الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
لأن الوقف تمليك منفعة دون العين (الرقبة)، فلا يلزم؛ كالعارية؛ أي: أن التبرع بالريع غير لازم، فيجوز الرجوع عنه وفسخه، وتظل العين الموقوفة على ملك الواقف، فيجوز له التصرف بها كما يشاء، وإذا مات الواقف ورثها ورثته، ويجوز له الرجوع في وقفه متى شاء، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه كيفما يشاء.
6 -
لأن الوقف في رأيه شرعًا: حبس العين على ملك الواقف، بالمنفعة بمنزلة العارية، كما أن المنفعة في رواية عنه معدومة، فالتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلا عنده، لكن الأصح أن الوقف مشروع أو جائز عنده إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية.
7 -
ولأن الوقف لا ينفذ إلا بعد القبض، وإلا فللواقف الرجوع؛ لأنه صدقة ومن شرطها القبض.
ثالثًا: انتهاء الوقف بتخرب الأعيان الموقوفة:
إذا خربت أعيان الوقف كلها أو بعضها، وأصبحت لا ريع لها، ولم يمكن تعميرها، ولا الاستبدال بها، ولا الانتفاع بها بطريق يفيد الموقوف عليهم من غير إضرار بهم؛ فهل ينتهي الوقف في هذا المتخرب؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقف لا ينتهي بتخرب الأعيان الموقوفة مطلقًا إذا سواء أكان مسجدا أم غيره، فلا ينتقل الملك إلى الواقف أو وارثه، وإليه ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (أبي حنيفة وأبي يوسف)، والمالكية، والشافعية في الصحيح، والحنابلة
(1)
، والظاهرية، والإمامية. وفيما يأتي تفصيل ذلك:
فأبو حنيفة وأبو يوسف ذهب
(2)
إلى أن المسجد له صفة الأبدية، فلا تنسلخ عنه صفة المسجدية، ولو استغني عنه، فلو خرب المسجد، وليس فيه ما يعمر به، وقد استغني الناس عنه لبناء مسجد آخر، يظل مسجدًا أبدًا إلى قيام الساعة، وبرأيهما يفتي، فلا
(1)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 28، وكشاف القناع، البهوتي، 4/ 293 - 294.
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
يعود إلى ملك الباني وورثته، ولا يجوز نقله، ونقل ماله إلى مسجد آخر، والفتوى عند مشايخ الحنفية بيع الأنقاض بأمر الحاكم، وصرف ثمنها إلى مسجد آخر.
أما بسط المسجد وحصره وقناديله إذا استغني عنها، فتنقل في رأي أبي يوسف إلى مسجد آخر.
وكذلك الرباط (مسكن المجاهدين)، والبئر إذا لم ينتفع بهما واستغني عنهما، تنقل في رواية عن أبي يوسف إلى مسجد آخر.
وأما المالكية
(1)
، فقد ذهبوا إلى أنه لا يحل بيع المسجد أصلًا بالإجماع، وكذلك لا يباع العقار وإن خرب إلا أن يشتري منه بحسب الحاجة لتوسعة مسجد أو طريق.
وأما المنقولات كعروض التجارة وأفراد الحيوان إذا ذهبت منفعتها؛ كهرم الفرس وصيرورة الثوب خلقًا (باليًا) بحيث لا يُنتفع بها، فتباع ويصرف الثمن في مثله، ونسل الأنعام كأصلها يباع ويعوض عنه إناثًا صغارًا، لتمام النفع بها.
وقال الشافعية
(2)
: إذا انهدم المسجد أو خرب، لم يجز التصرف فيه بالبيع وغيره؛ لأن ما كان الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال، وإذا خيف على المسجد السقوط، نقض، وبني الحاكم بأنقاضه مسجدًا آخر إن رأى ذلك، وإلا حفظه؛ أي لا ينتهي وقف المسجد، وتنقل أنقاض القناطر الموقوفة إلى محل الحاجة لمثلها.
وأما غلة الثغور (أرض المسلمين التي تلاصق بلاد الكفار) الموقوفة إذا تعرضت للخلل؛ فيحفظها الناظر؛ لاحتمال عودة الثغر إلى ما كان عليه.
