الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس انتهاء عقد إجارة الوقف
يتناول البحث أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف، وفق الآتي:
المسألة الأولى: أسباب انتهاء عقد إجارة الوقف
ينتهي عقد إجارة الوقف بأحد سببين: الأول: هو السبب الطبيعي وهو موت طرفي العقد أو أحدهما، والثاني: هو السبب العقدي أي انقضاء مدة العقد وفق الآتي:
السبب الأول: السبب الطبيعي:
وهو موت أحد طرفي العقد أو كليهما: فإذا مات طرفا العقد أو أحدهما فإن العقد لا ينقضي؛ حيث إن أي عقد ليس إلا اجتماع إرادتين على أمر لمدة معينة، ولما كان عقدًا لازمًا فإن مقتضى لزومه أن لا ينفسخ بالموت ويخلف المستأجِر وارثُه في استيفاء المنفعة، وقد اختلف فقهاء المذاهب في انتهاء إجارة الوقف بموت المتعاقدين أو أحدهما إلى قولين:
القول الأول: يرى أن إجارة الوقف لا تنتهي بموت المتعاقدين أو أحدهما ولا تنفسخ بهذا الموت، بل تبقى إلى انقضاء مدتها لأن الإجارة عقد لازم، ويخلف المستأجر وإرثه في استيفاء المنفعة:
وهذا في الجملة، وإليه ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والإمامية، والإباضية، وتفاصيل أقوال هذه المذاهب بقيودها ومحترزاتها على النحو الآتي:
قال المالكية: إذا مات المؤجر قبل تمام مدة الإجارة وكان من المستحقين فإن الإجارة تفسخ وذلك في باقي المدة سواء انتقل الاستحقاق إلى من في طبقة المؤجر أو إلى من يليه أو انتقاله إلى ولده لأن لمستحق الوقف التصرف مدة حياته ولذلك كان لوارثه الفسخ
(1)
، وإن قال بعضهم بعدم فسخ عقد الإجارة
(2)
، وإذا مات المؤجر
(1)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، مُحَمَّد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، 4/ 33، والنوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى - المسماة بالمعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب، أَبُو عيسى سيدي المهدي الوزاني، قابله وصححه على النسخة الأصلية: عمر بن عباد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المملكة المغربية، 1414 هـ/ 1998 م، 8/ 250، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، الجذامي السعدي المالكي، 2/ 861.
(2)
انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك (حاشية الصاوي)، الصاوي المالكي، 2/ 261.
قبل تمام مدة الإجارة ولم يكن المؤجر من المستحقين؛ فإن موته لا يؤثر على العقد ودوامه إلى مدته التي ضربت له
(1)
، أما إذا مات المستأجر فإن عقد الإجارة لا ينفسخ
(2)
، وهذا الحكم وارد في إجارة الملك أيضًا كما في إجارة الوقف.
وقال الشافعية: لا تنفسخ إجارة ناظر الوقف بموته سواء كان الناظر هو الواقف أو الحاكم أو منصوبه أو من شرط له النظر على بيع البطون لأنه ناظرٌ للجميع ولا يختص ببعض الموقوف عليهم
(3)
.
وإذا كان الناظر المتوفى ممن له حق في الوقف لكونه وقفًا عليه وأجر بدون أجرة المثل ومات خلال مدة عقد الإجارة فإن في هذه المسألة، حالتان: الأولى: إذا كان هذا الناظر قد شرط له النظر على جميع حصص المستحقين فإن فريقًا من الشافعية يرى أن الإجارة تنفسخ في حصته فقط ويبقى العقد ساريًا على أنصبة باقي الموقوف عليهم
(4)
، أما الفريق الآخر فيرى أن الإجارة لا تبطل؛ لأنه أجره في حق نفسه وحق غيره بولاية
(5)
(أي بسبب ولاية النظارة التي له)، أما الحالة الثانية فهي إذا شرط لهذا الناظر النظر على حصته فقط مدة استحقاقه وسواء كان هذا الناظر متعددًا أو متحدًا، فقد اختلفوا في المسألة على رأيين؛ أولهما: يرى أن الإجارة تنفسخ فيما بقي من مدة؛ إذ إن استحقاق الوقف قد انتقل بموت المؤجر لغيره، ولا ولاية له عليه ولا نيابة، وثانيهما أن الإجارة لا تنفسخ كما هي في إجارة الملك؛ فإن فيها لا تنفسخ
(1)
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدِّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب الرُّعيني، 5/ 434.
