بالرغم من كونها اقتبست في معظم أحكامها من الفقه الحنفي، إلا أنها كانت تطمح في صياغتها إلى مواكبة تطور القوانين الوضعية في البلدان الأوروبية سواء منها ما يتصل بطرق التقاضي، أو ما يتصل بتحديد وظائف المحاكم واختصاصاتها، أو ما يتصل بالقوانين الواجب تطبيقها في كل اختصاص قضائي

(1)

.

ولم تخرج مجلة الأحكام العدلية في موضوع الاختصاص عن أقوال الفقهاء في هذا السياق، كما لم تكن قوانينها إلا تطبيقًا لهذه الآراء التي تقضي بجواز تخصيص القضاء بنوع خاص من الدعاوى، وبجواز تخصيصه بالزمان والمكان والمذهب.

ولقد كان يفترض هؤلاء أن لولي الأمر أن يخصص قضاة متخصصين بالنظر في كل نوع من أنواع الدعاوى، كأن ينصب قاضيًا خاصًّا للنظر في دعاوى النكاح وما يتعلق به، أو بالدعاوى الجنائية، أو التجارية

إلخ.

وكان يجب إتباع ولي الأمر إذا خصص القضاة بنوع من الدعاوى، ولم يكن يجوز للقاضى مخالفته والنظر فيما لا يدخل تحت اختصاصه، لجهة أن لولي الأمر أن يحدد وظيفة القاضي، كما كان له أن ينصبه

فهو التزام بما يحفظ للدولة نظامها العام واتساق قوانينها وسلامة بنيانها، وكان على القاضي المختص أن ينظر في

(1)

انظر: أصول المرافعات في القضاء الشرعي، محمد شفيق العاني، 8.

ص: 206

الدعوى المعروضة عليه قبل الدخول في مضمونها ليرى ما إذا كانت من اختصاصه أو لا من غير أن يطلب الخصوم منه ذلك

(1)

.

وما ذهب إليه الفقهاء في خصوص هذا الموضوع جرت عليه الكثير من القوانين المدنية في البلدان الإسلامية فيما بعد كما هو الحال مثلًا في العراق بعد الاستقلال أو في القضاء المصري أو الكويتي

(2)

، والتي قسمت المحاكم إلى أقسام وجعلتها على درجات، ينظر كل قسم منها بنوع من الدعاوى، كالمحاكم النظامية، والمحاكم الشرعية، والمحاكم التجارية

إلخ.

ولقد كانت دعاوى الوقف من اختصاص المحاكم الشرعية أول الأمر وحدد اختصاصها بالتالي: تختص بالنظر في دعاوي صحة الوقف والدعاوى المتعلقة برقبة المستحقات والمستغلات يعني بالأوقاف التي جعلت غلتها ومنافعها لجهة من الجهات؛ سواء كانت من العقارات الدور والأراضي والبساتين، أو من المنقولات كالنقود والأدوات

(3)

، والتي هي الأوقاف الصحيحة والحجر على المدين والمفلس أو السفيه، ونصب الوصي أو القيم على الصغير والمجنون والمعتوه، وتحرير التركات

(4)

، والزواج والطلاق، والنفقة والحضانة.

(1)

انظر: جامع الفصولين، ابن قاضي سماوة، المطبعة الأميرية الكبرى، مصر، ط 1، 1300 هـ، 2/ 14، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ("الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير على مختصر خليل" بأعلى الصفحة، يليه مفصولًا بفاصل "حاشية الدسوقي" عليه)، محمد عرفة الدسوقي، مطبعة محمد على صبيح، 1934 م، 4/ 134، وأنفع الوسائل في تجريد المسائل (الفتاوى الطرسوسية)، نجم الدين الطرسوسي، مطبعة الشرق، مصر، 1926 هـ، 320، والتاج والإكليل لمختصر خليل، أبو عبد الله المواق، مطبوع على هامش مواهب الجليل، 5/ 11، والمهذب، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، مطبعة عيسى البابي الحلبي 1356 هـ، 2/ 308.

(2)

انظر: شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية العراقي، ضياء شيت خطاب، مطبعة العاني، بغداد، 1967 م، وقانون الوقف المصري، والقانون المدني الكويتي.

(3)

انظر: أحكام الأوقاف، حسن رضا، مطبعة الأهلية، بغداد، ط 2، 1965 م، 34 - 45.

(4)

انظر: شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية العراقي، ضياء شيت خطاب، 105.

ص: 207

لكن الكثير من القوانين المدنية في البلدان الإسلامية قلصت فيما بعد من اختصاص المحاكم الشرعية أو القضاء الشرعي فيما يتعلق بقضايا الوقف، فأبقي أول الأمر على الدعاوى المتعلقة بأصل الوقف وإدارته ضمن اختصاص المحاكم الشرعية، من قبيل النظر في التولية ورقبة الوقف وشروطه وأهلية الواقف والاستحقاق فيه وكيفية استغلال أعيانه، ومن ضمنها الدعاوى المتعلقة بتحويل المستحقات الموقوفة بالإجارة بالمقاطعة

(1)

، وهي المستغلات الوقفية التي أخرت لمدة غير معينة وبأجرة معطلة تعادل قيمة الموقوف على أن تصرف لعمارته، وبأجرة زهيدة مؤجلة يدفعها المستأجر للوقف سنويًا

(2)

.

