الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حينئذٍ به دون النظر إلى الإرادة الخافية كمن يقول: وقفت أرضي هذه على أولادي الأحياء الآن دون غيرهم ودون أولاد أولادي، وقد يكون مكتنفًا بالغموض، ومحتملًا الأكثر من معنى، فتفسيره حينئذٍ استنادًا إلى قرائن الأحوال، ثم إلى العرف، فإن لم يوجد نية للواقف، كما لو قال: وقفت على أولادي وسكت، فإن لم يتحقق من نيته أخذ بمطلق اللفظ، فيشمل حينئذٍ الموجودين والذين سيولدون، والواضح أن مثل هذه القواعد إنما تجري مع تحقق عرف أو وجود قرينة حال، أو إمكان معرفة نية الواقف.
ج) المنازعة بين الموقوف عليهم من جهة، وبينهم وبين الورثة من جهة أخرى:
هناك نزاعات في الوقف تنشأ بين الموقوف عليهم أو بينهم وبين الورثة، وهي تنشأ في عمومها من ادعاء الوقف، أو من الاختلاف حول أعيان المستحقين؛ لأن النزاع حول مقدار الاستحقاق إنما يكون مع المتولي حينما يتهم بعدم إعطاء المستحق ما يستحقه من الغلة، وها نحن ذا نستعرض بعض صور هذا التنازع وحكمها.
ومما جاء في ذلك في كتب الحنفية ما يأتي:
قال الخصاف بعد أن ذكر صُورًا من التنازع في الأوقاف القديمة ونحوها، قال: "قلتُ: فإن تنازع في ذلك - يعني الوقف - قوم، فقال فريق منهم: هو لنا، وقال آخرون: هو لنا، وكل واحد من الفريقين يقول: وقفه فلان بن فلان علينا، وليس بينة تشهد على الوقف؟ قال: إن كان لفلان ورثة فأقروا أن صاحبهم وقف ذلك على شيء بينوه، جاز ذلك، وإلا حمل الذين تنازعوا فيه على التثبيت؛ فإن اصطلحوا على أخذه وليس لهم رسم في ديوان يعمل عليه استحسنت أن أنفذ ذلك لهم، وأقسم غلته بينهم، قلت: فما تقول إن أقر ورثة الواقف أنه وقف ذلك على أحد الفريقين، هل يجوز إقرارهم والشيء ليس في أيديهم، وإنما وجده القاضي في يدي أمين من أمناء القاضي الذي كان قبله؟ قال: أقبل قول الورثة وأجعله للفريق الذي أقروا لهم به دون الآخر.
قلتُ: فما تقول إن قال الورثة، لم يقفه صاحبنا، وهو ميراث لنا؟ قال: أحكم بموجبه
(1)
، قلت: فإن قالوا: إنما وقفه علينا وعلى أولادنا خاصة ثم من بعدنا على المساكين؟ قال: الوقف في أيدي القضاة، ولا يجوز أن أقبل قولهم فيما ليس في أيديهم، ألا ترى أن قول من كان هذا الوقف في يده: إن فلانًا وقفه .. ليس بإقرار أن فلانًا وقفه وهو مالك له، من قبل أن رجلًا لو كانت في يده ضيعة يزعم أنها له، فقال رجل: هذه الضيعة ضيعتي، وقفتها على المساكين، وأقام المدعي شاهدين أنه وقفها على المساكين لم يستحقها بهذه البينة، إلا أن يشهد له الشهود أنه وقفها وهو مالك لها فيأخذها من يده، ولو قال الذي في يديه: قد وقفها فلان هذا، ولكنها لي وفي ملكي، وليست لهذا؛ لم يكن قوله - بأن هذا وقفها - إقرارًا منه بأنها له؛ لأن الرجل قد يقف ما لا يملك.
قلت: فما تقول في قاضٍ صار إلى بلد من البلدان قاضيًا بين أهله، فأتاه رجل فقال: إني كنت أمينًا للقاضي الذي كان ههنا قبلك، وفي يدي ضيعة كذا وكذا كانت الرجل يُقال له: فلان بن فلان الفلاني؛ فوقفها على قوم معلومين سماهم؟ قال: إذا لم يعلم القاضي من أمر هذه الضيعة شيئًا غير ما أقرَّ به الرجل عنده قبل إقرار هذا الرجل، فإن كان لفلان بن فلان هذا ورثة، فالقول قولهم في هذه الضيعة، فإن أقروا أنها وقف على ما أقر به الرجل عنده أنفذ ذلك عليهم، وإن أنكروا أن يكون الميت وقفها وقالوا: هي ميراث بيننا، كان القول قولهم في ذلك.
