الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع المدة في إجارة الوقف
عند إبرام عقد إجارة الوقف فإننا نحتاج إلى تحديد زمن معيَّن لهذا العقد، شأنه شأن سائر العقود، إلا أن هناك سمة خاصة تمتاز بها إجارة الوقف عن إجارة الملك، وهي عبارة عن خصوصية الموقوف؛ إذ إن الأصل فيه يظل محبوسًا أبدًا، وأن المنفعة هي التي تسبل لله تعالى لينتفع منها، ولذلك فإن المدة التي تضرب في عقد إجارة الوقف يجب أن تحقق مصلحة الموقوف، فلا تؤدي إلى تلفه أو خرابه أو إلحاق أي ضرر به مهما كان.
وفي البحث حول مدة الإجارة الوقفية هناك حالات لا تقرر فيها مدة خاصة بهذا العقد، وحالات قدرت فيها المدة إلا أنه لم يلتزم بها مضافًا إلى بيان حكم الإجارة الطويلة وغيرها من المسائل المرتبطة بهذه المسألة، كالآتي:
المسألة الأولى: إذا تم تقييد إجارة الوقف بمدة زمنية
فهل يعني ذلك أنه لا يجوز أن تطلق الإجارة وأن التقييد لازمٌ؟ أم أنه يمكن إجارة الوقف دون تحديد المدة؟ فقد اختلف فيها الفقهاء على أقوال:
القول الأول: يجيز الإجارة بشكل مطلق دون الحاجة إلى بيان مدة ما سواء كان الموقوف ضيعة أي عقار أم غيرها، وقد اختص به الإمام نجم الدين الطرسوسي في فتاويه وأنه: يجب العمل بأقوال المتقدمين من الأصحاب رحمهم الله لوجوه؛ الأول: لوفرة علمهم واجتهادهم، الثاني: لقربهم من عصر الإمام - أي الإمام أبي حنيفة - والأئمة الأعلام، الثالث: لحسن نظرهم وقوة تحريهم للمسائل التي ليس فيها رواية منصوصة، الرابع: لأن ما قالوه موافق للأصل المعروف من أي المقادير لا تعرف إلا سماعًا لا مدخل للقياس فيها، الخامس: أن قولهم لا يخلو إما أن يكون عن رواية وهو الظاهر، أو ليس عن رواية لكنه موافق للقواعد والفروع والشواهد، وأما البحث عن بيان الرواية فلا قدرة لنا عليه؛ لأنها نقل، ولم نقف في ذلك على رواية منقولة عن الإمام ولا عن أبي يوسف ومحمد، وأما البحث عن أنه موافق للقواعد والفروع والشواهد فهو أن بيع المنافع كبيع الأعيان وهو أصلها، وفي بيع الأعيان لم
يحفظ للتقدير فيها مدة عن أحد من الأصحاب، ولا من أهل العلم فكذا في بيع المنافع لأنها فرعها فلا يرد السلم؛ لأنه خرج بالنص فلا يقاس عليه، السادس: أننا إن تنزلنا وقلنا: إن قول المتقدمين عن تخريج لا عن رواية فقد تأيد بموافقة من قال من المتأخرين وهم الأشياخ الأعلام، فهؤلاء كلهم توافقوا في القول بعدم التقرير ولا شك في أن الاجتماع الآراء قوة معتبرة
(1)
.
القول الثاني: فإنه يرى عدم جواز إجارة الوقف إلا لمدة محددة، وتقع باطلة إذا كانت مطلقة غير محددة المدة، فالإجارة عندهم جائزة إذا أجرها هو إلى وقت معلوم
(2)
، وهو الرأي المعتمد عند بعض أئمة المذاهب الأخرى، إذ إن المالكية والشافعية والزيدية لا يجيزون إجارة الوقف إلا لمدة محددة ويمنعون الإطلاق في المدة، فلا يجوز كراء الأحباس الغير أمد ولا يجوز لأمدٍ بعيد؛ لأنه لغير أمد كراء مجهول
(3)
، فيصح لمتولي الوقف تأجيره مدة معلومة تبقى فيها العين المؤجرة غالبًا؛ ليتم استيفاء المعقود عليه
(4)
.
