الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: حكم توثيق الوقف
(1)
:
تقدم أن توثيق التصرفات عمومًا مشروع، ويبقى الكلام هنا بصورة أخص في حكم توثيق الوقف، وفي حكمه التكليفي وهو مخرج على حكم الأمر بالكتابة والإشهاد؛ لأن الوقف صورة من صور التصرفات التي يدخلها التوثيق، ويحتاجها الناس في معاملاتهم.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الأمر بالكتابة والإشهاد على قولين:
القول الأول: أن الأمر للندب؛ وذلك لأن الأمر بالكتابة والإشهاد في المبايعات والمداينات لم يرد إلا مقرونا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}
(2)
، ولم ينقل عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه أشهد في بياعاته، أو أمر بذلك، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم في عقود المداينات والأشرية والبياعات، وكذلك الفقهاء من بعدهم إلى يومنا هذا، كما أن الإشهاد مع كثرة البياعات سيؤدي إلى وقوع الحرج على الناس؛ فالأمر في الآية أمر إرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم، وهو ظاهر ما صرح به الأئمة الأربعة، وإليه ذهب أبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، والشعبي، والحسن وإسحاق، وجمهور الأمة من السلف والخلف.
كما أن القول بالندب هو قول أكثر الحنفية الذين فصلوا فيه على النحو الآتي:
فقال الجصاص: "لا يخلو قوله تعالى: {فاكتبوه} ، إلى قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
…
من أن يكون موجبًا للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها، وكان هذا حكمًا مستقرًا ثابتًا إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو أن يكون نزول الجميع معًا؛ فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة
(1)
وانظر: ذلك مختصرًا في: الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح:"توثيق"، 14/ 136 - 138 لأنَّهُ لا داعي لتفصيله هنا لدخول التوثيق بالوقف في عموم التوثيق للتصرفات المالية عمومًا.
(2)
سورة البقرة، آية 283.
والإشهار الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد؛ إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره، ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، وقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ؛ رجب الحكم بورودهما ما، فلم يرد الأمر بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب، وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم ينسخ منها شيء، لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبًا؛ لأنَّهُ جائز أن يريد أن الجميع ورد معا، فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبًا، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، وما روي عن ابن عمر أنه كان يشهد، وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على القليل؛ كله عندنا أنهم رأوه ندبًا لا إيجابًا.
وما روي عن أبي موسى: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد" فلا دلالة على أنه رآه واجبًا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها؟ ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها؛ وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص.
ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا منه غير واجب.
وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها واشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا وأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه
من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين؛ وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} ؛ مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية؛ وهو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فإنما أمر بذلك للمتدابنين"
(1)
.
وقال الكاساني: "
…
فدل أن الوصية جائزة وقوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ؛ ندبنا سبحانه وتعالى إلى الإشهاد على حال الوصية فدل أنها مشروعة
(2)
.
القول الثاني: أن الأمر للوجوب؛ لظاهر الأمر، وهو فعل ابن عمر، وبه قال الضحاك، وعطاء، وجابر بن زيد، والنخعي، وابن جرير الطبري.
كما ذهب بعض الحنفية للقول بأن الأمر للوجوب، فقد نقل برهان الدين بن مازه في المحيط البرهاني في الفقه النعماني عن: "فتاوي أهل سمرقند: ذكر أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد؛ لأن بدونه يخاف تلف المال وفي تلف الأموال تلف الأبدان، وحرام على الآدمي إتلاف البدن، فيفرض عليه الإشهاد الذي هو طريق الصيانة، إلا إذا كان شيئًا حقيرا لا يخاف عليه التلف، وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب، وليس بفرض، وهذا القائل يحمل الأمر المذكور في كتاب الله تعالى نحو قوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
(3)
، ونحو قوله:
(4)
{وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} .. على الندب"
(5)
.
(1)
أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص، 4/ 584 - 585.
(2)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، نشر دار الكتب العلمية، ط 1406 هـ / 1986 م، 7/ 330.
(3)
سورة البقرة، آية 282.
(4)
سورة الطلاق، آية 2.
(5)
المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مارد البخاري الحنفي، تحقيق: عبد الكريم سامي الجندي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ، 9/ 2.
وقال ابن بطال: "الإشهاد واجب في الوقف، ولا يتم إلَّا به، وقال المهلب: إذا لم يبين الحدود في الوقف، إنما يجوز إذا كانت الأرض معلومة يقع عليها، ويتعين به كما كان بيرحاء وكالمخراف معينًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينًا، وكانت له مخاريف وأموال كثيرة فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف في هذا"
(1)
.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن مذهب الإمام أبي حنيفة هو أكثر المذاهب اهتماما بعلم التوثيق، والذي يعرف أيضًا بعلم الشروط
(2)
، بل مذهبه أسبق المذاهب إليه، فقال السرخسي:"وأبو حنيفة رحمه الله سبق العلماء رحمهم الله ببيان علم الشروط، وبذلك يستدل على أن مذهبه أقوى المذاهب"
(3)
، وقال حاجي خليفة في كشف الظنون: "ذكر الجرجاني في ترجيح مذهب أبي حنيفة: أن الشروط لم يسبقه إليه أحد
(4)
.
وقال السرخسي: "اعلم بأن علم الشروط من آكد العلوم، وأعظمها صنعة، فإن الله تعالى أمر بالكتاب في المعاملات، فقال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}
(5)
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالكتاب في المعاملة بينه وبين من عامله، وأمر بالكتاب فيما قلد فيه عماله من الأمانة وأمر بالكتاب في الصلح فيما بينه وبين المشركين، والناس تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بعلم الشرط، فكان من آكد العلوم وفيه المنفعة من أوجه: أحدها:
(1)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي بدر الدين العيني، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 14/ 59.
(2)
انظر: مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405، 2/ 557، وأبجد العلوم، صديق حسن خان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/ 329.
(3)
المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 30/ 168.
(4)
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي القسطنطيني المشهور باسم حاجي خليفة، نشر مكتبة المثني، بغداد، 1941 م، 2/ 1046.
(5)
سورة البقرة، آية 282.
صيانة الأموال، وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها، والثاني: قطع المنازعة فإن الكتاب يصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليه عند المنازعة فيكون سببًا التسكين الفتنة، ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن يخرج الكتاب وتشهد الشهود عليه بذلك فيفتضح في الناس، والثالث: التحرز عن العقود الفاسدة؛ لأن المتعاملين ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب، والرابع: رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الكتاب لا يبقى لواحد منهما ريبة، وكذلك بعد موتهما تقع الريبة لوارث كل واحد منهما بناء على ما ظهر من عادة أكثر الناس في أنهم لا يؤدون الأمانة على وجهها فعند الرجوع إلى الكتاب لا تبقى الريبة بينهم
(1)
.
(1)
المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 30/ 167 - 168.