الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحالة الأولى: إذا كان تصرفه مما جرى العرف بعد أخذ سند به؛ كصرف ثمن على الفقراء أو إطعامهم.
الحالة الثانية: إذا كان متطوعًا ولا أجرله، على أن يكون تقصيره بسيرًا لا يعتد به
(1)
.
ب) المنازعة في الاستحقاق في الوقف وتفسير شرط الواقف:
من صور النزاع والخصومة في الوقف، ذاك الذي يكون منشوه دعوى الاستحقاق، وهو إنما يوجد عند عدم ذكر الواقف صراحة مستحقين بأعيانهم، واكتفائه بألفاظ من قبيل ولدي وأولادي، فلا يعرف أنه هل قصد من ولده أو أولاده ما يشمل أولاد الأولاد كذلك وما يشمل أولاد الظهور وأولاد البطون؟ وهل قصد أن يدخل أولاد الأولاد مع الأولاد في الشركة عند موت آبائهم فيشاركون أعمامهم في الاستحقاق؟ وعلى أي حال فلو كان الواقف موجودًا فالقول قوله في تحديد مقصوده وإلا وقع النزاع، وقد يكون كلام الواقف واضحًا لا لبس فيه، فلا يكون هناك موضوعًا للنزاع حينئذٍ، ولو ادعى رجل الاستحقاق احتج عليه بكلام الواقف؛ كما لو قال مثلًا: هو وقف على أولادي وأولاد أولادي، من أبناء الظهور دون أبناء البطون، يتساوون في غلته، يأخذون منها حق آبائهم عند موتهم، وهو بعدهم للفقراء .. كان المستحق هنا واضًا لا ينازع في حقيقته
(2)
.
وكذا لو قال: وقفت على أولادي من أبناء الظهور، ويكون بعده لأولاد أولادهم لا يشاركون أعمامهم ما داموا أحياء، فهو واضح لا يقبل مخاصمة أو نزاع.
نعم .. يحصل النزاع فيما لو وقف على أولاده وعلى أولاد أولاده، فتموت ابنة له؛ فهل ينتقل حقها في الاستحقاق إلى أولادها أو لا؟
ومثله ما لو ذكر الواقف طبقة واحدة بلفظ المفرد، كأن يقول: وقفت على ولدي ثم على الفقراء؛ فهل ينفرد بالاستحقاق أولاده المباشرين فلا يشمل أولاد الأولاد؛ لأنه
(1)
المادة 50 من قانون الوقف المصري.
(2)
انظر: رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، ابن عابدين، 3/ 677.
اقتصر في الاستحقاق على طبقة واحدة؛ لأن الولد المضاف إلى الشخص حقيقة في ولده المباشر، وولد الولد ولد على المجاز، ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز أو أنه يشملهم لأنه ولد عرفًا؟
وكذا ينشأ النزاع فيما لو قال الواقف: وقفت داري هذه على أولادي لصلبي بالسوية بينهم، ثم على أولاد أولاده، ثم على أولاد أولاد أولادهم بطنًا بعد بطن ونسلًا بعد نسل، فلو مات عن ثلاثة ذكور وبنتين، ثم توفي أحد الذكور عن ثلاثة أولاد وثلاث بنات، وإحدى البنتين عن ولد .. فكيف تقسم الغلة؟ وينشأ النزاع هنا في أولاد إحدى البنتين؛ هل يدخلون في الوقف أو لا؟ فيعود نصيب أمهم إلى أصل الغلة؟
ومنه ما لو قال الواقف: وقفت داري هذه على أولادي ثم على أولاد أولادي ثم على أولادهم، فهل يدخل ولد الولد لو مات أبوه في حياة أعمامه أو لا؟ وهل يكون الترتيب هنا ترتيب طبقات فلا يستحق أحد من الطبقة الثانية ما دام هناك مستحق من الأول؟ أو أن الترتيب ترتيب أولاد فيستحق ولد الولد نصيب أبيه بعد موته ولو كان هناك مستحق من الطبقة الأولى؟
وللفقهاء
(1)
في مثل هذه المواضع مذاهب، وهم لم يتفقوا على قاعدة يمكن الاحتكام إليها عند حصول التنازع في الاستحقاق في الصور التي عرضنا بعضها.
