المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: حكم توثيق الوقف - مدونة أحكام الوقف الفقهية - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل التاسع إجارة الوقف

- ‌المبحث الأول تعريفات ومصطلحات

- ‌أولًا: الحكر أو الاستحكار:

- ‌ثانيًا: الإجارة الطويلة:

- ‌ثالثًا: عقد الإجارتين:

- ‌رابعًا: الكَدِك:

- ‌خامسًا: الكردار:

- ‌سادسًا: مشد المسكة:

- ‌سابعًا: المرصد:

- ‌ثامنًا: الخلو:

- ‌المبحث الثاني من يملك حق تأجير الوقف

- ‌أولًا: ولاية تأجير الوقف:

- ‌ثانيًا: ولاية القاضي في تأجير الوقف:

- ‌ثالثا: عزل القاضي للناظر:

- ‌رابعًا: تأجير الموقوف عليه للوقف:

- ‌أ) إذا أجر الموقوف عليه ما لم يصح له إجارته:

- ‌ب) إذا لم يكن هناك نص من الواقف:

- ‌ج) في حالة ما إذا كان هناك شرط من الواقف بعدم تأجير الناظر للوقف أو جزء منه:

- ‌المبحث الثالث الطرف المستأجر في عقد إجارة الوقف

- ‌المبحث الرابع المدة في إجارة الوقف

- ‌المسألة الأولى: إذا تم تقييد إجارة الوقف بمدة زمنية

- ‌المسألة الثانية: إذا لم يحدد الواقف مدة معينة لتأجير الوقف إهمالًا

- ‌أولًا: المذهب الحنفي:

- ‌ثانيًا: المذهب المالكي:

- ‌ثالثًا: المذهب الشافعي:

- ‌رابعًا: المذهب الحنبلي:

- ‌خامسًا: المذهب الزيدي:

- ‌سادسًا: المذهب الإمامي:

- ‌سابعًا: المذهب الإباضي:

- ‌المسألة الثالثة: الإجارة الطويلة

- ‌أولًا: المذهب الحنفي:

- ‌ثانيًا: المذهب المالكي:

- ‌ثالثًا: المذهب الشافعي:

- ‌رابعًا: المذهب الحنبلي:

- ‌خامسًا: المذهب الزيدي:

- ‌سادسًا: المذهب الإمامي:

- ‌سابعًا: المذهب الإباضي:

- ‌المسألة الرابعة: الإجارة بأجرتين

- ‌المسألة الخامسة: الإجارة المنتهية بالتمليك

- ‌المبحث الخامس أجرة الوقف

- ‌أولًا: حكم إجارة الوقف بأقل من أجرة المثل (الغبن الفاحش):

- ‌ثانيًا: مسألة تغيير الأسعار بعد إبرام عقد الإجارة:

- ‌أ) إذا كان التغيير بنقصان الأجرة:

- ‌ب) إذا كان التغيير بزيادة الأجرة:

- ‌المبحث السادس انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌المسألة الأولى: أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌السبب الأول: السبب الطبيعي:

- ‌السبب الثاني: السبب التعاقدي:

- ‌المسألة الثانية: الأثر المترتب على انتهاء عقد إجارة الوقف

- ‌1 - مذهب الحنفية:

- ‌2).2 -مذهب المالكية:

- ‌3 - مذهب بعض الشافعية:

- ‌4 - مذهب الحنابلة:

- ‌5 - مذهب الظاهرية:

- ‌6 - مذهب الزيدية:

- ‌7 - مذهب الإمامية:

- ‌8 - مذهب الإباضية:

- ‌مصادر ومراجع الفصل التاسع

- ‌الفصل العاشر الإبدال والاستبدال في الأوقاف

- ‌تمهيد:

- ‌أولا: تعريف الإبدال والاستبدال في اللغة:

- ‌ثانيا: تعريف الإبدال والاستبدال في الوقف عند الفقهاء:

- ‌المبحث الأول الاستبدال وصوره المشروعة

- ‌الصورة الأولى: اشتراط الواقف الاستبدال:

- ‌الصورة الثانية: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف ينتفع به:

- ‌الصورة الثالثة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف منقول معطل النفع

- ‌الصورة الرابعة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال، والموقوف معطل النفع وهو عقار غير مسجد

- ‌الصورة الخامسة: في سكوت الواقف عن شرط الاستبدال والموقوف مسجد معطل النفع:

- ‌الصورة السادسة: في اشتراط الواقف عدم الاستبدال:

- ‌المبحث الثاني أحوال جواز الإبدال والاستبدال

- ‌المبحث الثالث استثمار أموال البدل

- ‌أولًا: تعريف استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌ثانيًا: أنواع الموقوف بالنسبة للاستثمار:

- ‌ثالثًا: وسائل استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌الوسيلة الأولى: الإجارة:

- ‌1 - مدة إجارة الوقف:

- ‌2).2 -أجرة المثل في إجارة الوقف:

- ‌3 - الزيادة على أجر المثل:

- ‌الوسيلة الثانية: المزارعة والمساقاة:

- ‌الوسيلة الثالثة: الاستصناع:

- ‌الوسيلة الرابعة: صكوك المقارضة:

- ‌الوسيلة الخامسة: المشاركة المنتهية بالتمليك (المشاركة المتناقصة):

- ‌رابعًا: ضوابط استثمار أموال بدل الوقف:

- ‌المبحث الرابع شروط الإبدال والاستبدال

- ‌المبحث الخامس الجهة المخولة بالتصرف في الوقف بالاستبدال

- ‌أولًا: مذهب الحنفية:

- ‌ثانيًا: مذهب الحنابلة:

- ‌مصادر ومراجع الفصل العاشر

- ‌الفصل الحادى عشر توثيق الوقف

- ‌المبحث الأول تعريف توثيق الوقف ومشروعيته

- ‌أولًا: تعريف توثيق الوقف:

- ‌ثانيًا: مشروعية توثيق الوقف:

- ‌ثالثًا: فوائد توثيق الوقف:

- ‌رابعًا: حكم توثيق الوقف

- ‌المبحث الثاني ثبوت الوقف

- ‌أولا: ثبوت الوقف بالحجة الوقفية (الصك الوقفي)

- ‌أ) تعريف الحجة الوقفية:

- ‌ب) حكم الاعتماد على الحجج الوقفية:

- ‌ج) حكم العمل بالحجة الوقفية بخط القاضي الذي ينظر النزاع:

- ‌د) ثبوت الحجة الوقفية التي هي في أيدي القضاة ولها رسوم في دواوينهم:

- ‌ثانيًا: ثبوت الوقف بشهادة الشهود:

- ‌أ) تعريف الشهادة:

- ‌ب) حكم توثيق الوقف بالشهادة:

- ‌ج) صور الشهادة على الوقف:

- ‌1 - الشهادة على الوقف لغير المعين:

- ‌2 - الشهادة على الوقف للمعين:

- ‌ثالثًا: ثبوت الوقف بالتسامع:

- ‌أ) تعريف التسامع لغة وفقها:

- ‌ب) مشروعية الإثبات بشهادة التسامع:

- ‌ج) إثبات الوقف بالتسامع:

- ‌رابعا: ثبوت الوقف بوضع اليد:

- ‌أ) تعريف وضع اليد:

- ‌ب) مشروعية العمل بوضع اليد:

- ‌ج) حالات وضع اليد:

- ‌خامًسا: ثبوت الوقف بالكتب العرفية:

- ‌أ) حكم ثبوت الوقف بالكتب العرفية:

- ‌ب) حكم ثبوت الوقف بالكتابة على أبواب المدارس والربط والحيوان ونحوها:

- ‌سادسًا: ثبوت الوقف بالإقرار

- ‌أ) تعريف الإقرار ومشروعيته وأهميته:

- ‌ب) الإقرار بالوقف من الواقف:

- ‌الحالة الأولى: إقرار الواقف حال صحته:

- ‌الحالة الثانية: إقرار الواقف حال مرضه مرض الموت:

- ‌الحالة الثالثة: إقرار الواقف حال مرضه أنه وقف في صحته:

- ‌ج) إقرار الورثة بالوقف:

- ‌الحالة الأولى: أن يقع الإقرار من جميع الورثة:

- ‌الحالة الثانية: أن يقع الإقرار من بعض الورثة:

- ‌د) إقرار الأجنبي واضعًا يده على أرض وأقر بأنها وقف حال صحته:

- ‌الحالة الأولى: إقرار الأجنبي مطلقًا من غير تعيين الواقف:

- ‌الحالة الثانية: إقرار الأجنبي ذي اليد في إقراره بالوقف مقيدًا معينًا:

- ‌الصورة الأولى: تعيين الواقف:

- ‌الصورة الثانية: تعيين الموقوف عليه:

- ‌المبحث الثالث محتويات حجة الوقف

- ‌المبحث الرابع المتطلبات القانونية لإثبات الوقف وتوثيقه

- ‌أولًا: تنظيم التوثيق في العصر الحاضر:

- ‌ثانيًا: تسجيل الوقف في العصر الحاضر عن طريق قوانين خاصة صادرة لهذا الغرض:

- ‌ توثيق الوقف في المملكة العربية السعودية:

- ‌ توثيق الوقف في مصر:

- ‌ توثيق الوقف في سورية:

- ‌ توثيق الوقف في دولة الإمارات العربية المتحدة:

- ‌ثالثًا: تحديد الاختصاص في توثيق الوقف في القوانين المعاصرة:

- ‌رابعًا: إجراءات توثيق الوقف في القوانين المعاصرة:

- ‌خامسًا: بطلان توثيق الوقف:

- ‌مصادر ومراجع الفصل الحادي عشر

- ‌الفصل الثاني عشر المنازعات والدعاوى في الوقف

- ‌أولًا: مشروعية وخصوصية دعوى الوقف:

- ‌ثانيًا: طبيعة المنازعات الوقفية ومناشئها:

- ‌ثالثًا: الجهة المختصة في النظر في دعوى الوقف:

- ‌رابعًا: الخصم في دعوى الوقف:

- ‌الحالة الأولى: موطن الدعوى حالة التمييز بين المدعي والمدعى عليه:

- ‌الحالة الثانية: موطن الدعوى حالة عدم التمييز بين كل من المدعي والمدعى عليه:

- ‌خامسًا: التقادم في دعوى الوقف:

- ‌أ) مدة التقادم:

- ‌ب) وقف التقادم وانقطاعه:

- ‌سادسًا: وسائل الإثبات في دعوى الوقف:

- ‌أ) الإقرار: معناه، حجيته، وأنواعه:

- ‌ب) الشهادة: معناها، حجيتها، أركانها وشروطها:

- ‌1).1 -الشهادة بالتسامع:

- ‌2 - الشهادة على الشهادة:

- ‌ج) اليمين والنكول عنها:

- ‌1 - اليمين:

- ‌2 - معنى النكول:

- ‌سابعًا: صور المنازعة في الوقف:

- ‌أ) المنازعة بين المتولي من جهة، والمستحقين والقاضي من جهة أخرى:

- ‌1 - المنازعة بين المتولي والمستحقين:

- ‌2 - المنازعة بين المتولي والقاضي:

- ‌ب) المنازعة في الاستحقاق في الوقف وتفسير شرط الواقف:

- ‌ج) المنازعة بين الموقوف عليهم من جهة، وبينهم وبين الورثة من جهة أخرى:

- ‌مصادر ومراجع الفصل الثاني عشر

- ‌الفصل الثالث عشر انتهاء الوقف

- ‌مقدمة: معنى انتهاء الوقف فقهًا

- ‌المبحث الأول حالات انتهاء الوقف

- ‌أولًا: انتهاء الوقف المؤقت بانتهاء مدته:

- ‌ثانيًا: انتهاء الوقف بالرجوع فيه:

- ‌ويلزم الوقف عندهم بأحد الأمور الآتية

- ‌ثالثًا: انتهاء الوقف بتخرب الأعيان الموقوفة:

- ‌رابعًا: انتهاء الوقف بقلة غلته:

- ‌خامسًا: انتهاء الوقف بانقراض الموقوف عليهم:

- ‌المبحث الثاني ما يترتب على انتهاء الوقف

- ‌أولًا: مصيره إلى قرابة الواقف:

- ‌ثانيًا: مصيره ملكًا للموقوف عليهم:

- ‌ثالثًا: رجوعه إلى ملك الواقف:

- ‌رابعًا: مصيره إلى الخيرات:

- ‌خامسًا: مصيره إلى بيت مال المصالح العامة:

- ‌المبحث الثالث اشتراط حكم القاضي لإنهاء الوقف

- ‌مصادر ومراجع الفصل الثالث عشر

- ‌فهرس الأعلام والألقاب والمذاهب والفرق والأماكن والبلدان

- ‌مصادر ومراجع فهرس الأعلام

- ‌العلماء والباحثون الذين أسهموا في إنجاز مدونة أحكام الوقف الفقهية (حسب الترتيب الألفبائي)

- ‌أعضاء اللجنة العلمية (الحالية) لمنتدى قضايا الوقف الفقهية (المشرفة على مدونة أحكام الوقف)

- ‌أعضاء سابقون في اللجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية

الفصل: ‌رابعا: حكم توثيق الوقف

‌رابعًا: حكم توثيق الوقف

(1)

:

تقدم أن توثيق التصرفات عمومًا مشروع، ويبقى الكلام هنا بصورة أخص في حكم توثيق الوقف، وفي حكمه التكليفي وهو مخرج على حكم الأمر بالكتابة والإشهاد؛ لأن الوقف صورة من صور التصرفات التي يدخلها التوثيق، ويحتاجها الناس في معاملاتهم.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الأمر بالكتابة والإشهاد على قولين:

القول الأول: أن الأمر للندب؛ وذلك لأن الأمر بالكتابة والإشهاد في المبايعات والمداينات لم يرد إلا مقرونا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}

(2)

، ولم ينقل عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه أشهد في بياعاته، أو أمر بذلك، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم في عقود المداينات والأشرية والبياعات، وكذلك الفقهاء من بعدهم إلى يومنا هذا، كما أن الإشهاد مع كثرة البياعات سيؤدي إلى وقوع الحرج على الناس؛ فالأمر في الآية أمر إرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم، وهو ظاهر ما صرح به الأئمة الأربعة، وإليه ذهب أبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، والشعبي، والحسن وإسحاق، وجمهور الأمة من السلف والخلف.

كما أن القول بالندب هو قول أكثر الحنفية الذين فصلوا فيه على النحو الآتي:

فقال الجصاص: "لا يخلو قوله تعالى: {فاكتبوه} ، إلى قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

من أن يكون موجبًا للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها، وكان هذا حكمًا مستقرًا ثابتًا إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو أن يكون نزول الجميع معًا؛ فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة

(1)

وانظر: ذلك مختصرًا في: الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح:"توثيق"، 14/ 136 - 138 لأنَّهُ لا داعي لتفصيله هنا لدخول التوثيق بالوقف في عموم التوثيق للتصرفات المالية عمومًا.

(2)

سورة البقرة، آية 283.

ص: 148

والإشهار الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد؛ إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره، ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، وقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ؛ رجب الحكم بورودهما ما، فلم يرد الأمر بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب، وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم ينسخ منها شيء، لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبًا؛ لأنَّهُ جائز أن يريد أن الجميع ورد معا، فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبًا، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، وما روي عن ابن عمر أنه كان يشهد، وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على القليل؛ كله عندنا أنهم رأوه ندبًا لا إيجابًا.

وما روي عن أبي موسى: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد" فلا دلالة على أنه رآه واجبًا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها؟ ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها؛ وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص.

ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا منه غير واجب.

وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها واشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا وأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه

ص: 149

من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين؛ وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} ؛ مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية؛ وهو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فإنما أمر بذلك للمتدابنين"

(1)

.

وقال الكاساني: "

فدل أن الوصية جائزة وقوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ؛ ندبنا سبحانه وتعالى إلى الإشهاد على حال الوصية فدل أنها مشروعة

(2)

.

