المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تخفيفها: تخفف إن وان ولكن وكأن فتكون لها أحكام خاصة بها - معاني النحو - جـ ١

[فاضل صالح السامرائي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الجملة العربية

- ‌عناصر الجملة العربية:

- ‌تأليف الجملة العربية:

- ‌صورة تأليف الجملة:

- ‌دلالة الجملة العربية:

- ‌1 - الدلالة القطعية والاحتمالية

- ‌2 - الدلالة الظاهرة والباطنة:

- ‌ظاهرة الإعراب

- ‌معاني الاعراب

- ‌الغرض من الاعراب:

- ‌‌‌النكرةوالمعرفة

- ‌النكرة

- ‌أغراض التنكير:

- ‌المعرفة

- ‌الضمير

- ‌ألفاظه ودلالاته

- ‌تاء التأنيث الساكنة هل هي ضمير

- ‌ضمير الفصل

- ‌ضمير الشأن

- ‌عود الضمير

- ‌عود الضمير على الجمع:

- ‌نون الوقاية

- ‌العلم

- ‌أقسامه

- ‌1 - المرتجل والمنقول:

- ‌2 - الاسم والكنية واللقب

- ‌الاسم واللقب:

- ‌ معنى الإضافة:

- ‌ معنى القطع:

- ‌ معنى الاتباع:

- ‌3 - علم الشخص وعلم الجنس

- ‌استخلاص الأوصاف من الأعلام

- ‌تنكيره

- ‌لمح الأصل

- ‌العلم بالغلبة

- ‌كنايات الأعلام

- ‌الوصف بابن وابنة

- ‌اسم الإشارة

- ‌أغراض الإشارة

- ‌ألفاظ الإشارة

- ‌ذا:

- ‌ذه وتلك:

- ‌هنا وثم:

- ‌ ها التنبيه

- ‌(هذا أنت)

- ‌أنت هذا:

- ‌ها أنت ذا وها أنا ذا:

- ‌كاف الخطاب

- ‌دخول كاف التشبيه على اسم الإشارة

- ‌هكذا:

- ‌كذلك:

- ‌المعرف بأل

- ‌أغراض التعريف بأل:

- ‌أقسام أل

- ‌أل العهدية:

- ‌أل الجنسية:

- ‌الاسم الموصول

- ‌أغراض التعريف بالاسم الموصول:

- ‌صلة الموصول

- ‌ الذي

- ‌الأسماء الموصولة

- ‌اللذان:

- ‌الذين:

- ‌الألى:

- ‌التي:

- ‌(اللاتي)

- ‌اللتان:

- ‌(ال

- ‌اللائي:

- ‌من:

- ‌ ما

- ‌الحمل على اللفظ والمعنى:

- ‌من وما والذي:

- ‌أي:

- ‌ذا

- ‌ذو:

- ‌حذف الاسم الموصول

- ‌حذف الصلة

- ‌المبتدأ والخبر

- ‌التقديم والتأخير

- ‌1 - تقديم الخبر المفرد على المبتدأ:

- ‌ب - تقديم الخبر الظرف والجار والمجرور:

- ‌حـ - تقديم المبتدأ على الفعل:

- ‌مثل وغير:

- ‌المبتدأ الذي له مرفوع أغني عن الخبر

- ‌تعريف المبتدأ والخبر

- ‌إعادة المبتدأ

- ‌المبتدأ النائب مناب الفعل

- ‌أنواع الخبر

- ‌الإخبار بالمصدر عن اسم الذات

- ‌الخبر النائب مناب الفعل

- ‌العموم في الخبر

- ‌تعدد الأخبار

- ‌الواو للاهتمام والتحقيق:

- ‌الأفعال الناقصة (كان وأخواتها)

- ‌ كان

- ‌معانيها واستعمالاتها

- ‌نفيها

- ‌1 - ما كان يفعل

- ‌2 - كان لا يفعل:

- ‌3 - ما كان ليفعل:

- ‌إضمارها

- ‌حذف نون كان المجزومة

- ‌صار

- ‌ظل وبات

- ‌أصبح، أضحى، أمسى

- ‌ما زال، ما برح، ما فتيء، ما أنفك

- ‌ما دام

- ‌التقديم والتأخير

- ‌ما يعرف به الاسم من الخبر

- ‌‌‌ليسوالمشبهات بها

- ‌ليس

- ‌ما:

- ‌الفرق بين ما وليس:

- ‌ إن

- ‌لا

- ‌لات:

- ‌الباء الزائدة:

- ‌العطف:

- ‌1 - العطف على المحل:

- ‌2 - عطف الجملة على الجملة

- ‌3 - العطف على المعنى:

- ‌‌‌أفعال الرجاءوالمقاربة والشروع

- ‌أفعال الرجاء

- ‌ عسى

- ‌حرى، أخلولق:

- ‌أفعال المقاربة:

- ‌ كاد

- ‌نفيها:

- ‌أوشك:

- ‌كرب

- ‌هلهل:

- ‌أفعال الشروع

- ‌ أخذ

- ‌طفق

- ‌قام

- ‌ جعل وأنشأ

- ‌ هب

- ‌ علق

- ‌الأحرف المشبهة بالفعل

- ‌ان

- ‌فتح وكسر إن:

- ‌ليت:

- ‌ليت شعري:

- ‌لعل:

- ‌لكن:

- ‌ كان

- ‌لام الابتداء:

- ‌إن واللام:

- ‌اجتماع إن واللام:

- ‌زيادة (ما) بعد الأحرف المشبهة بالفعل:

- ‌إنما وأنما:

- ‌كأنما:

- ‌ليتما:

- ‌لعلما ولكنما:

- ‌العطف على اسم أن بالرفع:

- ‌تخفيفها:

- ‌لا النافية للجنس

- ‌الفرق بينها وبين لا المشبهة بليس:

- ‌الفرق بين (لا) و (ما):

- ‌تقديم خبرها على اسمها:

- ‌اسم لا:

- ‌العطف على اسم (لا):

- ‌1 - رفع المتعاطفين:

- ‌2 - بناء المتعاطفين:

- ‌3 - بناء الأول ورفع الثاني:

- ‌4 - بناء الأول ونصب الثاني:

- ‌5 - رفع الأول ونصب الثاني:

- ‌نعت اسم لا:

- ‌لا جرم:

- ‌لا سيما:

الفصل: ‌ ‌تخفيفها: تخفف إن وان ولكن وكأن فتكون لها أحكام خاصة بها

‌تخفيفها:

تخفف إن وان ولكن وكأن فتكون لها أحكام خاصة بها وإليك تفصيل ذلك:

إنّ:

إذا خففت إن المكسورة الهمزة بطل اختصاصها بالأسماء، وجاز فيها إذا دخلت على الجملة الأسمية وجهان: الأهمال، والأعمال، تقول (إن محمدا منطلق) و (إن محمد لمنطلق) قال تعالى:{إن هذان لساحران} [طه: 63]، فإن دخلت على الجمل الفعلية أهملت وجوبا، وتلزمها اللام عند الإهمال فرقا بينها وبين إن النافية قال تعالى:{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقون} [الأعراف: 102]، وقال:{وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [يوسف: 3]، إلا إذا كان الخبر منفيا فيجيب حينذاك ترك اللام نحو قولك (إن خالد لن ينام) ومنه قوله:

إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة

وقد يستغنى عنها إذا كانت هناك قرينة معنوية تشير إلى معناها كقول الطرماح:

أنا ابن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

فإن معنى البيت واضح في مدح (مالك) و (إن) هنا بمعنى إن وليست نافية (1).

والكثير في (إن) المخففة إذا دخلت على جملة فعلية أن يكون فعلها من الأفعال الناسخة كقوله تعالى {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51]، وقوله:{وإن نظنك لمن الكاذبين} [الشعراء: 186]، وربما دخلت على غيره كقوله:

شلت يمينك أن قتلت لمسلما

(1) سيبويه 1/ 283، المقتضب 1/ 50، 2/ 363، التسهيل 65، ابن الناظم 72، ابن يعيش 8/ 71 - 72، الأشموني 1/ 289، الهمع 1/ 141، التصريح 1/ 230 - 231

ص: 343

وأجاز الكوفيون والأخفش وقوع أي فعل بعدها، قال ابن مالك:"ويقاس على نحو (إن قتلت لمسلما) وفاقا للكوفيين والأخفش"(1).

ومذهب الكوفيين أن (إن) لا تخفف وإن الخفيفة هذه " إنما هي حرف ثاني الوضع وهي النافية فلا عمل لها البتة، ولا توكيد فيها واللام بعدها للإيجاب بمعنى إلا "(2). فقولك (إن محمد قائم) معناه: ما محمد إلا قائم.

ويردهم أنها أعملت مع التخفيف قال سيبويه: " وحدثنا من نثق به انه سمع من العرب من يقول إن عمرا لمنطلق، وأهل المدينة يقرؤون {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} [هود: 111]، يخففون وينصبون كما كما قالوا: كأن ثدييه حقان"(3).

وذهب الفراء إلى أن (إن) المخففة بمنلزة (قد) إلا أن (قد) تختص بالأفعال و (إن) تدخل عليها وعلى الأسماء (4).

وجاء في (فقه اللغة) للثعالبي أن (إن الخفيفة بمعنى (لقد) كما قال جل ذكره {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} [يونس: 29]، أي ولقد كنا". (5)

وجاء في (لسان العرب) عن أبي زيد: "قال: وتجيء (إن) في موضع (لقد) ضرب قوله تعالى: {إن كان وعد ربنا لمفعولا} [الإسراء: 108]، المعنى: لقد كان من غير شك من القوم ومثله {وإن كادوا ليفتنوك} [الإسراء: 73]، و {وإن كادوا ليستفزونك} [الإسراء: 76] "(6).

(1) التسهيل 65، وانظر ابن يعيش 8/ 71 - 72

(2)

التسهيل 65 المغنى 1/ 37، ابن يعيش 8/ 71 - 72، الرضي على الكافية 2/ 397، الهمع 1/ 142، التصريح 1/ 231 - 232، شرح الدماميني على المغني 1/ 52

(3)

سيبويه 1/ 283، وانظر المغنى 1/ 24، 37، الرضي على الكافية 2/ 397

(4)

الهمع 1/ 142

(5)

فقه اللغة 532، وانظر تأويل مشكل القرآن (419)

(6)

لسان العرب (إنْ) 16/ 176

ص: 344

وأظن أن المقصود بقولهم أنها بمعنى (قد) أنها تفيد توكيد الجمل الفعلية إذا دخلت عليها لا أنها بمعنى (قد) تماما وذلك لأنها تختلف عنها.