(2)
انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، الحطاب الرُّعيني، 5/ 434.
(3)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدِّين، مُحَمَّد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 356، وفتاوى الرملي، شهاب الدِّين أحمد بن حمزة الأنصاري الرملي الشافعي، جمعها: ابنه، شمس الدِّين مُحَمَّد بن أَبِي العباس أحمد بن حمزة شهاب الدِّين الرملي، المكتبة الإسلامية، 3/ 85، والفتاوى الكبرى الفقهية، الهيتمي، 3/ 242 - 243.
(4)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدِّين، مُحَمَّد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 356.
(5)
انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية، الهيتمي، 3/ 142.
بموت المؤجر وتبقى إلى انقضاء المدة لأنها عقد لازم، ويرجع الخلاف بين أصحاب هذين الرأيين إلى مسألة البطن الثاني من المستحقين، وهل أنهم يتلقون الوقف من الواقف أم من البطن الأول؛ فمن قال أنه يتلقى الوقف من الواقف فقد رأى انفساخ العقد
(1)
، أما إذا مات المستأجر فإنه لا ينفسخ العقد كما في إجارة الملك
(2)
.
وقال الحنابلة: يختلف حكم المسألة عند فقهاء الحنابلة بين ما إذا كان المؤجر هو الحاكم والناظر العام، في حال عدم وجود ناظر خاص أو من شرط له النظر وكان أجنبيًا، وبين حال ما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه، ففي حال ما إذا كان المؤجر فيها هو الناظر العام أو من شُرط له النظر ولو كان أجنبيًا، ومات أحدهما قبل انتهاء مدة الإجارة؛ فإن العقد لا ينفسخ بموته بالاتفاق
(3)
.
أما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه؛ فإما أن يكون هذا المؤجر الموقوف عليه مؤجرًا بأصل الاستحقاق؛ فلدى فقهاء الحنابلة رأيان:
1 -
الرأي الأول: إنّه إذا مات قبل تمام المدة فإن الإجارة تنفسخ، وهذا هو المذهب عندهم؛ لأن الطبقة الثانية تستحق العين بجميع منافعها تلقيًا عن الواقف بانقراض الطبقة الأولى، فلا حقَّ للأولى فيه بعد انقراضهم
(4)
.
2 -
الرأي الثاني: إن الإجارة لا تنفسخ؛ وذلك لأن الثاني لا حق له في العين إلا بعده، فهو بهذا كالوارث، وذكر بعضهم أن هذا الرأي هو المذهب، وهو أشهر، وعليه العمل
(5)
.
(1)
انظر: فتاوى الرملي، الرملي الشافعي، 3/ 86، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدِّين، مُحَمَّد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 5/ 356.
(2)
انظر: فتاوى الرملي، الرملي الشافعي، 3/ 85.
(3)
انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، المرداوي، 6/ 37، وتقرير القواعد وتحرير الفوائد، زين الدِّين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، 46.
(4)
انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي، 6/ 36، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، السيوطي، 3/ 618.
(5)
انظر: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، السيوطي، 3/ 618.
ومنشأ الخلاف بين الرأيين أنه إذا أجره مدة يعيش فيها غالبًا، وإلا فإن الإجارة تنفسخ قولًا واحدًا
(1)
.
فبناء على الرأي الأول فإن البطن الثاني يستحق حصته من الأجرة من تركة المؤجر إن كان قد قبضها، وإن لم يكن قبضها فعلى المستأجر، وبناء على الرأي الثاني فإن المستأجر يرجع على ورثة المؤجر القابض إن لم يكن له تركة، فإن كانت له فالرجوع يكون فيها
(2)
.
وإذا كان المؤجر هو الموقوف عليه وكان مشروطًا له النظر، أو كان الواقف قد تكلم بكلام يدل على أنه جعل النظر للموقوف عليه؛ فالمسألة لا تخلو من الآتي
(3)
:
1.
