الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: انتهاء الوقف بقلة غلته:
إذا كان الوقف عامرًا غير خرب، ولكن صارت غلته قليلة، لا سيما في الوقف الأهلي، حيث تصير حصة كل شخص من أفراد الموقوف عليهم ضئيلة وتافهة لا يؤبه بها، ولم يمكن الاستبدال به، ولم يكن الموقوف عليه مسجدًا، فهل ينتهي الوقف بذلك، وكيف ينتهي؟
لم يتعرض أكثر الفقهاء لهذه الحالة، وإنما ذكره الحنابلة؛ فقال ابن قدامة الحنبلي:"إن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية، لكن قلّت، وكان غيره أنفع منه وأكثر ردًا على أهل الوقف؛ لم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف من الضياع، مع إمكان تحصيله ومع الانتفاع وإن قلَّ ما يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حدٍّ لا يعد نفعًا، فيكون وجود ذلك كالعدم"
(1)
.
وهذا الكلام غاية ما يدل عليه: أن التصرف بهذا الوقف بالبيع الذي يعود بالنفع على جهة مماثلة أو مناظرة للوقف أو في وجوه الخير؛ ولأن "ما قارب الشيء يعطى حكمه"
(2)
؛ ولعدم تحقيق المقصود من الوقف، وربما تكون المصاريف أو النفقات أكثر من الغلة الناتجة، ومنها نفقات التحصيل.
وإذا انتهى الوقف بذلك فيمكن أن تصرف الغلة إلى جهة مماثلة؛ كالمسجد، والثغر، والقنطرة، والبئر، أو لمصلحة إسلامية، أو لأقرب الناس إلى الوقف.
وعند الشافعية: إن وقف نخلة فانقلعت أو يبست، أو وقف مسجدًا فانكسرت خشبة منه .. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز بيعها.
والثاني: يجوز بيعها؛ لأن منفعتها بطلت، فكان بيعها أولى من تركها
(3)
.
(1)
المغني، ابن قدامة، 5/ 634، والمناقلة بالأوقاف، ابن قاضي الجبل، 32.
(2)
مواهب الجليل، الحطاب، 4/ 389.
(3)
انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي، يحيى العمراني، دار المنهاج، جدة، 8/ 99.
وللحنفية في هذه المسألة تفصيل بيانه فيما يأتي:
إذا كان الوقف عامرًا غير خرب، ولكن صارت غلته قليلة، لا سيما في الوقف الأهلي، حيث تصير حصة كل شخص من أفراد الموقوف عليهم ضئيلة وتافهة لا يؤبه بها، ولم يمكن الاستبدال به، ولم يكن الموقوف عليه مسجدًا، فهل ينتهي الوقف بذلك، وكيف ينتهي؟
هذه الحالة أدرجها الحنفية ضمن وجوه استبدال الوقف الثلاثة.
قال ابن عابدين: "والثالث: أن لا يشترطه أيضًا - أي لم يشترط الواقف الاستبدال - ولكن فيه نفع في الجملة، وبدله خير منه ريعًا ونفعًا"
(1)
.
وللحنفية في ذلك اتجاهان:
الأول: يجوز استبدال الوقف ببيع ونحوه إذا ضعف وقلَّ ريعه.
وهو مذهب أبي يوسف، ونقله في لسان الحكام عن محمد أيضًا، كما سيأتي، وفي فتاوى قارئ الهداية: وعليه العمل، ونقل ابن عابدين عن فتواي قارئ الهداية: أنَّ عليه الفتوى.
الثاني: لا يجوز استبداله ببيع ونحوه، وعليه الفتوى.
قال ابن نجيم: "وذكر محمد في السير الكبير مسألة تدل على عدم جواز الاستبدال بالوقف"
(2)
، وقال ابن عابدين:"على الأصح المختار"، وقال ابن الهمام:"ينبغي ألا يجوز"، وقال صدر الشريعة عن المذهب الأول:"ونحن لا نفتي به".