فإن (قد) فيها معنى تقريب الفعل والتوقع، وإما أن هذه فلمخص التوكيد ليس فيها توقع أو تقريب. ثم إن الأكثر في (قد) إذا دخلت على المضارع أن تفيد التقليل بخلاف هذه التي لاتفيد غير التوكيد وذلك كقوله تعالى:{وإن يكاد الذي كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51].

قال الليث: " إذا وقعت إن على الأسماء والصفات (1) فهي مشدودة، وإذا وقعت على فعل أو حرف لا يتمكن في صفة أو تصريف فخففها، تقول: بلغني أن قد كان كذا، وكذا وتخفف من أجل (كان) لأنها فعل .. وهي مع الصفات مشددة إن لك وأن فيها وأن بك وأشباهها"(2).

وجاء في (التفسير الكبير) في (إن) هذه أنها " تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة (إن) المشددة كقولك: إن زيدًا لقائم، قال الله تعالى:{إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]، وقال:{إن كان وعد ربك لمفعولا} ومثله في القرآن كثير.

والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها والفرق بينها وبين التي للجحد" (3).

والذي يبدو لي أن (إنْ) المخففة هذه تختلف عن الثقيلة في توكيدها واستعمالها.

أما من حيث الاستعمال فهي تدخل على الجمل الفعلية والإسمية وذلك أنه قد يراد توكيد الحدث الفعلي فيؤتي بأن المخففة بخلاف (إنّ) التي لا تؤكد إلا الجمل الإسمية وذلك كقولك (أن كنا لفاعلين) و (أنا كنا فاعلين) فأنت تلحظ أن الأولى أكدت الحدث

(1) المقصود بالصفات هنا حروف الجر وهو مصطلح كوفي.

(2)

لسان العرب (إذن) 16/ 170 - 171

(3)

التفسير الكبير 4/ 118

ص: 345

الفعلي بخلاف الثانية فإن الاهتمام منصب على فاعل الحدث، وصاحبه لأعلى الحدث الفعلي.

إن (إنْ) المخففة تمكننا من إيقاع الجملة الفعلية في حيز التوكيد، كما تفعل (إنّ) مع الجمل الإسمية ولذلك هي تختلف عنها في استعمالها، وذلك بحسب الحاجة والقصد، فإن كنت ترمي إلى توكيد الحدث الفعلي، جئت بإن، وإن أردت توكيد الجملة الإسمية جئت بإن.

أما من حيث التوكيد فالذي يبدو لي أنها أقل توكيدًا من الثقيلة، والذي يدل على ذلك أمور منها:

1 -

أن تخفيف نونها يشير إلى تخفيف توكيدها مشبهة في ذلك نون التوكيد الخفيفة. وقد ذكر النحاة أن نون التوكيد الثقيلة آكد من الخفيفة، وهذه نظيرة تلك.

2 -

أنك لو لاحظت - مثلا - التعبيرين، أن كنت لفاعلا وإني كنت فاعلا، و (أن كنتم لمسرفون) و (أنكم كنتم مسرفين) لوجدت الفرق واضحا بينهما من حيث التوكيد فأنت تجد ضميرا واحدا مع الخفيفة هو (التاء) في الجملة الأولى (وتم) في الجملة الثانية في حين أنك تجد مع الثقيلة ضميرين هما: الياء والتاء في الجملة الأولى (كم) و (تم) في الجملة الثانية فالإسناد حصل مرتين مع الثقيلة بخلاف الخفيفة وذلك يشير إلى قوة التوكيد في الثقيلة كما هو واضح.

3 -

والذي يدل على أن الثقيلة آكد من الخفيفة استعمالها القرآني. قال تعالى في سورة يوسف {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 91 - 92]، وقال:{قالوا يا آبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} [يوسف: 97 - 98].

ص: 346

فأنت ترى إن أخوة يوسف قالوا لأخيهم (وإن كنا لخاطئين) بإن المخففة، وقالوا لأبيهم (إنا كنا خاطئين) بالثقيلة. وقد يتبادر إلى الذهن، إن هذا يدل على عكس ما ذهبنا إليه فإنهم مع من أساؤا إليه إساءة مباشرة جاؤا بالمخففة، ومع أبيهم جاؤا بالثقيلة، فكيف يدل هذا على صحة ما ذهبنا إليه؟

وللجواب عن ذلك نقول:

إن أخوة يوسف لما رأوا أباهم، وما حل به من جراء فعلتهم من الوهن واللوعة وحرقة الفؤاد وذهاب عينيه من الحزن، دعاهم ذلك إلى توكيد الاعتذار والاعتراف بالخطيئة بخلاف حالة أخيهم، فإن الله أكرمه بعدهم وبوأه مكانة عالية ومكن له في الأرض، وكأن فعلتهم تلك عادة عليه بالخير والرفعة بعكس ما جرت على أبيهم فهناك فرق بين الحالتين فكان الشعور بالخطيئة مع والدهم أكبر وأعظم فقالوا ما قالوا.