طريقة تفيد بعدم بطلان الإجارة بموته في المدة، وتلحق هذه الحالة بحالة الناظر العام ونحوه، وهو ما أفتى به المتأخرون؛ لأن الإيجار من الناظر هنا بولاية، ومن يلي بعده إنما يملك التصرف فيما لم يتصرف فيه الأول.
2.
إذا كان الموقوف عليه مؤجرًا بأصل الاستحقاق فإنه إذا مات قبل تمام المدة فإن الإجارة تنفسخ عند قوم، وعند آخرين لا تنفسخ.
3.
إذا مات المستأجر فإن الإجارة لا تنفسخ.
وعند فقهاء الإمامية فإن الإجارة لا تُبطل بموت المؤجر أو المستأجر إلا إذا أخذت خصوصية أحدهما في المنفعة؛ التي هي موضوع الإجارة، كما إذا آجر نفسه للعمل بنفسه أو استأجر الدار ليسكنها بنفسه؛ حيث يتعذر استيفاء المنفعة حينئذ، وذلك مبطل للإجارة، كما أنه لا أثر لموت الولي والوكيل الذي يتولى الإجارة
(4)
، فلو وقعت الإجارة صحيحة، ثمّ عرض لأحدهما الجنون أو فقد التمييز أو مات لم تبطل؛ لأن الأهلية شرط؛ حدوثًا لا استدامةً
(5)
.
(1)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي، 6/ 37 - 38.
(2)
انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي، 6/ 37 - 38.
(3)
انظر: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، السيوطي، 3/ 619.
(4)
انظر: منهاج الصالحين، السيد مُحَمَّد سعيد الحكيم، دار الصفوة، بيروت، ط 1، 1415 هـ/ 1994 م، 2/ 143.
(5)
انظر: تحرير المجلة، مُحَمَّد حسين كاشف الغطاء، 2/ 57.
وتناول فقهاء المذهب الإمامي فروعًا كثيرة منها: ما إذا كان المؤجر من البطن الأول من المستحقين، ثمّ مات في أثناء مدة الإجارة؛ فإنه على القول بعدم بطلان الإجارة بالموت؛ فإن في المسألة تردد أظهره البطلان، ويكون الخيار للبطن الثاني؛ بين الإجازة في الباقي من المدة وبين الفسخ فيه
(1)
.
أما لو كان المؤجر هو الناظر الذي هو من غير الموقوف عليهم؛ فإن كانت الإجارة قد راعت مصلحة الوقف فقط؛ فإنها تصح وتنفذ بالنسبة إلى سائر البطون، دون الحاجة إلى إجازتهم، أما لو وقعت مراعاة للبطن اللاحق دون أصل الوقف؛ فنفوذها بالنسبة إليهم دون إجازتهم محل إشكال
(2)
.
ويرون أن عقد الإجارة عقد لازم بلا خلاف ولا إشكال، فلا يبطل إلا بالتقابل أو بأخذ الأسباب المقتضية للفسخ، إلا أن هناك قولًا بأن الإجارة تبطل بالموت، كما أن هناك من يرى أنها تبطل بموت المستأجر، ولا تبطل بموت المؤجر، إلا أن الرأي الذي كان في صدر المسألة نسبته إليهم أجمع هو الأشهر بين متأخريهم
(3)
.
ويرى الإباضية أن عقد الإيجار واقع على منفعة العين المؤجرة والثمن عوض عن تلك المنفعة؛ لأن المستأجر لا يملك العين وإنما يملك المنفعة، فلو حيل بينه وبين استيفاء تامٍ لها لم يكن عليه من الثمن إلا بقدر ما استوفاه، فإذا أمكنه الانتفاع بالعين فيما اكتراها له لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة المعقود عليها لم تزل بالكلية
(4)
.
(1)
انظر: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلي أَبُو القاسم نَجْم الدِّين جعفر بن الحسن، مع تعليقات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، دار القارئ، بيروت - لبنان، ط 11، 1425 هـ/ 2004 م، 2/ 466.
(2)
انظر: هداية الأنام، مُحَمَّد حسين بن هاشم الكاظمي، مطبوع في النجف 1331 هـ، 2/ 248.