لكنه تمّ فيما بعد استثناء النزاع حول هذه المستغلات بالإجارتين من اختصاص المحاكم الشرعية لتصبح من اختصاص المحاكم المدنية

(3)

؛ لأن النزاع فيها لا يتعلق بأصل الوقف ورقبته، بل بالتصرف بمحتوياته كالأبنية والأشجار والمحال .. وغيرها، مما هو موجود في أراضي الوقف الصحيح.

ثم قلصت بعض القوانين من اختصاص المحاكم الشرعية فيما يتعلق بالدعاوي المتصلة بأصل الوقف وشروطه، حيث أشركت المحاكم المدنية الإبتدائية في النظر في دعاوى رقبة الوقف، عند موافقة بعض المتخاصمين أو كافتهم على ذلك؛ فلقد جاء في قانون المرافعات الشرعي من القانون العراقي لسنة 1929 م ما نصه:"لكل من المتخاصمين في رقبة الوقف أن يطلب إيداع الدعوى في المحاكم المدنية، وعلى القاضي أن يقرر توديع الدعوى وفق الطلب".

(1)

المقاطعة: عقد إجارة يقصد به استيفاء الأرض الموقوفة تحت يد المستأجر للبناء والغرس ما دام يدفع أجرة المثل، وهي تسمى الحكر، والمستأجر بالمحتكر، ولقد كان جوازها موضع خلاف بين الفقهاء، انظر: ورد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، ابن عابدين، 4/ 532 وبعدها، ثم منعت بعد ذلك في القوانين الحديثة، وانظر: أحكام الأوقاف، حسن رضا، 38.

(2)

انظر: أحكام الأوقاف، حسين علي الأعظمي، مطبعة الاعتماد، بغداد، 1949 م، 12 - 13، وأحكام الأوقاف، محمد شفيق العاني، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1965 م، 7.

(3)

انظر: شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية العراقي، ضياء شيت خطاب، 111 - 116.

ص: 208

ونصت المادة الثالثة من هذا القانون على أنه "لا تودع المحاكم المدنية إلى المحاكم الشرعية أي دعوى بسبب تعلّق رقبة الوقف إلا بموافقة كافة المتخاصمين"

(1)

.

وهذا يعني أن دعوى الوقف لم تعد من اختصاص المحاكم الشرعية وحدها، فلأحد المتخاصمين أن يطلب إيداعها في المحاكم المدنية، ويجب على المحاكم المدنية حينئذٍ أن تودعها بناء للطلب، أما لو أقيمت في المحاكم المدنية فلا يمكن إحالتها إلى المحاكم الشرعية إلا بموافقة الخصوم مجتمعين.

ثم توالت التشريعات التي قلصت من اختصاص القضاء الشرعي بالنسبة لدعوى الوقف، فجعلت بعض القوانين النظر في أمر تصفية الوقف الذري والمشترك مثلًا من اختصاص محاكم البداية، مع عدم جواز أن تنظر فيها أية محكمة أخرى. فلو تم الاعتراض على صحة الوقف مثلًا وتعيين الأموال الموقوفة وبيان صنفها الذري أو المشترك، وتنوع في شروط الواقفين من جهة الاستحقاق، وحصل خصام حول تصفية الأوقاف الذرية أو المشتركة وما يتفرع عليها، فإن النظر في كل ذلك إنما هو من اختصاص المحاكم المدنية

(2)

.

ولقد آلت مثل هذه التشريعات في كثير من البلدان الإسلامية إلى رفع يد المحاكم الشرعية شيئًا فشيئًا عن النظر في قضايا الوقف، ما يتصل منها بأصل الوقف وشروطه، أو ما يتصل بفروعه، من قبيل النظر في تثبيت شروط الواقفين من جهة الاستحقاق، وتعيين المستحقين، ومقدار أسهمهم من الغلة، وتوفر شرائط الاستحقاق فيهم، وتحديد المستحق من غير المستحق في الأوقاف التي تجري تصفيتها

(3)

، ليصبح عند ذلك اختصاص المحاكم الشرعية مقصورًا على النظر في التولية على الوقف الذري، ونصب المتولي وعزله ومحاسبته، وترشيح المتولي في الوقف الخيري، وتنظيم

(1)

انظر: شرح قانون المرافعات المرئية والتجارية العراقي، ضياء دشت خطاب، 111 - 116.

(2)

انظر: مرسوم تصفية الوقف الذري العراقي، الصادر سنة 1955، والمنشور في الوقائع العراقية، رقم 665، تاريخ 19/ 7/ 1955 م.

(3)

انظر: أحكام الأوقاف، محمد شفيق العاني، 129.

ص: 209