الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العطف على اسم أن بالرفع:
ورد في اللغة رفع المعطوف على اسم أن وقد جاء ذلك في القرآن الكريم وغيره قال تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [المائدة: 69]، وقال:{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]، برفع كلمة (رسول)، وقال جرير:
إن الخلافة والنبوة فيهم
…
والمكرمات وسادة أطهار
برفع المكرمات وسادة. وقال بشر بن أبي حازم:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
…
بغاة ما بقينا في شقاق
وقال الآخر:
فمن يك أمس بالمدينة رحله
…
فإني وقيار بها لغريب
إلى غير ذلك من النصوص.
وألحقت بأن أن ولكن فيما تقدم من جواز العطف بالرفع، من دون ليت ولعل وكأن وذلك كقول الشاعر:
وما قصرت بي في التسامي خؤولة
…
ولكن عمي الطيب الأصل والخال (1)
واختلف النحاة في تخريج ذلك فذهب بعضهم إلى أنه معطوف على اسم أن باعتبار محله قبل دخول أن (2).
(1) الأشموني 1/ 287، ابن يعيش 8/ 68، الرضي على الكافية 2/ 392
(2)
المقتضب 4/ 111، الكامل 1/ 276، ابن الناظم 70، ابن عقيل 1/ 136 - 137، التصريح 1/ 226 - 227، الصبان 1/ 284
قال ابن يعيش: "ويجوز الرفع بالعطف على موضع أن لأنها في موضع ابتداء وتحقيق وذلك أنها لما دخلت على المبتدأ والخبر لتحقيق مؤداه وتأكيده من غير أن تغير معنى الابتداء صار المبتدأ كالملفوظ به وصار (إن زيدًا قائم) و (زيد قائم) في المعنى واحدًا فجاز لذلك الأمران: النصب والرفع. فالنصب على اللفظ والرفع على المعنى"(1).
وذهب بعضهم إلى أنه مرفوع على الابتداء وخبره محذوف والجملة ابتدائية عطفت على محل ما قبلها من الابتداء أو هو معطوف على الضمير في الخبر (2).
وقيل: الواو اعتراضية - جاء في (شرح الرضي على الكافية) في قوله تعالى (أن الله برئ من المشركين ورسوله): "فتقول أن قوله تعالى (ورسوله) عطف على الضمير في (بريء) .. أو نقول: رسوله مبتدأ خبره محذوف، أي ورسوله كذلك والواو اعتراضية لا عاطفة. ونقول في قوله:
وإلا فاعلموا إنا وأنتم
…
وبغاة ما بقينا في شقاق
إن (ما بقينا في شقاق) خبر (إنا) وقوله (وأنتم بغاة) جملة إعتراضية لكن لا يتم لنا مثل هذا في قوله:
ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم
…
ولا أنني بالمشي في القيد أخرق.
بعد قوله:
فلا تحسبن أني تخشعت بعدكم
…
لشيء ولا أني من الموت أفرق
لأن قوله (ولا إنني بالمشي في القيد أخرق) عطف على (أني تخشعت) فلو جعلنا قوله (ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم) جملة اعتراضية لكان (لا) داخلة على معرفة بلا تكرير ولا يجوز ذلك إلا عند المبرد ولو روى (ولا أنني بالمشي في القيد) بالكسرة لارتفع
(1) ابن يعيش 1/ 226 - 227، وانظر سيبويه 1/ 285
(2)
سيبويه 1/ 285، المقتضب 4/ 112، الكامل 1/ 276، ابن عقيل 1/ 136 - 137، الأشموني 1/ 284 - 285، التصريح 1/ 226 - 227
الإشكال وكان قوله (ولا أنا ممن يزدهيه) مستأنفا و (لا) مكررة" (1).
وجاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله} : "والصابئون: رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك .. فإن قلت: فقوله (والصابئون) معطوف لابد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله (إن الذين آمنوا إلخ) ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها.
فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم؟
وذلك إن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي خرجوا .. ومجرى هذه الجملة مجرى الأعتراض في الكلام" (2).
وجاء في (التفسير الكبير) في هذه الاية: " والصابئون كذلك فحذف خبره والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو ان الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق أن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزل ذنبهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك"(3).
وجاء في (الانتصاف من الكشاف): " ولكن ثم سؤال متوجه وهو أن يقال: لو عطف الصابئين ونصبه، كما قرأ ابن كثير لأفاد ايضا دخولهم في جملة المتوب عليهم ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين، وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى ولكان الكلام جملة واحدة بليغًا
(1) الرضي على الكافية 2/ 391 - 392، وانظر حاشية التصريح 1/ 227
(2)
الكشاف 1/ 474، انظر ابن الناظم 70
(3)
التفسير الكبير 11/ 51
مختصرًا والعطف أفرادي، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهل يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفرادي.؟
ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض، عطف المفردات وهذا الصنف من جملتها والخبر عنها واحدًا، وأما الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به، ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف، وملحق بها وهو بهذه المثابة لأنه لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر" (1).
والذي يبدو لي في هذا الأمر أن ثمة فرقًا في المعنى بين الرفع والنصب، فإن العطف بالنصب على تقدير إرادة (إن) والعطف بالرفع يكون على غير إرادة (أن)، ومعنى هذا أن العطف بالرفع غير مؤكد، فعلى هذا يكون المعطوف في قولك (إن محمدا مسافر وخالدا) مؤكدا، بخلاف ما لو قلت (إن محمدا مسافر وخالد) فإن المعطوف غير مؤكد. وهذا شبيه بما مر في قولنا (ليس محمد بجبان ولا بخيل، ولا بخيلا) في بحث (ليس والمشبهات بها).