(3)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، مُحَمَّد حسن باقر النجفي، حققه وعلق عليه: عباس القوجاني، مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 7، 1981 م، 27/ 205 و 213.
(4)
انظر: الفتاوي، الخليلي، 3/ 254 - 255.
القول الثاني: يرى أن عقد الإجارة ينفسخ بموت العاقدين أو أحدهما:
وإليه ذهب الحنفية في الجملة، والظاهرية، والزيدية.
وقيَّد الحنفية هذا الحكم إذا كان قد عقدها لنفسه، أما إذا كان العاقد هو الحاكم أو نائبه أو الناظر؛ سواء كان الواقف أو من شرط له النظر وكان الوقف على غيره، فإنهم يذهبون إلى ما ذهب إليه القول الأول
(1)
، وقال الحنفية: إذا كان المؤجر غير الواقف فإن الإجارة لا تبطل بموته؛ سواء كان من المستحقين أم من غيرهم، وسواء كان هو القاضي أم أمينه
(2)
، قولًا واحدًا، وعلل ذلك في الإسعاف بأنها (أي الإجارة) وقعت للوقف، وأنها لا تنفسخ، كما في حالة موت الوكيل المؤجر أو القاضي
(3)
.
وإذا كان المؤجر هو الواقف فإن فقهاء الحنفية قد انقسموا في ذلك على رأيين؛ أحدهما: يرى أن في حكم هذه المسألة قياس إن غلبناه فلابدَّ أن نحكم ببطلان الإجارة، كما أن في حكمها استحسان إن أخذ به فلابدَّ من القول بعدم اقتضاء الإجارة، وبقائها إلى الوقت الذي سمَّاه الواقف
(4)
، أما الثاني في هذه المسألة فإن مفاده أن الإجارة لا تبطل بموت المؤجر الواقف؛ لأنه لم يؤاجرها بملك، إنما آجرها للوقف
(5)
.
وإذا مات المستأجر خلال مدة عقد الإجارة وقبل انقضائها فإن الإجارة تنفسخ، ويرجع ورثته بما عجل من الأجرة لما بقي من المدة على القابضين أو على من ضمن الدرك في الإجارة، وإذا استمروا على الانتفاع بالعين المستأجرة فعليهم أجرة المثل
(1)
انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدِّين الكاساني، دار الكتاب العربي، ط 1982 م، 4/ 222.
(2)
انظر: الفتاوي الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدِّين البلخي، 2/ 418، وفتاوى قاضيخان، محمود الأوزجندي، 3/ 335، وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، شهاب الدِّين الحسيني الحموي الحنفي، 4/ 388.
(3)
انظر: الإسعاف في أحكام الأوقاف، إبراهيم بن موسى بن أَبِي بكر ابن الشيخ علي الطرابلسي، 65.
(4)
انظر: الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدِّين البلخي، 2/ 418، وأحكام الوقف، هلال بن يَحْيَى بن سلمة، 206.
(5)
انظر: أحكام الأوقاف، الخصاف، 205.
إلى وقت الفسخ، فالإجارة هنا منتقضة؛ لأن المستأجر إنما أجرها لغيره فالإجارة جائزة، كما لو أن رجلًا قد وكلَّه آخر ليستأجر لآخر دارًا فمات الوكيل؛ فإن الإجارة جائزة إلى الأبد
(1)
.