(1)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، 4/ 9091، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، النفراوي، 2/ 230.
(2)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1958 م، 2/ 391، ونهاية المطلب في دراية المذهب، ركن الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الملقب بإمام الحرمين، دار المنهاج، جدة، ط 1، 1428 هـ/ 2007 م، 8/ 394.
وقال الحنابلة: إن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه، كدار انهدمت، أو أرض خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته، ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه
(1)
.
وقال الظاهرية
(2)
: إنه لا يجوز انتهاء الوقف بتخريبه.
وقال الحلي من الإمامية: "إذا وقف مسجدًا فخرب، أو خربت القرية أو المحلة لم يعد إلى ملك الواقف، ولا تخرج العرصة (الساحة) عن الوقف"
(3)
، فهو يقتضي بقاء عرصة المسجد الموقوف مسجدًا، ولا يجوز بيع الوقف، فلا تخرج أرض الوقف عن الوقف، فالمسجد يظل مسجدًا والأرض التي بني عليها الدار تبقى وقفًا، لإمكان الانتفاع بالإجارة؛ أي إجارة الأرض، وقيل: يجوز بيع النخلة الموقوفة لو انقلعت، وقيل: لا يجوز؛ لإمكان الانتفاع بإجارة جذع النخلة للتسقيف وشبهه، وهو أشبه.
واستدل أصحاب هذا الرأي بالأدلة الآتية:
1 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يباع أصلها، ولا تبتاع ولا توهب، ولا تورث"
(4)
.
وجه الدلالة: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها، وعدم هبتها، وميراثها نص في بقائها وقفًا في كل حال؛ سواء أكانت عامرة أم خاربة؛ بدلالة العموم في:(أصلها)، فهو مفرد مضاف، فيعم كل أصل باقٍ، ولا دليل لتخصيص هذا العموم.
2 -
بما روي: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص، لما بلغه أنه قد نُقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة
(1)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 28.
(2)
انظر: المحلى، ابن حزم، 142.
(3)
شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط 1، 1389 هـ/ 1969 م، 2/ 220.
(4)
المغني، ابن قدامة، 6/ 29.
المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلٍّ، وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعًا
(1)
.
وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه أمر بتوسعة بيت مال المسلمين بجزء من المسجد، وهو قبلته، ولم يزل المسجد كاملًا؛ لوجود بقية من المصلين فيه، وعمله هذا يدل على بقاء الوقف لله عز وجل، حتى في حالة صيرورته إلى غير مالك.
3 -
أن المسجد له صفة الأبدية، فلا تنسلخ عنه صفة المسجدية إلى قيام الساعة
(2)
.
4 -
لأنه عمومًا ما كان الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال
(3)
.
5 -
لأن الحبس (الوقف) لا يخرج إلى غير مالك، بل إلى أجلِّ المالكين؛ وهو الله تعالى؛ كالعتق؛ أي له صفة الدوام
(4)
.
6 -
لأن انتقال الوقف الذي تخرب إلى وقف آخر استبقاء للوقف بمعناه عند تعذُّر إبقائه بصورته
(5)
.
7 -
قال ابن عقيل: "الوقف مؤبد؛ فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودها على العين مع تعطلها تضييع للغرض"
(6)
.
8 -
القياس على الهدي إذا عطب في السفر؛ فإنه يذبح في الحال، وإن كان يختص بموضع، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن، وترك مراعاة
(1)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 29.
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
(3)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، 4/ 9091، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، النفراوي، 2/ 230.
(4)
انظر: شرائع الإسلام، الحلي، 2/ 220.
(5)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 29.
(6)
انظر: المرجع السابق، 6/ 29.
المحل الخاص عند تعذره؛ لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوات الانتفاع بالكلية، وهكذا الوقف المعطل المنافع
(1)
.
9 -
ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها؛ كالمعتق، والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق
(2)
.