والذي يدل على ذلك السياق القرآني فإن يوسف دعا لهم بالمغفرة، من دون أن يسألوها منه قال {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} .

وأما أبوهم فلم يستغفر لهم من طلبهم الاستغفار منه، وإنما وعدهم بالاستغفار:{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} فوعدهم بالاستغفار في المستقبل ثم انظر كيف جاء بـ (سوف) لا بالسين، و (سوف) أبعد في الاستقبال من السين مما يدل على عمق الأثر في نفسه.

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الأعراف: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} [65 - 69].

ص: 347

وقوله في سورة الشعراء: {قالوا إنما أنت من المسخرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذا يوم عظيم} [185 - 189].

فأنت ترى أنه قال في سياق آيات الأعراف: {وإنا لنظنك من الكاذبين} . وفي سياق آيات الشعراء: {وإن نظنك لمن الكاذبين} .

ويظهر سياق الآيات أن التكذيب في آيات الأعراف أشد منه في آيات الشعراء، والذي يوضح ذلك أه في آيات الأعراف قال:{قال الملأ الذين كفروا من قومه} بخلاف آيات الشعراء فإنه قال: {قالوا إنما أنت من المسحرين} .

وأنت ترى الفرق بين القائلين، ففي الآيات الأولى قول الملأ الذين كفروا، والقائلون في الآيات الثانية مختلطون فإن فيهم الشديد التكذيب والقليل والأمعة والخائف فهو تكذيب مختلط لا يصل إلى تكذيب الذي كفروا خصوصا. والذي يدل على ذلك قوله تعالى بعد آيات الشعراء:{إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} أي أن فيهم قلة مؤمنة فهو نسب الكلام في آيات الشعراء إلى أصحاب الأيكة عموما بخلاف آيات الأعراف فإنه نسب الكلام إلى الذين كفروا خاصة.

ثم انظر إلى السياق مرة أخرى وكيف تعقب الرسول كلام قومه بعد كل من الآيتين يتبين لك ما ذكرته واضحًا، فإن هودا عليه السلام رد على قومه بآيات عدة (قال يا قوم ليس بي سفاهة .. إلخ) بخلاف آية الشعراء فإنه لم يزد على قوله (قال ربي أعلم بما تعملون).

ومن هنا يتبين الفرق واضحًا بين التعبيرين، فدل ذلك على أن (إنّ) الثقيلة آكد من الخفيفة.

ص: 348

أن:

تخفف (أنّ) كما تخفف (إنّ)، وعند الجمهور أنها إذا خففت لا تلغى، ولا يظهر اسمها إلا للضرورة كقول الشاعر:

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق

ولا يجيء خبرها إلا جملة واسمها ضمير الشأن محذوف، وذلك نحو قولك: علمت أن سوف يحضر سعيد والتقدير (أنه). (1)

جاء في (الكتاب): " ومن ذلك والخامسة أن غضبُ الله عليها فكأنه قال: أنه غضبُ الله عليها لا تخففها في الكلام أبدًا وبعدها الأسماء، إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرًا فيها الاسم ..

والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار الهاء، أنك تستقبح قد عرفت أن يقول ذاك حتى تقول (أن لا) أو تدخل سوف أو السين أو قد، ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعا بعدها، كما تذكره بعد هذه الحروف كما تقول: إنما تقول ولكن تقول" (2).

ومذهب الكوفين أنها لا تعمل شيئا. (3)

والصواب أنها قد تعمل وقد ورد شيء من ذلك كما ذكرنا في قوله (فلو أنك).

ويذكر النحاة وجه الاختلاف بينها وبين أن الخفيفة الناصبة للأفعال بأن (أنْ) المخففة من الثقيلة تفيد التحقيق، واليقين، بخلاف الناصبة فإنها لا تدل على اليقين.

(1) التسهيل 65 - 66، ابن الناظم 72، المغنى 1/ 31، ابن يعيش 8/ 72 - 73، ابن عقيل 1/ 139، التصريح 1/ 222

(2)

سيبويه 1/ 480 - 481

(3)

المغنى 1/ 31، الهمع 1/ 142

ص: 349

جاء في (الكتاب): " وذلك قولك: قد علمت أن لا يقولُ ذاك وقد تيقنت أن لا تفعلُ ذاك كأنه قال: أنه لا يقول وأنك لا تفعل .. وليست (أنْ) التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع لأن ذا موضع يقين وإيجاب.

فأما ظننت، وحسبت، وخلت، ورأيت فإنّ (أنْ) تكون فيها على وجهين:

على أنها تكون (أنْ) التي تنصب الفعل، وتكون الثقيلة فإذا رفعت قلت: قد حسبت أن لا يقولُ ذاك ورأي أن سيفعل ذاك ولا تدخل هذه السين في الفعل ههنا حتى تكون أنه .. وإنما حسنت (أنه) ههنا لأنه قد أثبت هذا في ظنك كما أثبته في علمك وأنك أدخلته في ظنك على أنه ثابت الآن كما كان في العلم ولولا ذلك لم يحس (أنك) ههنا ولا (أنه) فجرى الظن مجرى اليقين لأنه نفيه.