وقال ابن حزم من الظاهرية في المحلى، وموت الأجير، أو موت المستأجر، أو هلاك الشيء المستأجر، أو عتق العبد المستأجر، أو بيع الشيء المستأجر من الدار أو العبد أو الدابة .. أو غير ذلك، أو خروجه عن ملك مؤجره بأي وجه خرج .. كل ذلك يبطل عقد الإجارة فيما بقي من المدة خاصة قلَّ أو كثر، وينفذ العتق والبيع والإخراج عن الملك بالهبة والإصداق والصدقة؛ برهان ذلك قول الله تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}
(2)
، وقول رسول الله:"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، وإذا مات المؤجر فقد صار ملك الشيء المستأجر لورثته أو للفقراء، إنما استأجر المستأجر منافع ذلك الشيء، والمنافع إنما تحدث شيئًا بعد شيء، فلا يحل له الانتفاع بنافع حادثة في ملك من لم يستأجر منه شيئًا قط، وهذا هو أكل المال بالباطل جهارًا، ولا يلزم الورثة في أموالهم عقد ميت قد بطل ملكه عن ذلك الشيء، ولو أنه آجر منافع حادثة في ملك غيره لكان ذلك باطلًا بلا خلاف، وهذا هو ذلك بعينه، وأما موت المستأجر فإن كان عقد صاحب الشيء معه لا مع ورثته؛ فلا حق له عند الورثة، ولا عقد له معهم، ولا ترث الورثة منافع لم تُخلق بعد ولا ملكها مورثهم قط، وهذا في غاية البيان، وهو قول الشعبي وسفيان الثوري والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي سليمان وأصحابهما، ومطرف ابن أَبِي شيبة، نا عبد الله بن أدريس الأودي، عن طمطرف بن طريف، عن الشعبي قال: ليس لبيت شرط، ومن طريف ابن أَبِي شيبة، نا عبد الصمد (هو ابن عبد الوارث) عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحكم بن عتيبة .. فيمن آجر داره عشر سنين فمات قبل ذلك؛ قال: تنتفي الإجارة، وقال مكحول: قال ابن سيرين وأياس بن معاوية: لا تنتقض، وقال
(1)
انظر: العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، ابن عابدين، 2/ 122، وأحكام الوقف، هلال بن يَحْيَى بن سلمة، 214 - 215.
(2)
سورة الأنعام، آية 164.
عثمان اللبثي ومالك والشافعي وأصحابهما: لا تنتفي إلا ببرهان، قلنا: صدقتم، ما احتجوا به أن قالوا: عقد الإجارة قد صحَّ، فلا يجوز أن ينتقض إلا ببرهان، قلنا: صدقتم، وقد جئناكم بالبرهان، وقالوا: فكيف تصنعون في الأحباس؟ قلنا: رقبة الشيء المحبس لا مالك لها إلا الله، وإنما المحبس عليهم المنافع فقط؛ فلا تنتقض الإجارة بموت أحدهم، ولا بولادة من يستحق بعض المنفعة، لكن إن مات المستأجر انتقضت الإجارة؛ لما ذكرنا من أن عقده قد بطل بموته ولا يلزم غيره؛ إذ النهى من القرآن قد أبطل ذلك بقوله عز وجل:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} ، فإن قالوا: قد ساقي رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود وملكها للمسلمين، وبلا شك فقد مات من المسلمين قوم ومن اليهود قوم والمساقاة باقية، قلنا: إن هذا الخبر حق، ولا حجة لهم فيه، بل هو حجة لنا عليهم؛ لوجوهٍ أربعةٍ:
أولها: أن ذلك العقد لم يكن إلى أجل محدود، بل كان مجملًا، يخرجونهم إذا شاءوا، ويقرونهم ما شاءوا، وليست الإجارة هكذا.
والثاني: إنّه إن كان لم ينقل إلينا تجديد عقده صلى الله عليه وسلم أو عامله الناظر على تلك الأموال مع ورثة من مات من يهود وورثه من مات من المسلمين، فلم يأت أيضًا ولا نُقل أنه اكتفى بالعقد الأول من تجديد آخر؛ فلا حجة لهم فيه ولا لنا، بل لا يشك في صحة تجديد العقد في ذلك.
والثالث: أنهم لا يقولون بما في هذا الخبر، ومن الباطل احتجاج قوم بخبر لا يقولون به على من يقول به، وهذا معكوس.
والرابع: أن هذا الخبر إنما هو في المساقاة والمزارعة، وكلامنا هنا في الإجارة، وهي أحكام مختلفة، وأول من يخالف بينهما، فالمالكيون والشافعيون المخالفون لنا في هذا المكان فلا يجيزان المزارعة أصلًا قياسًا على الإجارة، ولا يريان للمساقاة حكم الإجارة، فمن المحال ألا يقيسوا الإجارة عليهما وهم أهل القياس، ثمّ يلزموننا أن نقيسها عليها ونحن نُبطل القياس
(1)
.
(1)
انظر: المحلى، ابن حزم، 8/ 184 - 185.