الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الاستبدال وصوره المشروعة
الصورة الأولى: اشتراط الواقف الاستبدال:
إذا قال الواقف عند إنشاء الوقف: أرضي هذه موقوفة على أن لي استبدال غيرها بها، أو على أن لي بيعها وجعل غيرها وقفًا مكانها، فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الاشتراط. على أربعة أقوال:
القول الأول: يرى جواز وصحة اشتراط الواقف الاستبدال، وعليه فلو شرط الواقف الاستبدال لنفسه، أو لنفسه وغيره، صح الوقف والشرط، وكان له ولمن شرط له استبدال الوقف إذا شاء، وبهذا قال أبو يوسف من الحنفية، وهو المفتى به في المذهب
(1)
، وإسحاق بن راهويه
(2)
، وأكثر الإمامية.
قال ابن الهمام: "ولو شرط أن يستبدل بها أرضًا أخرى تكون وقفًا مكانه فهو جائز عند أبي يوسف وهلال والخصاف وهذا استحسان، ثم أضاف: الاستبدال بالشرط مذهب أبي يوسف المشهور عنه المعروف، لا مجرد رواية
(3)
.
ونقل ابن قاضي الجبل عن إسحاق بن راهوية قوله: "وإن شاء أن يشترط في وقفه أن له بيعه متى شاء صح شرط ذلك"
(4)
.
وقال ابن عابدين بعد أن ذكر أن الفتوى على قول أبي يوسف: "اشتراط الاستبدال مفرع على القول بجواز اشتراط - الواقف - الغلة لنفسه"
(5)
.
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
(1)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم 5/ 239، 6/ 203.
(2)
انظر: المناقلة والاستبدال بالأوقاف والإفصاح بما وقع في ذلك من النزاع والخلاف، ابن قاضي الجبل الحنبلي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، 52.
(3)
فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 227 - 228.
(4)
المناقلة والاستبدال بالأوقاف، ابن قاضي الجبل الحنبلي، 52.
(5)
رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي الحنفي، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1412 هـ./ 1992 م، 4/ 385.
1 -
شرط الاستبدال لا يبطل الوقف؛ لأن الوقف يقبل الانتقال من أرض إلى أرض، وتوضيح ذلك أن أرض الوقف إذا غصبها غاصب وأجرى عليها الماء حتى صارت بحرًا لا تصلح للزراعة؛ يضمن قيمتها ويشتري أرضًا أخرى فتكون وقفًا مكانها، فشرط الاستبدال لا يخالف أمرًا شرعيًا فوجب اعتباره
(1)
.
2 -
أن في الاستبدال تحويل الوقف إلى ما يكون خيرًا من الأول أو مثله، فكان تقريرًا لا إبطالًا
(2)
.
3 -
استبدال أرض الوقف بأرض أخرى، قد يكون فيه صلاح لهذه الأرض، فإن أرض الوقف قد تضعف ولا تحتمل الزراعة ولا تفضل غلتها عن مؤنتها، ومن ثم يكون الخير في استبدالها
(3)
.
4 -
شرط الواقف الاستبدال ليس بفاسد؛ لأن الغرض منه إثبات وقف آخر، ومن ثم فالاستبدال تأبيد للوقف معنى
(4)
.
5 -
شرط البيع لا ينافي الوقف، وذلك بالقياس على بيع باب المسجد إذا خلق، وشَجَر الوقف إذا يَبِس
(5)
.
وتقريعًا على أصل أبي يوسف في جواز الاستبدال ذكر فقهاء الحنفية مسائل منها:
أ - لو شرط الاستبدال لنفسه مع آخر على أن يستبدلا معًا فتفرد بذلك الرجل لا يجوز، ولو تفرد الواقف جاز
(6)
.
(1)
انظر: فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 228.
(2)
انظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي المدعو بشيخي زاده، تحقيق خليل عمران المنصور، نشر دار الكتب العلمية بيروت، 1419 هـ/ 1998 م، 2/ 576.
(3)
انظر: فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 228.
(4)
انظر: المرجع السابق، 6/ 227.
(5)
انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، نشر دار الكتب العلمية، ط 2، 1406 هـ./ 1986 م، 6/ 220.
(6)
انظر: فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 228، والفتاوى الهندية، الشيخ نظام ومجموعة من علماء الهند، نشر دار الفكر، ط 2، 1310 هـ، 2/ 400، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 240.
ب - ليس للقيم ولاية الاستبدال إلا أن بن له بذلك، ولو شرطه للقيم ولم يشترطه لنفسه كان للواقف أن يستبدل بنفسه
(1)
.