وأن شئت نصبت، فجعلتهن بمنزلة خشيت، وخفت، فتقول: ظننت أن لا تفعل ذاك، ونظير ذاك (تظن أن يفعل بها فاقرة) [القيامة: 25]، و {إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]، ولو قال رجل: أخشى أن لا تفعل ذاك يريد، أن يخبر إنه يخشى أمرا قد استقر عنده أنه كائن جاز وليس وجه الكلام ..

وتقول: ما علمت إلا أن تقوم وما أعلم إلا أن تأتيه إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئا كائنا البتة، ولكنك تكلمت به على وجه الإشارة، كما تقول: أرى من الرأي أن تقوم. فأنت لا تخبر أن قيامًا قد ثبت كائنا أو يكون فيما يستقبل البتة فكأنه قال: لو قمتم، فلو أراد غير هذا المعنى لقال: ما علمت إلا أن سيقومون" (1).

فهنا جاءت الناصبة مع العلم كما ذكر سيبويه، لأنه ليس المقصود بها اليقين، والتحقيق وإنما هو بمعنى قولك: أن تقوم خير لك في رأيي.

وجاء في (المقتضب): " أما ما كان من العلم فإن (أن) لا تكون بعده إلا ثقيلة لأنه شيء قد ثبت واستقر وذلك قولك، قد علمت أن زيدًا منطلق. فإن خففت فعلى إرادة.

(1) سيبويه 1/ 481 - 482

ص: 350

التثقيل والإضمار تقول: قد علمت أن سيقوم زيد، تريد أنه سيقوم زيد، قال الله عز وجل:{علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل 20]، لأنه شيء قد استقر.

ألا ترى أنه لا يصلح (علمت أن يقوم زيد) لأن (أن) الخفيفة إنما تكون لما لم يثبت نحو: خفت أن تقوم يا فتى وأرجو أن تذهب إلى زيد، لأنه شيء لم يستقر. فكل ما كان من الرجاء والخوف فهذا مجازه.

فأما الأفعال التي تشترك فيها الخفيفة والثقيلة فما كان من الظن.

فأما وقوع الثقيلة فعلى أنه قد استقر في ظنك كما استقر الأول في علمك وذلك قولك: ظننت أنك تقوم وحسبت أنك منطلق.

وأما النصب فعلى شيء لم يستقر فقد دخل في باب رجوت وخفت بهذا المعنى (1) " وجاء في المغنى: أن تكون مخففة من الثقيلة فتقع بعد فعل اليقين، أو ما نزل منزلته نحو {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا} [طه: 89] (2).

وجاء في حاشية الشمني على المغني بيان المقصود بقول المغنى (أو ما نزل منزلته) قال: " وأما المنزل منزلته فهو الظن بتأويل أن يكون غالبا مقاربًا للعلم (3) ".

وجاء في (كتاب الجمل) للزجاجي: " تقول: أريد أن تقوم وأحب أن تخرج .. فتنصب الفعل بأن وكذلك إن كان قبلها الأفعال التي تطلب الاستقبال نصبت بها الفعل.

فإن وقعت قبلها الأفعال التي تدل على إثبات الحال والتحقيق ارتفع الفعل ههنا وكانت مخففة من الثقيلة كقولك: علمت أن تقومُ ترفع الفعل لا غير لأن العلم لما قد تيقن وأن ههنا مخففة من الثقيلة المشددة ..

(1) المقتضب 3/ 7، وانظر 2/ 30، التسهيل 228

(2)

المغنى 1/ 30

(3)

حاشية الشمني 1/ 65

ص: 351

فإن وقع قبلها الظن جاز فيما بعد (أن) الرفع، كقولك:(ظننت أن لا تقوم) بالنصب إذا لم ترد تحقيق الظن و (ظننت أن لا تقوم) بالرفع إذا أردت به معنى (علمت) لأن الظن في كلام العرب قد يكون بمعنى العلم، قال الله جل وعز:{الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46](1).

وجاء في (شرح الرضي على الكافية): أن (أنْ) التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدي معناه، ولا ما يؤدي معنى القول، ولا بعد الظن، فهي مصدرية لا غير سواء كانت بعد فعل الترقب كحسبت وطمعت ورجوت وأردت أو بعد غيره من الأفعال كقوله تعالى:{أو لم يكن لهم آية أن يعلمه} [الشعراء: 197]، وأعجبني أن قمت .. أو لا بعد فعل كقوله تعالى {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} [الحشر: 3].

والتي بعد العلم مخففة لا غير، وكذا التي بعد ما يؤدي معنى العلم، إن لم يكن فيه معنى القول، كتحققت ونظرت، وانكشف وظهر، وإن كان فيه معنى القول، كأمر، ونزل وأوحي، ونادي، فإن فيها معنى اعلم وقال معًا" (2).

وجاء في (المغني) في أن الناصبة: " أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للمضارع، وتقع في موضعين:

أحدهما في الابتداء فتكون في موضع رفع نحو {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184].

والثاني بعد لفظ دال على معنى غير اليقين" (3).

فاتضح بهذا أن (أنْ) المخففة من الثقيلة إنما هي تفيد التحقيق واليقين بخلاف الناصبة للأفعال.