قلت: فما تقول إن قال الرجل: كنت أمين القاضي في هذه الضيعة، وهذه الضيعة كانت لفلان فوقفها على كذا وكذا، وقال الورثة، بل وقفها علينا وعلى أولادنا ونسلنا ومن بعدنا على المساكين، والذي قاله الورثة خلاف ما قاله الرجل؟ قال: فالقول قول الورثة في ذلك، ويمضيه القاضي على ما أقروا به.
(1)
أي بموجب ما قالوه من أنها ليست بوقف، وحينئذ تكون ميراثًا، وسيأتي له ما يؤيده، كذا في هامش الأصل. كتبه مصححه، كذا في هامش الكتاب.
قلت: فإن قال الرجل الذي ادعى أنه أمين: في يدي هذه الضيعة وهي وقف على كذا وكذا، ولم يقل كانت لفلان وأن فلانًا وقفها؟ قال: يقبل القاضي قوله فيما في يده ويمضية على ذلك، وإنما يقبل القاضي قول الورثة إذا كان القاضي قبض هذه الضيعة على أنها ملك الرجل الذي يدَّعون أنه وقفها، فيكون القول في ذلك قول الورثة، وإن كان القاضي إنما قبض هذه الضيعة على تنازع كان بينهم فيها، ولم يقبضها على ملك الرجل الذي يقولون إنه وقفها؛ لم ينظر إلى قول الورثة في ذلك، وكان الأمر فيها على ما يوجد من رسمها في ديوان القاضي"
(1)
.
وقال الطرابلسي في الإسعاف: "ولو تنازع فيه قوم وادعى كل فريق أنه وقفه فلان بن فلان علينا وليس لهم بينة؛ فإن كان للواقف ورثة يرجع في البيان إليهم ويعمل بقولهم، وإن لم يكن الوقف في أيديهم بل كان في يد أمين القاضي الذي كان قبله، وإلا حملوا على التثبت، فإن اصطلحوا على أخذه وليس لهم رسم في ديوان القاضي ليعمل به؛ يستحسن تنفيذه وقسمة غلته بينهم، وإلا يصرف إلى الفقراء؛ لأنه بمنزلة اللُقَطة؛ لأنه مال تعذر إيصاله إلى مستحقه، ولو أنكر الورثة وقف مورثهم إياه وقالوا: هو ميراث لنا؛ كان ملكًا لهم، ولو قالوا: إنما وقفه علينا وعلى أولادنا خاصة ثم من بعدنا على المساكين؛ قال الخصاف: الوقف في أيدي القضاة، ولا يجوز أن أقبل قولهم فيما ليس في أيديهم، ومحمل قوله هذا على ما ذكر في آخر هذا الفصل؛
(1)
انظر: أحكام الأوقاف، أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 134 - 135، وللفائدة: فهنالك بعض صور المنازعة بين الموقوف عليهم والورثة في بقية المذاهب، انظر في هذه المصادر: العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ/1997 م، 13/ 101، وروضة الطالبين، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، 11/ 284، والحاوي في فقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ 1994 م، 17/ 88 وما بعدها، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب، زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري السنيكي، 9/ 339، والمغني، ابن قدامة، 10/ 207، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد الحطاب، 6/ 19.
ولو أتى القاضيَ رجلٌ وقال: إني كنت أمينًا لمن كان قبلك، وفي يدي ضيعة كذا، وهي وقف زيد بن عبد الله على جهة كذا؛ فإنه يرجع في أمرها إلى ورثة زيد، فإن ذكروا جهة تخالف قوله عمل بقولهم، وإن قالوا: هي وقف علينا وعلى أولادنا ثم من بعدنا على المساكين، أو قالوا: ليست بوقف، وإنما هي ميراث لنا عنه؛ عُمل بقولهم وقفًا وملكًا، ولو لم ينسب المقر الوقف إلى أحد، أو نسبه ولكن ليس للمنسوب إليه ورثة؛ فحينئذ يعمل القاضي بقول الأمين، ما لم يثبت عنده خلافه، ورجوع القاضي إلى قول الورثة وبيانهم مقيد بما إذا قبض القاضي الوقف على أنه كان ملك الرجل الذي يدعي المتنازعون فيه أنه وقفه، وأما إذا قبضه على نزاع وقع بينهم ولم يقبضه على أنه كان ملك الذي يدعون أنه وقفه؛ فإنه لا ينظر إلى قول الورثة فيه، وإنما يرجع فيه إلى ما يوجد من رسمه في ديوان القاضي الذي كان قبله، ويعمل به هذا محصل ما ذكره الخصاف
(1)
.