ج - لو شرط أن يبيع الأرض الموقوفة ويشتري بثمنها أرضًا أخرى ولم يزد؛ صحَّ استحسانًا، وصارت الثانية وقفًا بشرائط الأولى ولا يحتاج إلى الإيقاف
(2)
.
د - ليس للواقف الذي اشترط الاستبدال لنفسه أن يستبدل ثانيا؛ لانتهاء الشرط بمرة، إلا أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائمًا
(3)
.
هـ - لو شرط الواقف في الوقف الاستبدال لكل من ولي هذا الوقف صح ذلك، ويكون لكل من ولي ولاية الاستبدال، أما إذا قال الواقف على أن لفلان ولاية الاستبدال فمات الواقف لا يكون لفلان ولاية الاستبدال بعد موت الواقف، إلا أن يشترط الولاية بعد وفاته
(4)
.
و - لو شرط الاستبدال ولم يذكر أرضًا ولا دارًا وباع الأولى، له أن يستبدلها بجنس العقار ما شاء من دار أو أرض، وكذا لو لم يقيد بالبلد له أن يستبدلها بأي بلد شاء
(5)
.
ز - مبادلة دار الوقف بدار أخرى إنما تجوز إذا كانت في محلة واحدة أو تكون محلة المملوكة خيرًا من محلة الموقوفة، وعلى عكسه لا يجوز، وإن كانت المملوكة أكثر مساحة وقيمة وأجرة لاحتمال خرابها في أُدْوَن المحلتين؛ لدناءتها وقلة الرغبات فيه
(6)
.
(1)
انظر: الفتاوي الهندية، مجموعة من علماء الهند، 2/ 400.
(2)
انظر: المرجع السابق، 2/ 399، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 385.
(3)
انظر: الفتاوى الهندية، مجموعة من علماء الهند، 2/ 400، وفتح القدير، ابن الهمام، 6/ 228، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 385.
(4)
انظر: الفتاوي الهندية، مجموعة من علماء الهند، 2/ 400، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 240.
(5)
انظر: الفتاوي الهندية، مجموعة من علماء الهند، 2/ 400.
(6)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 241، والفتاوي الهندية، مجموعة من علماء الهند، 2/ 400.
ح - لو ضاع الثمن من المستبدل لا ضمان عليه؛ لكونه أمينًا كالوكيل بالبيع
(1)
.
ط - لو باع وقبض الثمن ثم مات مجهلًا فإنه يكون ضامنًا
(2)
.
القول الثاني: يرى أنه إذا شرط الواقف في حال وقفه استبدال الوقف صح الوقف وبطل الشرط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية
(3)
، والشافعية في مقابل الصحيح
(4)
، والحنابلة في قول
(5)
، والزيدية
(6)
، وبعض الإمامية
(7)
.
قال السرخسي: "إذا شرط في الوقف أن يستبدل به أرضًا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف، وعند محمد، وهو قول أهل البصرة رحمهم الله تعالى: الوقف جائز والشرط باطل؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في المنع من زواله، والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف، فيتم الوقف بشروطه.
ويبقى الاستبدال شرطًا فاسدًا فيكون باطلًا في نفسه؛ كالمسجد إذا شرط الاستبدال به أو شرط أن يصلي فيه قوم دون قوم فالشرط باطل، واتخاذ المسجد صحيح فهذا مثله"
(8)
.
ويقيس الشافعية القائلون بصحة الوقف وإلغاء الشرط اشتراط الاستبدال على الطلاق بشرط عدم الرجعة؛ حيث يقع الطلاق، ويلغى اشتراطه عدم الرجعة
(9)
.
(1)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 241.
(2)
انظر: المرجع السابق، 5/ 242.
(3)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 385.
(4)
انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، أحمد بن حمزة شهاب الدين الرملي، نشر دار الفكر، بيروت، 1404 هـ./ 1984 م، 5/ 376، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: زهير الشاويش، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1412 هـ/ 1991 م، 5/ 329.
(5)
انظر: الإنصاف، المرداوي، 7/ 25 - 26.
(6)
انظر: البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضي، طبعة دار الحكمة اليمانية، ط 1، عام 1409 هـ.، مصورة عن الطبعة القديمة عام 1366 هـ.، 4/ 152.
(7)
انظر: مفتاح الكرامة، العاملي، 9/ 94.
(8)
انظر: المبسوط، السرخسي، 12/ 41 - 42.
(9)
انظر: نهاية المحتاج، الرملي، 5/ 376.
وقال العاملي في سياق الاستدلال لهذا القول: "وجه الصحة أنه أتى - أي الواقف - بالوقف والشرط، فإذا بطل أحدهما لا يبطل الآخر"
(1)
؛ لعدم التلازم بينهما.
