الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقديم والتأخير
تقول العرب: يجتهد زيد، وزيد يجتهد، وزيد مجتهد، ومجتهد زيد، وزيد في الدار، وفي الدار زيد، فما الغرض من ذلك ومتى نقول هذا التعبير أو ذاك؟ لقد ذكرنا في بحث تأليف الجملة العربية إن الأصل في الجملة التي مسندها فعل أن يتقدم الفعل على المسند إليه نحو (يقوم زيد) فأن تقدم المسند إليه على الفعل نظرنا في سبب هذا التقديم، كما إن الأصل في الجملة التي مسندها اسم أن يتقدم المسند إليه على الاسم أو بتعبير آخر أن يتقدم المبتدأ على الخبر نحو: زيد قائم، فأن تقدم الخبر على المبتدأ نظرنا في سبب ذلك، وهذا الأخير هو ما يعنينا الآن في هذا البحث، فما أسباب تقديم الخبر على المبتدأ:
1 - تقديم الخبر المفرد على المبتدأ:
الأصل كما ذكرنا قبل قليل أن يتقدم المبتدأ على الخبر (1) نحو (زيد قائم) و (أخوك نائم) و (محمد مسافر) فمتى نقول: قائم زيد ونائم أخوك ومسافر محمدٌ؟
إن تقدم الخبر على المبتدأ في نحو هذا إنما يكون لغرض من أغراض التقديم، وأشهر هذه الأعراض هي:
1 -
التخصيص: إذا كان المخاطب خالي الذهن مما ستخبره، قدمت له المبتدأ فتقول:(زيد) و (محمد منطلق) فهذا إخبار أولى لا يعلمه السامع. ولكن إذا كان السامع يظن أن زيدًا قاعد لا قائم، انبغي أن تقدم له الخبر لإزالة الوهم من ذهنه فتقول له: قائم زيد. فجملة (زيد قائم) أخبار أولى ولكن جملة (قائم زيد) تصحيح للوهم الذي في ذهن المخاطب، إذ كان يظن أن زيدا قاعد فتقول له:(قائم زيد) أي لا قاعد.
(1) الرضى على الكافية 1/ 93
جاء في (المثل السائر) في قولنا (زيد قائم) و (قائم زيد): "فقولك (قائم زيد) قد أثبت له القيام دون غيره وقولك (زيد قائم) أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه بأن تقول: ضارب أو جالس أو غير ذلك"(1).
وجاء في (الإيضاح): "وأما تقديمه - يعني المسند - فأما لتخصيصه بالمسند إليه كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}، [الكافرون: 6]، وقولك (قائم هو) لمن يقول: زيد أما قائم أو قاعد فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما، ومنه قولهم (تميمي أنا). وعليه قوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]، أي بخلاف خمور الدنيا فأنها تغتال العقول ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: 2]، لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى"(2).
وجاء في (الطراز): "فقولنا زيد منطلق إخبار لمن يجهل انطلاقه، وقولنا (منطلق زيد) إخبار لمن يعرف زيدًا وينكر إنطلاقه فتقديه إهتمام بالتعريف بإنطلاقه"(3).
وجاء فيه أيضا في تقديم خبر المبتدأ عليه في "نحو قولك: (قائم زيد)، في (زيد قائم) فأنت إذا أخرت الخبر فليس فيه إلا الأخبار بأن زيدًا قائم لا غير من غير تعرض لمعنى من المعاني البليغة بخلاف ما إذا قدمته وقلت: (قائم زيد)، فأنك تفيد بتقديمه أنه مختص بهذه الصفة من بين سائر صفاته في الأكل والضحك أو تفيد تخصيصه بالقيام دون غيره من سائر أمثاله وتفيد وجها آخر، وهو أنه يكون كلامًا مع من يعرف زيدًا وينكر قيامه فتقول: (قائم زيد)، ردًا لأنكار من ينكره"(4). ومن هذا الباب قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97] فقدم الخبر (شاخصة) على المبتدأ (أبصار) لقصد التخصيص جاء في (المثل السائر): "ومن غامض هذا الباب
(1) المثل السائر 2/ 38
(2)
الإيضاح 1/ 101
(3)
الطراز 2/ 31
(4)
الطراز 2/ 68
قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} ، فإنه إنما قال ذلك ولم يقل: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين:
أحدهما: تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها. أما الأول فلو قال: فإذا الأبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن يضع موضع شاخصة غيره فيقول: حائرة أو مطموسة أو غير ذلك فلما قدم الضمير أختص الشخوص بهم دون غيرهم. دل عليه بتقديم الضمير أولا ثم بصاحبه ثانيا" (1).
وجاء في (الطراز): "ومن رائق ذلك وبديعه قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} فإنما قدمه ولم يقل (أبصار الذين كفروا شاخصة) لأمرين:
أما أولاً: فلأنه إنما قدم الضمير في قوله (هي) ليدل به على أنهم مختصون بالشخوص دون غيرهم من سائر أهل المحشر.
أما ثانيا: فلأنه إذا قدم الخبر، أفادر إن الأبصار مختصة بالشخوص من سائر صفاتها من كونها حائرة، أو مطموسة أو مزورة إلى غير ذلك من صفات العذاب" (2).
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حضونهم من الله} [الحشر: 2]، فقد قام الخبر (مانعتهم) على المبتدأ (حصونهم) لنحو هذا الغرض. جاء في (المثل السائر): في هذه الآية: "فأنه إنما قال ذلك ولم يقل: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو (مانعتهم) على المبتدأ الذي هو (حصونهم) دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها وزيادة وثوقهم بمنعها أياهم. وفي تصويب ضميرهم اسما لأن إسناد الجملة إليه دليل على تقديرهم في أنفسهم أنهم في عزة وأمتناع لا يبالي معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرض. وليس شيء من ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله "(3).
(1) المثل السائر 2/ 43، وانظر البرهان 3/ 376
(2)
الطراز 2/ 96
(3)
المثل السائر 2/ 41، وانظر تفسير الكشاف 3/ 213