(1) الجمل 206 - 207، وانظر ابن يعيش 8/ 77

(2)

الرضي على الكافية 2/ 259

(3)

المغنى 1/ 27 - 28، وانظر الهمع 2/ 2

ص: 352

وهناك فرق آخر بين المخففة وأن الناصبة للأفعال، وهو أن الناصبة تكون للاستقبال كقولك (أرغب في أن تزورني) وأما المخففة فإنها غير مقيدة بزمن فقد تكون للمضي كقوله تعالى:{ونعلم أن قد صدقتنا} [المائدة: 113]، والحال، كقوله تعالى:{أفلا يرون الا يرجع إليهم قولا} [طه: 89]، و (أشهد أن لا إله إلا الله)، والاستقبال كقوله تعالى:{علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20].

والذي يبدو أنّ (أنْ) تخفف للأغراض الآتية:

1 -

إيقاع الجملة موقع المصدر سواء كانت إسمية، أم فعلية. وهذا فارق رئيس بين الثقيلة والمخففة، فإن الثقيلة مختصة بإيقاع الجملة الإسمية موقع المصدر، أما المخففة فإنها توقع الجمل الإسمية والفعلية موقع المصدر، فالإسمية كقوله تعالى {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118] وقوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} [هود: 14]، والفعلية كقوله:{ونعلم أن قد صدقتنا} [المائدة: 113]، وقوله:{وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} [الجن: 16]، وذلك بحسب الحاجة والقصد فإن أردت إقامة الجملة الإسمية مقام المصدر جئت بالثقيلة أو بالخفيفة، مع بعض اختلاف بينهما فقد تدخل الخفيفة على ما لا تدخل عليه الثقيلة من الجمل الإسمية، كقوله تعالى {فاعلموا إنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} فقد أوقعت الجملة المنفية بلا النافية للجنس موقع المصدر ولا يصح للثقيلة أن تباشر مثل هذه الجمل، والنحاة يقدرون ضمير الشأن في نحو هذا.

وأن أردت إقامة الجملة الفعلية مقام المصدر جئت بالمخففة كقوله تعالى: {علم ان سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20].

وهي في ذلك غير عاملة، فيما أرى نظيرة (إنْ) ولا موجب لتقدير ضمير الشأن فكما أنّ (إنْ) إذا خففت وقعت بعدها الجمل الفعلية والإسمية فهذه نظيرتها، وقد اختلف حكمها بعد تخفيضها عن الثقيلة ولذلك هي تدخل بعد تخفيفها على جمل إنشائية

ص: 353

مصدرة بنهي أو دعاء، مما لا يصلح أن لا يكون خبرًا للثقيلة كقوله تعالى:{ألا تعلوا علي واتوني مسلمين} [النمل: 31]، وقوله:{والخامسة أن غضب الله عليها} [النور: 9]، في قراءة من قرأ بالفعل وقولهم (اما أن جزاك الله خيرا) مما يدل على أنها اختلفت عن الثقيلة في بعض أحكامها قال الليث:"إذا وقعت (أن) على الأسماء والصفات فهي مشددة، وإذا وقعت على فعل أو حرف لا يتمكن في صفة أو تصريف فخففها، تقول: بلغني أن قد كان كذا وكذا وتخفف من أجل (كان) لأنها فعل ولولا (قد) لم تحسن على حال من الفعل، حتى تعتمد على (ما) أو على الهاء كقولك: إنما كان زيد غائبا وبلغني أنه كان أخو بكر غنيا وكذلك بلغني أنه كان كذا وكذا تشددها إذا اعتمدت، ومن ذلك قولك: أن رب رجل فتخفف، فإذا اعتمدت قلت: أنه رب رجل شددت، وهي مع الصفات مشددة، أن لك وأن فيها وأن بك وأشباهها"(1).

2 -

إنها تؤكد الجمل الفعلية والإسمية بخلاف الثقيلة، فإنها مختصة بتأكيد الجمل الإسمية والذي يدل على أنها للتأكيد ما سبق أن ذكرناه من اقتران أفعال العلم واليقين بها أو ما نزل منزلته كقوله:{علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل: 20]، مما يشاركها في التحقق.

وهذا سيكون بحسب الحاجة والقصد فإن الاهتمام في الكلام قد يكون منصبا على صاحب الحدث فيؤتى بأن الثقيلة في الغالب، وقد يراد بالكلام توكيد الحدث الفعلي فيجاء بالمخففة، وذلك كقوله تعالى:{ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} [إبراهيم: 19]، وقوله {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} [الجن: 16]، فإن الأولى ثقيلة أكدت صاحب الحدث فإن الكلام على الله تعالى. والثانية أكدت الحدث الفعلي وأوقعته موقع المفرد.

وهي في ذلك نظيرة (إنّ) تؤكد الحدث الفعلي والجمل الإسمية، إذا خففت كما أسلفنا.

(1) لسان العرب (إذن) 16/ 170 - 171

ص: 354

3 -

إنّ (أنّ) الثقيلة آكد من الخفيفة وما ذكرناه من الحجج في أن المخففة ينطبق عليها. قال تعالى في سورة الأعراف: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} [148]

وقال في سورة طه: {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى أفلا يرون أال يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 88 - 89].

فأنت ترى أنه جاء مرة بأن الثقيلة ومرة جاء بأن المخففة ولو رجعت إلى سياق الآيتين لبان الفرق بينهما، فإن آيات الأعراف تذكر قصة بني إسرائيل وعصيانهم لربهم ومخالفتهم لموسى عليه السلام، بخلاف سورة طه فإنه ليس السياق في ذاك وإنما هو في نجاة بني إسرائيل من فرعون وفرق بين السياقين، فقد بدأت قصى بني إسرائيل في سورة الأعراف بعد قوله تعالى:{وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102].