القول الثاني: أن الأمر للوجوب؛ لظاهر الأمر، وهو فعل ابن عمر، وبه قال الضحاك، وعطاء، وجابر بن زيد، والنخعي، وابن جرير الطبري.

كما ذهب بعض الحنفية للقول بأن الأمر للوجوب، فقد نقل برهان الدين بن مازه في المحيط البرهاني في الفقه النعماني عن: "فتاوي أهل سمرقند: ذكر أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد؛ لأن بدونه يخاف تلف المال وفي تلف الأموال تلف الأبدان، وحرام على الآدمي إتلاف البدن، فيفرض عليه الإشهاد الذي هو طريق الصيانة، إلا إذا كان شيئًا حقيرا لا يخاف عليه التلف، وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب، وليس بفرض، وهذا القائل يحمل الأمر المذكور في كتاب الله تعالى نحو قوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(3)

، ونحو قوله:

(4)

{وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} .. على الندب"

(5)

.

(1)

أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص، 4/ 584 - 585.

(2)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، نشر دار الكتب العلمية، ط 1406 هـ / 1986 م، 7/ 330.

(3)

سورة البقرة، آية 282.

(4)

سورة الطلاق، آية 2.

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مارد البخاري الحنفي، تحقيق: عبد الكريم سامي الجندي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ، 9/ 2.

ص: 150

وقال ابن بطال: "الإشهاد واجب في الوقف، ولا يتم إلَّا به، وقال المهلب: إذا لم يبين الحدود في الوقف، إنما يجوز إذا كانت الأرض معلومة يقع عليها، ويتعين به كما كان بيرحاء وكالمخراف معينًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينًا، وكانت له مخاريف وأموال كثيرة فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف في هذا"

(1)

.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن مذهب الإمام أبي حنيفة هو أكثر المذاهب اهتماما بعلم التوثيق، والذي يعرف أيضًا بعلم الشروط

(2)

، بل مذهبه أسبق المذاهب إليه، فقال السرخسي:"وأبو حنيفة رحمه الله سبق العلماء رحمهم الله ببيان علم الشروط، وبذلك يستدل على أن مذهبه أقوى المذاهب"

(3)

، وقال حاجي خليفة في كشف الظنون: "ذكر الجرجاني في ترجيح مذهب أبي حنيفة: أن الشروط لم يسبقه إليه أحد

(4)

.

وقال السرخسي: "اعلم بأن علم الشروط من آكد العلوم، وأعظمها صنعة، فإن الله تعالى أمر بالكتاب في المعاملات، فقال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

(5)

، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالكتاب في المعاملة بينه وبين من عامله، وأمر بالكتاب فيما قلد فيه عماله من الأمانة وأمر بالكتاب في الصلح فيما بينه وبين المشركين، والناس تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بعلم الشرط، فكان من آكد العلوم وفيه المنفعة من أوجه: أحدها:

(1)

عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي بدر الدين العيني، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 14/ 59.

(2)

انظر: مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405، 2/ 557، وأبجد العلوم، صديق حسن خان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/ 329.

(3)

المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 30/ 168.

(4)

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي القسطنطيني المشهور باسم حاجي خليفة، نشر مكتبة المثني، بغداد، 1941 م، 2/ 1046.

(5)

سورة البقرة، آية 282.

ص: 151

صيانة الأموال، وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها، والثاني: قطع المنازعة فإن الكتاب يصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليه عند المنازعة فيكون سببًا التسكين الفتنة، ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن يخرج الكتاب وتشهد الشهود عليه بذلك فيفتضح في الناس، والثالث: التحرز عن العقود الفاسدة؛ لأن المتعاملين ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب، والرابع: رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الكتاب لا يبقى لواحد منهما ريبة، وكذلك بعد موتهما تقع الريبة لوارث كل واحد منهما بناء على ما ظهر من عادة أكثر الناس في أنهم لا يؤدون الأمانة على وجهها فعند الرجوع إلى الكتاب لا تبقى الريبة بينهم

(1)

.

(1)

المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 30/ 167 - 168.

ص: 152