القول الثاني: أن الوقف المتخرب الذي تعطلت منافعه، وليس له من الغلة ما يعمر به، ينتهي مطلقًا؛ سواء كان مسجدًا أم غيره، فيرجع إلى الواقف أو ورثته، وإليه ذهب الإباضية
(3)
، ومحمد بن الحسن من الحنفية
(4)
:
فإذا خربت الدار وانهدمت، وكذا الأرض إذا خربت وعادت مواتًا، ولا يمكن عمارتها، وكذا المسجد إذا انصرف أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولا يمكن توسيعه في موضع، أو تشعب جميعه، فلا يمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه لعمارة بقيته، أو لا يمكن الانتفاع بشيء منه، فيباع جميعه.
قال ابن أطفيش: " (وإن عين) مسجدًا (قصد به) ما عين، (إلا إن خرب)؛ أي: هدم، ولا يرجى له بناء، أو تُرك عمارته، (أو منع من وصوله)؛ للبعد أو لقطع الطريق أو المضرة؛ كحمى لازمة للموضع في كل وقت؛ لتعطل منفعته؛ لأن المساجد لله في حال بقائها"
(5)
.
وجاء عند الحنفية: "وترجع إلى المالك أو إلى ورثته في رأي محمد بن الحسن إذا خرجت من الانتفاع المقصود للواقف بالكلية، والفتوى على قول محمد بن الحسن"
(6)
، "وترجع إلى المالك في رأي محمد بن الحسن، والفتوى أن أنقاضهما تباع وتُنقل إلى رباط أو بئر آخر؛ لأن غرض الواقف انتفاع الناس بالموقوف؛ ولئلا يأخذها المتغلبون"
(7)
.
(1)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 29.
(2)
انظر: المرجع السابق، 6/ 29.
(3)
انظر: النيل وشفاء العليل، محمد بن أطفيش، دار الإرشاد، جدة - المملكة العربية السعودية ودار الفتح، بيروت - لبنان ط 2، 1972 م، 12/ 464.
(4)
انظر: حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
(5)
انظر: النيل وشفاء العليل، محمد بن أطفيش، 12/ 464.
(6)
حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
(7)
حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
واستدل أصحاب هذا الرأي بالأدلة الآتية:
1 -
أن الواقف عين الوقف لنوع قربة، وقد انقطعت، فينقطع هو أيضًا
(1)
.
2 -
لأن فيما ذكر استبقاء الوقف بمعناه، عند تعذر إبقائه بصورته، فوجب البيع
(2)
.
3 -
لأن الوقف إنما هو تسبيل المنفعة؛ فإذا زالت كنفعته زال حق الموقوف عليه منه، فزال ملكه عنه
(3)
.
القول الثالث: ذهب الشافعية في الأصح عندهم
(4)
، والزيدية إلى انتهاء الوقف المتخرب في غير المسجد.
أما الزيدية
(5)
، فيقولون: بأن ما بطل نفعه في المقصود بيع لإعاضته؛ كثوب خلق (بلي) أو شجر يبس، لا كمسجد انهدم، لبقاء العرصة (الساحة) وفي غيره إضاعة مال، وقد نهي عنه.
واستدل أصحاب هذا الرأي بالأدلة الآتية:
1 -
لأن ما لا يرجى منفعته، يكون بيعه أولى من تركه، بخلاف المسجد، فإنه يمكن الصلاة فيه مع خرابه
(6)
.
2 -
ولأن في ترك بيعه، وإعادته لمالكه إضاعة مال، وقد نهي عنه
(7)
.
(1)
انظر: حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
(2)
حاشية ابن عابدين، ابن عابدين، 4/ 358 - 359، وبدائع الصنائع، الكاساني، 6/ 220.
(3)
انظر: المغني، ابن قدامة، 6/ 29.
(4)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 391، ونهاية المطلب، الجويني، 8/ 394.
(5)
انظر: البحر الزخار، ابن المرتضي، 5/ 158.
(6)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 391، ونهاية المطلب، الجويني، 8/ 394.
(7)
انظر: البحر الزخار، ابن المرتضى، 5/ 158، ومغني المحتاج، الشربيني الشافعي، 2/ 391، ونهاية المطلب، الجويني، 8/ 394.