وقال في سورة طه: {يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى} [طه: 80].

فلذا جاءت (أنّ) ثقلة في سورة الأعراف مخففة في سورة طه، لأن الثقيلة آكد من الخفيفة، وذلك يتناسب مع مقام التبكيت في الأعراف بخلاف سورة طه، والله أعلم.

كأن:

تخفف (كأن) ويكون حكمها في العمل كحكم أن المفتوحة، ويكون خبرها جملة إسمية أو فعلية فصلت بلم أو قد، فمن مجيئه جملة إسمية قوله:

ووجه مشرق اللون

كأن ثدياه حقان

ونحو قولك: كأن محمد قائم.

ومن مجيئه جملة فعلية قوله تعالى: {كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24].

ص: 355

وقال الشاعر:

أفد الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

ويقدر اسمها في كل ما مر ضمير الشأن أي كأنه.

وقد يرد مفردًا كقوله:

كأن وريديه رشاء خلب.

وورد: كأن ثدييه حقان (1).

وتخفف كأن لغرضين فيما أرى:

1 -

أن تدخل على الجملة الفعلية إضافة إلى الإسمية، بعد أن كانت مقصورة على الجمل الإسمية، وذلك إنما يكون بحسب الغرض، فإن كانت العناية منصبة على المسند إليه (المشبه) جيء بها مشددة في الأكثر كقوله تعالى:{كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35]، وقد تكون العناية منصبة على الحالة التشبيهية، لا على المشبه، فيؤتى بها مخففة، كقوله تعالى:{فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24].

وكقول الشاعر:

كأن لم يكن بين الحجن إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فهناك فرق بين أن تقول (كأن أنيسا لم يكن بين الحجون إلى الصفا) وقولك (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس) فأنت في الثانية تقصد إلى الحالة التشبيهية الفعلية، بخلاف الأولى فأنك عمدت إلى لفظ المشبه وقدمته للاهتمام والعناية.

وكذلك قوله تعالى: {فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} ولم يقل (كأنها) لأنه

(1) التسهيل 66، ابن الناظم 73، ابن يعيش 8/ 82، ابن عقيل 1/ 140 - 141، الأشموني 1/ 293 - 294، التصريح 1/ 234 - 235

ص: 356

ليس المقصود ذكر المشبه بل المقصود ذكر الحالة التشبيهية فطوى ذكر المشبه. إن المقصود بالآية الكريمة هو الموازنة بين حالتين حالة الماضي وحالة الحاضر وهذا لا يتعلق بلفظ المشبه كثيرًا.

ولذا - فيما أرى - لا موجب لتقدير ضمير الشأن بل هي داخلة على الجملة الفعلية نظيرة (أنْ).

2 -

أنّ الثقيلة آكد في التشبيه من المخففة، فإن (كأن) كما سبق أن ذكرنا للتشبيه المؤكد وتخفيفها يؤدي إلى تخفيف التوكيد، وما ذكرناه في (أن) يستأنس به ههنا وبخاصة إذا علمنا أن رأي الجمهور أن أصلها (أنّ) قدمت عليها الكاف للعناية.

لكنّ:

تخفف (لكنّ) فتهمل وجوبًا عند الجمهور، وذكر عن يونس والأخفش جواز إعمالها قياسا على (إنْ). وتدخل على الجمل الإسمية والفعلية. إذا خففت. تقول: جاء محمد لكن أخوه غائب، وجا محمد لكن غاب أخوه، قال تعالى:{ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف: 76](1).

والذي يظهر أن المخففة تستعمل لغرضين كأخواتها السابقات:

1 -

الدخول على الجمل الفعلية إضافة إلى الإسمية، فبعد أن كان الاستدراك منحصرًا بالجمل الإسمية اتسع بالتخفيف وشمل الجمل الفعلية أيضا وهذا - كما ذكرنا سابقا - يكون بحسب القصد من الكلام.

ثم أن الخفيفة قد تدخل على المفردات، نحو: ما جاء محمد لكن خالد، وما رأيت محمدًا لكن خالدا، وهذه عند الجمهور خفيفة بأصل الوضع، وليست مخففة من الثقيلة (2) فالمخففة حرف ابتداء وهي التي تدخل على الجمل والخفيفة حرف عطف وهي التي تدخل على المفردات.

(1) المغني 1/ 292، الهمع 1/ 143، التصريح 1/ 235، حاشية الخضري 1/ 141، لسان العرب (لكن) 17/ 277

(2)

المغني 1/ 292

ص: 357

والذي أراه أن (لكنْ) الخفيفة والمخففة إنما هي حرف واحد، معناه الاستدراك يدخل على المفردات، والجمل إسمية كانت أو فعلية بخلاف الثقيلة، التي هي مختصة باستدراك الجمل الإسمية.

2 -

تخفيف الاستدرك فإن الثقيلة آكد من الخفيفة، كما سبق أن ذكرنا في أخواتها. يتنبي مما مر أن ما يخفف من الأحرف المشبهة بالفعل، إنما يخفف لغرضين.