ومن صور بين الموقوف عليهم ما ذكره قاضيخان في الفتاوى: "وقف على نفر استولى عليه ظالم لا يمكن الانتزاع منه، فادعى أحد الموقوف عليهم على واحد منهم أنه باع الوقف من الغاصب وسلمه إليه، فأنكر المدعى عليه؛ فأراد المدعي تحليفه .. قال الفقيه أبو جعفر - رحمه الله تعالى - له ذلك، فإن نكل عن اليمين أو قامت عليه البينة يقضى عليه بقيمتها، ثم يشتري بتلك القيمة ضيعة أخرى فتكون على سبيل الوقف الأول؛ لأن العقار يضمن بالبيع والتسليم عند الكل؛ لأن البيع والتسليم استهلاك .. رجل باع أرضًا ثم ادعى أنه كان وقفها قبل البيع، فإذا أراد تحليف المدعى عليه؛ ليس له ذلك عند الكل؛ لأن التحليف بعد صحة الدعوى، ودعواه لم تصح، المكان التناقض"
(2)
.
(1)
انظر: الإسعاف في أحكام الأوقاف، برهان الدين إبراهيم الطرابلسي، 93 - 94.
(2)
انظر: الفتاوي الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وبهامشه فتاوي قاضيخان والفتاوي البزازية، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند الأعلام، دار صادر، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م، 3/ 200.
ومنها أيضًا: "رجل مات وترك ابنين، وفي يد أحدهما ضيعة يزعم أنها وقف عليه من أبيه، والابن الآخر يقول: هي وقف علينا .. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى: القول قول الذي يد عمي الوقف عليهما؛ لأنها تصادقا أنها كانت في يد أبيهما، وقال غيره: القول قول ذي اليد، والأول أصح"
(1)
.
ومما ورد في كتب الإمامية:
1 -
لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارًا ومن بعدهم على نسلهم، طولبوا بالبينة، ويكفي فيها شاهد ويمين عند الأكثر، فإن حلفوا مع شاهدهم قضي بها لهم، فلا يؤدي منه حينئذٍ دين ولا ميراث ولا وصية، فإذا انقرض المدعون معًا أو على التعاقب؛ فهل يأخذ البطن الثاني الدار من غير يمين؟ أو يتوقف على يمينهم؟ قولان.
ومستند التوقف أن البطن الثاني لا يندرج حقه في حق البطن الأول ليكون اليمين من الأولين مثبتًا لحقهم، واليمين إنما هي حجة شرعية في حق من يدعي الحق، لا أنها حجة لإثبات الشيء في نفس الأمر
(2)
.
واستدل لعدم التوقف بأن أفراد البطن الثاني يتلقون الوقف عن البطن الأول لا عن الواقف، وقد ثبت كونه وقفًا بحجة يثبت بها الوقف فيدوم، كما لو ثبت بالشاهدين؛ ولأنه حق ثبت لمستحق فلا يفتقر بعده إلى اليمين
(3)
.
2 -
ولو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارًا، ومن بعدهم على نسلهم، ونكلوا عن الحلف، فإنه يحكم بها ميراثًا، لكن يبقى نصيب المدعين وقفًا، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، دون نصيب غيرهم، فإذا مات الناكلون صرفت حصتهم إلى أولادهم على سبيل الوقف بغير يمين اتفاقًا؛ لأن الإقرار من ذي النصيب هنا كاف في ثبوت الوقف لهم، ولا وجه لليمين مع عدم المنازع؛ إذ الفرض
(1)
انظر: الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وبهامشه فتاوي قاضيخان والفتاوي البزازية، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند الأعلام، 3/ 201.
(2)
انظر: جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، 40/ 296.