(1)
رد المحتار على الدر المختار ("الدر المختار للحصكفي شرح تنوير الأبصار للتمرتاشي" بأعلى الصفحة، يليه مفصولًا بفاصل "حاشية ابن عابدين" عليه المسمى "رد المحتار")، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي المشهور بابن عابدين، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 1412 هـ/ 1992 م، 4/ 384، وانظر: فتح القدير (بأعلى الصفحة كتاب الهداية" للمرغيناني يليه مفصولًا بفاصل "فتح القدير" الكمال بن الهمام وتكملته "نتائج الأفكار" لقاضي زاده)، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بـ "ابن الهمام"، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة، 1916 م، 6/ 228.
(2)
البحر الرائق، ابن نجيم، 5/ 224.
ويبدو أن في المفتى به في هذه المسألة خلاف، كما أشار إليه ابن عابدين نفسه، وتتضح الصورة أكثر بما سيأتي ذكره من نصوص فقهاء المذهب على النحو الآتي:
1 -
قال ابن نجيم: "نقل صدر الشريعة أن أبا يوسف يجوز الاستبدال بغير شرط إذا ضعفت الأرض عن الريع، ونحن لا نفتي به، وقد رأينا فيه من الفساد ما لا يعد ولا يحصى؛ فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أوقاف المسلمين، وفعلوا ما فعلوا"
(1)
.
2 -
وقال ابن الهمام: "وكذا أرض الوقف إذا قلَّ نزلها، بحيث لا تحتمل الزراعة ولا تفضل غلتها عن مؤنتها، ويكون صلاح الأرض في الاستبدال بأرض أخرى .. وفي نحو هذا من الأنصاري صحة الشرط، لكن لا يبيعها إلا بإذن الحاكم، وينبغي للحاكم إذا رفع إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف .. والحاصل أن الاستبدال إما عن شرطه (يعني الواقف)
…
أو لا عن شرطه، فإن كان لخروج الوقف عن انتفاع الموقوف عليهم به فينبغي أن لا يختلف فيه
…
وإن كان لا لذلك بل اتفق أنه أمكن أن يؤخذ بثمن الوقف ما هو خير منه مع كونه منتفعًا به، فينبغي أن لا يجوز؛ لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى؛ ولأنه لا موجب لتجويزه؛ لأن الموجب في الأول
(2)
الشرط، وفي الثاني الضرورة، ولا ضرورة في هذا؛ إذ لا تجب الزيادة فيه، بل تبقيته كما كان"
(3)
.
3 -
وفي فتاوى قارئ (الهداية) حين سُئل عن صورة الاستبدال؛ وهل هو قول أبي حنيفة وأصحابه؟ فقال: "إذا تعين بأن كان الموقوف لا ينتفع به، وثمَّ من يرغب فيه ويعطي بدله أرضًا أو دارًا لها ريع يعود نفعه إلى جهة الوقف، فالاستبدال في هذه الصورة قول أبي يوسف ومحمد، وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب إنسان في
(1)
النهر الفائق شرح كنز الدقائق، سراج الدين عمر بن إبراهيم بن نجيم الحنفي، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ./ 2002 م، 3/ 320.
(2)
أي الوجه الأول من وجوه الاستبدال الثلاثة التي ذكرها.
(3)
فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 228، والنهر الفائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 3/ 320.
استبداله إن أعطي مكانه بدلًا أكثر ريعًا منه، وفي صقع أحسن من صقع الوقف؛ جاز عند القاضي أبي يوسف، والعمل عليه، وإلا فلا. ا. هـ"
(1)
.
4 -
وفي لسان الحكام: "وفي المنتقى: قال هشام: سمعت محمدًا يقول: الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين؛ فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، وليس ذلك إلا للقاضي، وذكر في المنبع عن أبي يوسف أنه يجوز استبدال الأرض الموقوفة إذا تعطلت؛ لأن الأرض قد تخرب فلا تغل إلا بمؤنة تربو على قيمتها وغلتها، وفي البزازي ما هو أعلى من هذا، وهو ما روي عن محمد؛ أن أرض الوقف لو قل ريعها فللقيم أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضًا أخرى ريعها أكثر نفعًا للفقراء، فجوَّز استبدال الأرض بالأرض. ا. هـ"
(2)
.