1 -

إيقاع معانيها على الجمل الفعلية إضافة إلى الإسمية.

2 -

تخفيف التوكيد فإن المثقلة آكد من المخففة في كل ما مر والله أعلم.

ذكر النون مع ياء المتكلم وضمير المتكلمين.

يقال (إنّي) و (أنّني) و (أنّا) و (أنّنا) قال تعالى: {فانتظروا إني معك من المنتظرين} [الأعراف: 71].

وقال: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: ؟ ؟ ]

وقال: {إنا لا نضيع أجر المصلحين: } [الأعراف: 170].

وقال: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 45].

فهل هناك من غرض لغوي أو بلاغي في ذكر النون أو حذفها؟

يجوز النحاة الذكر والحذف في ذلك، ولم يذكروا لذلك غرضا لغويا أو بلاغيا. وأنا لا أظن أن البليغ يرجح استعمالا على استعمال بلا سبب، بل لابد لذلك من سبب، وقد وقع الاستعمالان في كتاب الله (إني أنني) و (إنا وإننا).

والذي يبدو إن ذكر النون إنما يكون لغرض الزيادة في التوكيد (وإنني) آكد من (إني) و (إننا) آكد من (إنا) وذلك إن اجتماع ثلاث نونات يزيد في التأكيد.

قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا يقوم إني بريء مما تشركون} [الأنعام: 78].

ص: 358

وقال على لسانه أيضا: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} [الزخرف: 26 - 27].

فمرة قال (إني) ومرة قال (إنني) وأنت ترى الفرق بين المقامين، فإن إبراهيم عليه السلام في آية الأنعام في مقام الحيرة والبحث عن الحقيقة لا يعرف ربه على وجه التحقيق فقد ظن ان الكوكب ربه، ثم القمر، ثم الشمس، ثم أعلن البراءة من كل ذلك.

أما في آية الزخرف فهو في مقام التبليغ فقد أصبح نبيا مرسلا من ربه، أعلن حربه على الشرك، وأعلن البراءة مما يعبد قومه فهناك فرق بين المقامين والبراءتين، ولذا جاء بالآية الأولى - بـ (إني) وفي الثانية بـ (إنني) لأنه في مقام أكثر توكيدًا.

ثم انظر الفرق بين التعبيرين فقد قال في الآية الأولى (بريء) وفي الثانية (براء) فإن البراءة في آية الزخرف أشد وقد جاء بها على صيغة المصدر، وهو المناسب لزيادة النون بخلاف الأولى فحصل التوكيد في آية الزخرف من جهتين:

زيادة النون والعدول إلى المصدر بخلاف آية الأنعام:

ونحو ذلك ما جاء في سورة طه قال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وانا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 11 - 14].

فأنت ترى أنه مرة قال (إني) ومرة قال (إنني) بزيادة النون، والسياق يظهر الفرق بينهما فإن في الثانية زيادة توكيد لأنه في مقام إعلامه بالنبوة، وتكليفه بالرسالة وأنت ترى الفرق بين المقامين: المقام الأول (إني أنا ربك فاخلع نعليك) والثانية (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني) فاقتضى ذلك التفريق بين المقامين.

ونحو ذلك (إنا) و (أننا) قال تعالى {إنا ههنا قاعدون} وقال {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا ربنا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 45 - 46]. فمرة قال (إنا) ومرة قال (إننا) والفرق بين المقامين ظاهر، ففي آية طه كان الخوف شديدا من فرعون فقال (إننا) ولذا أجابهم بالتأكيد نفسه (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) بإثبات النون لتأكيد المعية ربطا للقلب ودفعا للخوف.

ص: 359

والذي يدل على ما قلناه أن نون التوكيد قد تلحق بإن إذا اتصلت بضمير المتكلم، أو ضمير المتكلمين في بعض اللغات السامية، جاء في (التطور النحوي):" وفي العبرية تلحق بها - أي أنا - الضمائر على الطريقة التي تلحق بمضارع الفعل وأمره نحو hinnenni أي إنني والنون الثانية من enni هي نون الضمير المنصوب، والأولى هي نون التأكيد المستعملة في المضارع والأمر، مثل liqtlenni وتوجد في hinnennu أي إننا أيضا"(1).

وربما كان لإلحاقها غرض آخر، هو مراعاة مقام الإطالة، فقد يقتضي المقام الإطالة والتفصيل فيؤتى بها وقد يقتضي الإيجاز فلا تلحق، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى على لسان ثمود:{قالو يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62].

وقوله: {ألم يأتكم نبؤأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} [إبراهيم: 9].

ففي آية هود قال (إننا) وفي آية إبراهيم قال (إنا) والسياق يظهر الفرق بين المقامين فآيات هود تذكر تفاصيل الأقوام البائدة وقصصهم واحدة واحدة، قصة قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، ومدين وقصة موسى مع فرعون، بخلاف آية إبراهيم فإنها بيان لموقف الأمم من الرسل عموما على وجه الإجمال لا على وجه التفصيل، وأوجز في مقام الإيجاز، وفي (معترك الأقران): إن إثبات النون في قوله تعالى {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62]، إنما هو للتأكيد (2).

(1) التطور النحوي 91

(2)

معترك الأقران 3/ 357

ص: 360