(3)
انظر: المرجع السابق، 40/ 296.
هو إقرار أبيهم بما أصابه من نصيب الإرث، وليس لشركائهم مخاصمتهم في ذلك، وهل للأولاد أن يحلفوا على أن جميع الدار وقف؟ وجهان: من كون الأولاد تبعا لآبائهم فإذا لم يحلف الآباء لم يحلف الأبناء، ومن أنهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية، والأظهر الثاني؛ لأن حلف الأولاد يقتضي عدم انقطاع الوقف في الواقع، وإن انقطع لعارض حيث نكل الآباء؛ ولأن البطن الثاني كالأول في تلقي الوقف من الواقف؛ ولأن منع الثاني يؤدي إلى جواز إفساد البطن الأول الوقف عليه
(1)
.
3 -
ولو ترك الميت ثلاثة أبناء، فحلف واحد منهم على كون دار معينة وقفًا وقفه أبوه على أبنائه؛ ثبت نصيبه وقفًا، وكان الباقي مطلقًا بالنسبة إلى غير المدعي؛ تُقضى منه الديون وتُخرج الوصايا، وما فضل فهو ميراث للجميع حتى للحالفين؛ الاعتراف غيرهم من الورثة باشتراكه بينهم أجمع، وإن كان مدعي الوقف ظالمًا بأخذ حصته منه بيمينه
(2)
.
4 -
ولو ادعى ورثة الميت أن أباهم وقف عليهم دارًا وعلى ذريتهم على نحو التشريك، فالحلف على الجميع، ويحتاج الأولاد إلى يمين مستأنفة، فلا يُكتفى بيمين المدعين، وكل واحد إنما يثبت حقه بيمينه، بلا خلاف في ذلك ضرورة تلقي الجميع من الواقف، فلو وجد للحالف ولد بعد حلفه، فلا تثبت حصته إلا بيمينه؛ لأنه يتلقى عن الواقف كما لو كان موجودًا وقت الدعوى، فلو امتنع؛ فهل يعود نصيبه إلى شركائه لأنه يجري بامتناعه مجرى المعدوم؟ أو أنه يصرف إلى الناكل لاعتراف إخوته باستحقاقه؟ أو أنه يبقى وقفًا تعذَّر مصرفه فيرجع إلى الواقف أو ورثته؟ أقوال، والأظهر رجوعه إلى شركائه على نحو الوقف؛ فيدخل في الموقوف، لا على نحو الإرث
(3)
.
(1)
انظر: جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، 40/ 296 - 297.
(2)
انظر: المرجع السابق 40/ 296 - 297.
(3)
انظر: المرجع السابق، 40/ 300.
5 -
ولو ادعى بعض الورثة الوقف على الترتيب، وأثبتوا ذلك بشاهد ويمين، فادعى أولادهم أن الوقف هو على التشريك؛ فإن حلفوا وأقاموا شاهدا تشاركوا، ولهم حينئذ مطالبة آبائهم بحقهم من النماء من حين وجودهم، ويكون النزاع هنا بينهم وبين آبائهم، لا بينهم وبين الورثة الآخرين ممن لم يدع الوقف، فإن نكلوا خلص الوقف للأولين ما بقي منهم أحد.
وإن ادعى أولاد الأولاد التشريك وحلفوا قبل أن يحلف آباؤهم؛ كانوا خصومًا لهم ولغيرهم من الورثة، ونكول أولاد الأولاد لا ينفع آباءهم عند حلفهم؛ لأن الآباء لما ادعوا الاختصاص وحلفوا مع شاهدهم قُضي بالوقف لهم، فإذا نكل أولاد الأولاد لم يشاركوهم، وكان الوقف خاصًّا للأولين لا يشاركهم فيه أحد، ولو انعكس بأن حلف أولاد الأولاد دون الأولاد؛ أخذ أولاد الأولاد حقهم من التركة، وكان نصيب الأولاد ميراثًا
(1)
.
هذه جملة من صور المنازعة بين الموقوف عليهم، وبينهم وبين الورثة؛ تتبدَّي من خلالها أوجه التنازع من جهة، وآليات رفع الخصومة والحكم من جهة أخرى، وهي أبرز ما يمكن أن نقع عليه من صور التنازع في المقام.
(1)
انظر: جواهر الكلام، محمد الحسن النجفي، 40/ 300.