وينبغي التنويه إلى أن الوقف يجوز في هذه الحالة عند محمد إذا اشترط الواقف عند إنشاء الوقف الاستبدال، وأما إذا اكتفى باشتراط بيع الوقف ولم يشترط الاستبدال بثمنه فالوقف يكون باطلًا عند الحنفية.
يشير إلى ذلك قول الكمال بن الهمام: "لو قال على أن أبيعها بقليل أو كثير
…
نص هلال على فساد الوقف كأنه قال على أن أبطلها"
(2)
.
وقول ابن عابدين: "قوله ولا ذكر معه اشتراط بيعه .. إلخ، في الخصاف لو قال: على أن لي إخراجها من الوقف إلى غيره
…
وأخرجها عن الوقف بطل الوقف"
(3)
، وقال:"شرط البيع فقط يفسد الوقف، كما مر أول الباب"
(4)
.
القول الثالث: يرى أنه لا يجوز للواقف أن يشترط في وقفه بيع الوقف وشراء غيره مكانه، لكن إن وقع مثل هذا الشرط ونزل، عمل به، وبهذا قال المالكية.
وذكر الحطاب في تعليقه على عبارة خليل "واتبع شرطه إن جاز": مفهوم قوله "إن جاز": أنه إن شرط ما لا يجوز لا يتبع، وهذا - والله أعلم - إذا شرط شيئًا متفقًا على منعه، وإلا فقد نص في النوادر والمتيطية وغيرهما أنه إذا شرط في وقفه: إن وجد فيه ثمن رغبة بيع واشتري غيره؛ أنه لا يجوز له ذلك، فإن وقع ونزل مضى وعمل بشرطه
(5)
.
(1)
انظر: مفتاح الكرامة، العاملي، 9/ 94.
(2)
فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 229.
(3)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 342.
(4)
المرجع السابق، 4/ 385.
(5)
انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي، نشر دار الفكر، ط 3، 1412 هـ./ 1992 م، 6/ 33.
وقال الدسوقي: "وأما المختلف في حرمته كشرطه إن وجد ثمن رغبة بيع واشتري غيره؛ كاشتراط إخراج البنات من وقفه إذا تزوجن، فهذا لا يجوز الإقدام عليه وإذا وقع مضى"
(1)
.
القول الرابع: يرى أنه لو شرط الواقف في الوقف أن يبيعه متى شاء بطل الوقف.
وإليه ذهب الشافعية على الصحيح، والحنابلة على الصحيح من المذهب كذلك، وهو قول بعض الإمامية
(2)
.
قال النووي: "فلو وقف بشرط الخيار أو قال وقفت بشرط أني أبيعه أو أرجع فيه متى شئت فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى الله سبحانه وتعالى؛ كالعتق، أو إلى الموقوف عليه؛ كالبيع والهبة، وعلى التقديرين فهذا شرط فاسد"
(3)
.
وقال العاملي مستدلًا على بطلان الوقف: "وجه البطلان أن الواقف إنما أوقفه على هذا الشرط ولم يعلم رضاه بدونه ولا دلالة على وقوعه بدونه"
(4)
.
وقال الرحيباني الحنبلي: "السادس من شروط الوقف (أن لا يشترط) الواقف في الوقف شرطًا ينافيه من الشروط الفاسدة كشرط نحو بيعه أو هبته متى شاء أو شرط (خيار فيه) بأن قال: وقفته بشرط الخيار أبدًا أو مدة معينة أو شرط توقيته؛ كقوله: هو وقف يومًا أو سنة ونحوه أو بشرط تحويله - أي الوقف - من جهة الأخرى؛ كقوله: وقفت داري على جهة كذا على أن أحولها عنها أو عن الوقفية بأن أرجع عنها متى شئت، فإن شرط شيئًا من ذلك بطل الشرط والوقف على الصحيح من المذهب نص عليه، وقدمه في الفروع وشرح الحارثي والفائق والرعايتين والحاوي الصغير، قال في المغني: لا نعلم فيه خلافًا لمنافاته"
(5)
.
(1)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، نشر دار الفكر، 4/ 88.
(2)
انظر: نهاية المحتاج، الرملي، 5/ 376، والإنصاف، المرداوي، 7/ 25، ومطالب أولي النهى، الرحيباني، 4/ 294، ومفتاح الكرامة، العاملي، 9/ 94.
(3)
روضة الطالبين، النووي، 5/ 328 - 329.
(4)
مفتاح الكرامة، العاملي، 9/ 94.
(5)
مطالب أولي النهى، الرحيباني، 4/ 294.