الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفيها:
ذهب قسم من النحاة إلى أن (كاد) إثباتها نفي، ونفيها إثبات، فإن قلت:(كاد يفعل) فمعناه: (لم يفعل) وإن قلت: (ما كاد يفعل) فمعناه أنه فعله بعد جهد، والدليل على ذلك قوله تعالى:{فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71].
وقيل هي إثباتها إثبات، ونفيها نفي، فإن معنى (كاد) مقاربة الفعل، فإذا قلت (كاد يفعل) فإنك أثبت المقاربة ولم تثبت الفعل، وإذا قلت (ما كاد يفعل) فإنك تنفي مقاربة الفعل أي لم يقارب الفعل، أي لم يفعله ولم يقرب من فعله، فهم متفقون في معنى الإثبات مختلفون في معنى النفي.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} [إبراهيم: 17].
"يتجرعه يتكلف جرعه (ولا يكاد يسيغه) دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون إلا ساعة كقوله: (لم يكد يراها) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها"(1).
وجاء فيه في قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} [النور: 40]، "مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها ومثله قول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي لم يقرب من البراح فماله يبرح؟ " (2).
وجاء في (الكامل) للمبرد في قوله تعالى {إذا أخرج يده لم يكد يراها} : "أي لم يقرب من رؤيتها وإيضاحه لم يرها ولم يكد (3) ".
(1) الكشاف 1/ 175
(2)
الكشاف 1/ 391
(3)
الكامل 1/ 167
وجاء في (الأشموني): "وإذا قال (لم يكد يبكي) فمعناه لم يقارب البكاء فمقاربة البكاء منتفية ونفس البكاء منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة .. وكذا قوله تعالى: {إذ أخرج يده لم يكد يراها} هو أبلغ في نفي الرؤية بخلاف من لم يقارب. وأما قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فكلام تضمن كلامين كل واحد منهما في وقت غير وقت الآخر، والتقدير فذبحوها بعد أن كانوا بعداء من ذبحها غير مقاربين له"(1).
وجاء في (دلائل الإعجاز): "وروى عن عنبسة أنه قال قدم ذو الرمة الكوفة فوقف يشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها:
هي البرء والأسقام والهم والمنى
…
وموت الهوى في القلب مني المبرح
وكان الهوى بالنأي يمحي فيمحي
…
وحبك عندي يستجد ويربح
إذا غير النأي المحبيبن لم يكد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة: يا غيلان أراه قدبرح: قال فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال:
إذا غير النأي المحبين لم أجد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
قال: فلما انصرفت حدثت أبي قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى:{ظلمت بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها} .
واعلم أن سبب الشبهة في ذلك أنه قد جرى العرف أن يقال: ما كاد يفعل، ولم يكد يفعل، في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيدًا في الظن أن يفعله كقوله تعالى {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فلما كان مجيء النفي في (كاد)
(1) الأشموني 1/ 268 - 269، الهمع 1/ 132، الرضي على الكافية 2/ 338 - 340، المغني 2/ 662، المقتضب 2/ 75، حاشية الخضري 1/ 125، التفسير القيم 383 وما بعدها، البرهان 4/ 136 - 137
على هذا السبيل توهم ابن شبرمة أنه إذا قال: لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح فقد زعم أن الهوى قد برح، ووقعه لذي الرمة مثل هذا الظن. وليس الأمر كما ظناه، فإن الذي يقتضيه اللفظ لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظن أنه يكون، وكيف بالشك في ذلك وقد علمنا أن (كاد) موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود وإذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده وأن يكون قولك: ما قارب أن مقتضيا على البت وأنه قد فعل. (1) ".
وقال ابن يعيش في قوله تعالى {إذا أخرج يده لم يكد يراها} : " قد اضطربت آراء الجماعة في هذه الآية، فمنهم من نظر إلى المعنى، وأعرض عن اللفظ، وذلك أنه حمل الكلام على نفي المقاربة، لأن كاد معناها قارب، فصار التقدير لم يقارب رؤيتها، وهو اختيار الزمخشري، والذي شجعهم على لك ما تضمنته الآية من المبالة، بقوله:{ظلمات بعضها فوق بعض} ..
والذي أراه أن المعنى أنه يراها بعد اجتهاد ويأس من رؤيتها، والذي يدل على ذلك قول تأبط شرًا:
فأبت إلى فهم وما كدت آئبا
والمراد ما كدت أؤوب كما يقال: سلمت وما كدت أسلم، ألا ترى أن المعنى أنه آب إلى فهم، وهي قبيلة، ثم أخبر أن ذلك بعد أن كاد لا يؤوب، وعلة ذلك أن (كاد) دخلت لإفادة معنى المقاربة في الخبر، كما دخلت (كان) لإفادة الزمان في الخبر، فإذا دخل النفي على كاد قبلها، كان، أو بعدها لم يكن، إلا لنفي الخبر كأنك قلت: إذا أخرج يده يكاد لا يراها فكاد هذه إذا استعملت بلفظ الإيجاب كان الفعل غير واقع، وإذا اقترن بها حرف النفي كان الفعل الذي بعدها قد وقع".
(1) دلائل الإعجاز 212 - 213
هذا مقتضى اللفظ فيها، وعليه المعنى والقاطع في هذا قوله تعالى:{فذبحوها وما كادوا يفعلون} وقد فعلوا الذبح بلا ريب" (1).
والذي يبدو لي، أن الرأي الذي ذكره ابن يعيش أرجح بدلالة قوله تعالى:{أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 52]، وهذا الكلام على لسان فرعون في موسى عليه السلام ولا شك أن موسي كان يبين بدلالة المحاجات المتعددة التي يذكرها القرآن مع فرعون، ولو ذهبنا إلى الرأي الأول لكان عليه السلام أبكم لا يبين ولا يقارب الإبانة. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى:{حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بينا وبينهم سدا، ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما} [الكهف: 93 - 95]، وهذه المحاورة تدل على أنهم يفقهون ولكن بصعوبة (2) وليس معنى الآية (لا يكادون يفقهون قولا) أنهم لا يفقهون ولا يقاربون الفقه، وإلا فما هذا الكلام والمحاورة بينهما؟
ويدل على ذلك قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فإنهم فعلوا الذبح.
ويمكن الجمع بين الرأيين بالقول إن الأصل ما ذكرناه، ويمكن أن يراد المعنى الأول بالقرائن وذلك كقوله تعالى:{إذا أخرج يده لم يكد يراها} وقوله (ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) فإن هاتين الآيتين يمكن حملهما على الوجه الأول، كما يمكن حملهما على الوجه الذي رجحناه.
وليست دلالة الجملة الواحدة على معنيين متغايرين أمرًا غريبا في اللغة فقد ذكر البيانيون أن كلمة (كل) مثلا: "إذا وقعت في حيز النفي موجهاً إلى الشمول خاصة وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد كقولك (ما جاء كل القوم ولم آخذ كل الدرهم) أي جاء بعض القوم وأخذت بعض الدراهم.
(1) ابن يعيش 7/ 124 - 125
(2)
انظر رسالة ابن كمال باشا في تحقيق معنى (كاد).