5 -
قال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار: "مطلب لا يستبدل العامر إلا في أربع
(3)
…
الرابعة: أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة وأحسن صقعًا؛ فيجوز على قول أبي يوسف، وعليه الفتوى كما في فتاوى قارئ الهداية".
قال صاحب النهر في كتابه إجابة السائل قول قارئ الهداية والعمل على قول أبي يوسف معارَض بما قاله صدر الشريعة، نحن لا نفتي به، وقد شاهدنا في الاستبدال ما لا يعد ويحصى؛ فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة لإبطال أوقاف المسلمين، وعلى تقديره فقد قال في الإسعاف: المراد بالقاضي هو قاضي الجنة المفسر بذي العلم والعمل. ا. هـ، بينما قال العلامة البيري بعد نقله: أقول: وفي فتح القدير والحاصل أن الاستبدال إما
(1)
النهر الفائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم الحنفي، 3/ 320.
(2)
لسان الحكام في معرفة الأحكام، أحمد بن محمد بن محمد، أبو الوليد، لسان الدين بن الشِّحْنة الثقفي، البابي الحلبي - القاهرة، ط 2، 1393 هـ/ 1973 م، 296 - 297.
(3)
قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر، 163:"استبدال الوقف العامر لا يجوز إلا في مسائل الأولى: لو شرطه الواقف، الثانية: إذا غصبه غاصب، وأجرى الماء عليه حتى صار بحرًا لا يصلح للزراعة، فيضمنه القيم القيمة ويشتري بها أرضًا بدلا، الثالثة: أن يجحده الغاصب ولا بينة، وهي في الخانية، الرابعة: أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة وأحسن وصفًا، فيجوز على قول أبي يوسف رحمه الله كما في فتاوى قاري الهداية".
عن شرط الاستبدال أو لا عن شرطه، فإن كان لخروج الوقف عن انتفاع الموقوف عليهم فينبغي أن لا يختلف فيه، وإن كان لا لذلك بل اتفق أنه أمكن أن يؤخذ بثمنه ما هو خير منه مع كونه منتفعًا به فينبغي أن لا يجوز؛ لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة، ولأنه لا موجب لتجويزه؛ لأن الموجب في الأول الشرط وفي الثاني الضرورة، ولا ضرورة في هذا؛ إذ لا تجب الزيادة، بل نبقيه كما كان. ا. هـ، أقول: ما قاله هذا المحقق هو الحق الصواب. ا. هـ كلام البيري، وهذا ما حرره العلامة القنالي كما قدمناه
(1)
.
ثم بيَّن ابن عابدين أن صدر الشريعة إنما منع من الصورة الرابعة، وفسرها بقوله:"أي استبدال العامر إذا قل ريعه ولم يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو الصورة الرابعة"
(2)
.
6 -
وذكر ابن نجيم الأسباب المجوزة لبيع الوقف بعد لزومه، وذكر منها:"إما بشرط الاستبدال وهو صحيح على قول أبي يوسف المفتى به، أو بضعف غلته كما هو قولهما"
(3)
.
7 -
ونقل ابن عابدين عن صاحب البحر في رسالته في الاستبدال أن الخلاف في الثالث إنما هو في الأرض إذا ضعفت عن الاستغلال، بخلاف الدار إذا ضعفت بخراب بعضها ولم تذهب أصلًا، فإنه لا يجوز حينئذ الاستبدال على كل الأقوال، قال: ولا يمكن قياسها على الأرض؛ فإن الأرض إذا ضعفت لا يرغب غالبًا في استئجارها بل في شرائها، أما الدار فيرغب في استئجارها مدة طويلة لأجل تعميرها للسكنى
(4)
.
وعليه؛ فلو كثر أولاد الواقف وولد ولده ونسله حتى ضاقت الدار عليهم ليس لهم إلا سكناها تُقَسَّطُ على عددهم.
ولو كانوا ذكورًا وإناثًا إن كان فيها حجر ومقاصير كان للذكور أن يسكنوا نساهم معهم وللنساء أن يسكن أزواجهن معهن.
(1)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 388.
(2)
المرجع السابق، 4/ 388.
(3)
البحر الرائق، ابن نجيم، 6/ 98 - 99.
(4)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 385.