أما الحنابلة فلم نعثر على نص لهم يتناول حكم عدم جواز إجارة الوقف لمدة غير محددة، إلا أنه يتبين أنهم يتناولون المدة وضرورة تحديدها؛ إذ يتحدثون عن مقدار المدة وما قد يشترطه الواقف من تحديد لها، كما في عبارات بعض فقهائهم
(5)
.
(1)
انظر: الفتاوى الطرسوسية (أو أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل)، نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد الطرسوسي، صححه وراجع نقوله للمرة الأولى: مصطفى محمد خفاجي، مطبعة الشرق، 1344 هـ./ 1926 م، 198.
(2)
انظر: أحكام الوقف، هلال بن يحيى بن سلمة، 206.
(3)
انظر: المعيار المغرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه مجموعة من الفقهاء، إشراف: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1401 هـ / 1981 م، 7/ 106.
(4)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 3/ 349، وانتاج المذهب لأحكام المذهب لأحمد العنيسي الزيدي، 3/ 324.
(5)
انظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، طبعة بولاق، القاهرة - مصر سنة 1254 و 1269 و 1283 هـ، 2/ 552.
وأما الإمامية فإن الكلام عندهم يقع في الإجارة لمدة معلومة معروفة الابتداء والانتهاء، وهذا يتضح من استقراء مسائل عديدة منشورة في مصادرهم الفقهية المعتبرة، وعليه فإنه إذا أجر العين الموقوفة البطن الأول من الموقوف عليهم في الوقف الترتيبي، وانقرضوا قبل انقضاء مدة الإجارة؛ فإنهم يرون أن الإجارة لا تصح بالنسبة إلى بقية المدة، ومحل الشاهد من هذه المسألة أنها تبين أن الإجارة يجب أن تكون لمدة معلومة ومحددة لا مطلقة؛ سواء كانت مدة قصيرة كاليوم أو طويلة كالسنين، تبدأ من الوقت المسمى في العقد، وإلا فمن وقت العقد
(1)
.
وأما الإباضية فلقد ورد في استفتاء وجه إلى مفتي الإباضية في عمان حول تأجير بيت لمدة أربعين عاما بأجرة ثابتة .. قوله: "لا مانع منه لأن للواقف أن يشترط في وقفه ما لا يخل بتعاليم الإسلام"
(2)
، ويقول الشيخ الخليلي في موضع آخر من فتاويه عن الإجارة: إن اتفق الجانبان على إكراه المحل التجاري إلى زمن محدود فالإكراء صحيح
(3)
.
وأما الظاهرية فورد في كتاب الإجارات من المحلى للإمام ابن حزم قوله: "ومن الإجارات ما لابد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط ولا يذكر فيه مدة كالخياطة والنسيج وركوب الدابة إلى مكان مسمَّى أو نحو ذلك، ومنها ما لابد فيه من ذكر المدة كسكني الدار وركوب الدابة ونحو ذلك، ومنه ما لابد فيه من الأمرين معًا كالخدمة ونحوها فلابد من ذكر المدة والعمل؛ لأن الإجارة بخلاف ما ذكرنا مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل"
(4)
.
(1)
انظر: مباني منهاج الصالحين، السيد تقي الطباطبائي القمي، 9/ 496، مسألة (81)، وتحرير المجلة، محمد حسين كاشف الغطاء، إشراف: محمد مهدي الآسفي، تحقيق: محمد الساعدي، قم - المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، مديرية النشر والمطبوعات، ط 1، 1424 هـ. / 2004 م، 2/ 89 - 91.
(2)
انظر: الفتاوى، الخليلي الكتاب الرابع، 213.
(3)
انظر: المرجع السابق، الكتاب الثالث، 264.
(4)
المحلى، ابن حزم الظاهري، مسألة (1288)، 7/ 4.