ومنه: إذا تنازع الواقف والموقوف عليه في قصد القربة، فالقول للواقف؛ إذ لا يعرف إلا من جهته، فلو عرف من نفسه عدم قصد القربة نحو أن يقصد منع الوارث من البيع أو فرارًا من الدين؛ فإنه يجوز له البيع في الباطن لا في الظاهر، حيث كان في لفظه بالوقف أو بالمصرف ما يقتضي القربة لم يجز له البيع، فإن قصد القربة ومنع الوارث من البيع أو حرمان وارث كالنساء أو غيرهن أو فرارًا من الدين صح الوقف؛ لحصول الشرط، وهو قصد القربة
(2)
.
(1)
انظر: شروط الواقفين بين الوضوح والغموض، عبد الله سنوسي، مجلة وقفنا، الخميس 9 ذي القعدة 1427.
(2)
انظر: التاج المذهب لأحكام المذهب، أحمد بن قاسم العنسي اليماني الصنعاني، 3/ 289.
ويمكن إرجاع النزاع
(1)
في ذلك إلى طبيعة نظرهم إلى الوقف، وأنه عمل يتضمن معنى التقرب والعبادة، فيفسر قول الواقف المطلق فيما يحقق القربة كما عليه الحال عند الحنابلة، أو أنه عقد من جملة العقود
(2)
، فيحمل فيه كلام الواقف المطلق على ظاهره، حتى ولو اقتضى حرمان بعض طبقات الذرية من غلة الوقف حتى مع حاجتهم إليها، كما هو حال الحنفية، والمالكية، والظاهرية، والإمامية
(3)
.
والذين يعتبرون الوقف قربة يفسرون شرط الواقف بما يحقق ذلك، فلا يعتبر من الشروط إلا ما يحققها، لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا فيما فيه منفعة في الدين والدنيا، فما دام الإنسان حيًا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأن في ذلك نفعًا معتدًا به مرغوبًا، وأما الميت فلا يبقى له بعد موته من عمل ينتفع به إلا عمل صالح أقر به وأعان عليه أو هدى إليه، فلا يعتد بما ليس طاعة منها، ولا ينتفع به الميت بعد موته، فإذا اشترط الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها، كان السعي في تحصيلها سعيًا فيما لا نفع فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومثله لا يجوز؛ لأن المقصود من الوقف التقرب؛ ولذلك اتجه ابن تيمية
(4)
إلى القول ببطلان الشروط التي لا نتحقق منها القربة، وبني على ذلك أمرين:
الأمر الأول: أن الوقف ينفذ بعد الوفاة في أكثر مقاصده إذا كان يتحقق منها فعل القربة، بمعنى إذا كانت مطلوبة من الشرع على جهة الندب والاستحباب، أما ما يكون منها على جهة الإباحة فلا ينفذ؛ لأنه لا يتحقق منه فائدة للميت بعد وفاته وإن تحققت في حياته.
(1)
انظر: بحوث وفتاوى فقهية معاصرة، محمد الكردي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1992 م، 231.
(2)
انظر: بحوث وفتاوى فقهية معاصرة، محمد الكردي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1992 م، 231.
(3)
انظر: جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، 38/ 7، وهو الأرجح من مذهب الإمامية. واختار العلامة في القواعد اشتراط القرية فيه.
(4)
انظر: الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، 4/ 158 - 159.
الأمر الثاني: أن ما لا قربة فيه من الشروط فلا يجب الوفاء به، وإلى مثله ذهب ابن القيّم حيث قال:"الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنف أو إثم"
(1)
.
وقد قسّم الشروط إلى أربعة فقال: "وبالجملة فشرط الواقفين أربعة أقسام: شروط محرمة في الشرع، وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله، وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله تعالى ورسوله، فالأقسام الثلاثة الأُوَل لا حرمه لها ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار"
(2)
.
وسُئل عن الواقف إذا ما وقف ماله على أشخاص وارتضاهم ولم يرض بنقله لغيرهم، وإن كان الإنفاق عليهم أفضل من الإنفاق على الموقوف عليهم؛ فأجاب:"الله سبحانه وتعالى ملكه المال، لينتفع به في حياته وإذن له أن يحبسه لينتفع به بعد وفاته، فلم يملكه أن يفعل بعد موته ما كان يفعل به في حياته، بل حجر عليه فيه، وملكه ثلثه يوصي به بما يجوز ويسوغ أن يوصي به حتى إن حاف أو جار أو أثم في وصيته جاز، بل وجب على الوصي والورثة رد ذلك الجور والحيف والإثم، ورفع سبحانه الإثم عمن يرد ذلك الحيف والإثم من الورثة والأوصياء، فهو سبحانه لم يملكه أن يتصرف في تحبيس ماله بعده إلا على وجه يقربه إليه، ويدنيه من رضاه، لا على أي وجه أراد، ولم يأذن الله ولا رسوله للمكلف أن يتصرف في تحبيس ماله بعد على أي وجه أراده أبدًا"
(3)
.
ومثله ما جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية؛ حيث قال: "ولا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًا خاصة، وهو ظاهر المذهب أخذًا من قول أحمد في اعتبار القربة في أصل الجهة الموقوف عليها
…
"
(4)
، وفي شرح منتهى الإرادات:
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، 3/ 80.
(2)
المرجع السابق، 3/ 80 - 81.
(3)
المرجع السابق، 4/ 142.
(4)
الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، 5/ 429.
"الإطلاق إذا كان له عرف صح وحمل عليه، وعرف المصرف هنا أولى الجهات به، وورثته أحق الناس ببره"
(1)
.
ويقول ابن تيمية: "إن لفظ الواقف يحمل على مذهبه وعادته في خطابه، ولغته التي يتكلم بها، وافق لغة العرب أو الشرع أو لا، والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل على الاستفاضة
…
"
(2)
.
فلو قدر وسئل الواقف أن سكوته مثلًا عن أيلولة استحقاق الميت من الأولاد لا ينتقل إلى أولاد أولاده لصلبه، وإنما يعود إلى إخوته؛ فهل كان يوافق على ذلك ويحرم أولاد أولاده لصلبه؟ والظاهر أن سكوته عن بيان الأيلولة ضمن الشروط مبني على العرف الشرعي القاضي بأن من مات يعود نصيبه إلى ولده
(3)
.
ونص قانون الوقف المصري الصادر سنة 1946 في المادة 32 منه؛ حيث جاء فيها: "إذا كان الوقف على الذرية مرتب الطبقات لا يحجب أصل فرع غيره، ومن مات صرف ما استحقه أو كان يستحقه إلى فرعه، ولو لم يذكر الواقف أن الفرع يقوم مقام أصله".
وتنص المادة 40 من قانون الأوقاف اللبناني على أنه: "إذا كان الوقف مرتب الطبقات لا يحجب الأصل فرع غيره، ومن مات صرف ما استحقه أو ما كان يستحقه إلى فرعه، وإذا مات مستحق عن حصته وليس له فرع يليه في الاستحقاق عادت حصته إلى غلة الوقف الذي كان يستحق فيه، وإذا لم يوجد أحد في طبقته صرف الريع إلى الطبقات التي تليها، إلى أن يوجد أحد من أهل تلك الطبقة فيعود الاستحقاق إليها".
والفقهاء في العموم وضعوا قواعد لتفسير شروط الواقفين، تم ذكرها في الفصل السابع (ألفاظ الواقفين وشرحها) من المدونة، وقالوا في ذلك: إن كلام الواقف قد يكون صريحًا واضحًا في الدلالة على معناه المراد منه، فيناط الحكم
(1)
شرح منتهي الإرادات، البهوتي، 2/ 407.
(2)
الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، 5/ 429 - 430.
(3)
انظر: المرجع السابق، 5/ 429 - 430. وهو يعتبره أحد الوجهين من مذهب أحمد.