وهذا المعنى حام حوله النحاة ولم يذكروه صراحة فهم حين يقولون أنه معطوف على اسم (إن) قبل دخولها، يعنون إنه معطوف على غير إرادة التوكيد، أي أن المعطوف عليه مؤكد بخلاف المعطوف، وقد رأيت قبل قليل في كلام المفسرين في قوله تعالى:{إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} ما يشير إلى أن كلمة (الصابئون) خولف حكمها عن أخواتها، لأن هذه الفرقة أبعد ضلالا من الآخرين، فجاءت أقل توكيدا من أخواتها.
(1) الانتصاف من الكشاف 1/ 474
وما ذكره الرضي من كونها اعتراضية، يشير إلى ذلك أيضا، فإن الجملة الإعتراضية ليست من صميم الجملة المعقود بها الكلام، وإنما هي تبع .. فالنحاة يدركون أن هذا المعطوف يختلف عن العطوف عليه في الحكم.
والذي يدل على ذلك اشراكهم (لكن) مع (إن) في هذا الحكم دون سائر أخواتها لأن (لكن) لا تغير معنى الابتداء بخلاف (ليت ولعل وكأن) حيث لا يجوز مع هذه الثلاث إلا النصب لزوال معنى الابتداء بها (1).
وإيضاح ذلك أن معنى قولك (محمد مسافر) و (أن محمدًا مسافر) واحد غير أن في الجملة الثانية توكيدًا فإن (إن) لا تغير معنى الجملة بخلاف ليت ولعل، وكأن. فهناك فرق بين قولنا (ليت محمدًا معنا وخالد) بالرفع لأن الكلام مقصود به التمنى، ورفع المعطوف يدل أنه على غير نية (ليت) أي ليس داخلا في التمني فلا يكون لذكره معنى ويكون ضربًا من العبث، وكذلك لو قلت (لعل أخاك معنا وخالد) إذ معنى ذلك أن خالدا غير داخل في الترجي، لأنه ليس على تقدير (لعل) فلا يكون لذكره معنى وكذلك بالنسبة لكأن، بخلاف (أن) فإنها تؤكد معنى الابتداء، وزوالها لا يزيل معنى الابتداء وهذا ظاهر.
جاء في (المغني): " ومن ثم أجمعوا على جواز (زيد قائم وعمرو وإن زيدًا قائم وعمرو) وعلى منع (ليت زيدا قائم وعمرو) وكذا في لعل وكأن لأن الخبر المذكور متمني أو مترجي أو مشبه به والخبر المحذوف ليس كذلك، لأنه خبر المبتدأ"(2).
وجاء في (التصريح): " ويعطف بالرفع على محل أسماء هذه الأحرف بشرطين: استكمال الخبر، وكون العامل أن أو إن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة"(3).
(1) انظر الأشموني 1/ 287، التصريح 1/ 226 - 227، سيبويه 1/ 286، التسهيل 66
(2)
المغنى 2/ 606
(3)
التصريح 1/ 226 - 227
وجاء في (كتاب سيبويه): واعلم أن لعل وكأن وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في أن إلا إنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس (ليت زيدًا منطلق وعمرا) وقبح عندهم أن يحملوا (عمرا) على المضمر، حتى يقولوا (هم) ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن فقبح عندهم أن يدخلوا الواجب في موضع التمني، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه بمنزلة (أن) و (لكن) بمنزلة إن " (1).
وأنت لو استقريت ما ورد في القرآن الكريم لوجدت المعنى على ما ذكرت قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]، برفع (رسوله) معطوفة على لفظ الجلالة المنصوب، وسر ذلك أن براءة الرسول تابعة لبراءة الرب سبحانه فهي أقل توكيدًا منها وليستا بمنزلة واحدة، لأن الأصل براءة الله سبحانه، أما براءة الرسول فهي براءة تبعية ولذلك وردت كذلك، والله أعلم.
ونحوه ما جاء في قوله تعالى: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} ذلك أن الصابئين لما كانوا أبعد المذكورين ضلالا كما ذكر المفسرون خولف في توكيدهم فكانوا اقل توكيدًا.
وقد تقول: لقد ورد مثل هذا التعبير في سورة البقرة فلم يجيء بالرفع فما الفرق؟
وها أنا أذكر ذلك موضحا الفرق:
1 -
جاء في سورة المائدة 69: {إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
2 -
وجاء في سورة البقرة 262: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
(1) سيبويه 1/ 286
فأنت ترى إنه في آية المائدة رفع الصابئين وقدمهم على النصارى، وفي آية البقرة نصبهم وأخرهم عن الملل الأخرى.
وسر ذلك أنه في آية المائدة رفعهم لأنهم أبعد المذكورين ضلالا، فكان توكيدهم أقل من غيرهم، وأما تقديمهم على النصاري فلأن الكلام فيما بعد هذه الآية على ذم عقيدة النصارى وتسفيه عقيدة التثليث، فكأن النصارى لم يؤمنوا بالله حقا وإنما هم من صنف المشركين ويبدأ الكلام عليهم بقوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أني يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)[المائدة: 72 - 77].
فقدم الصابئين عليهم وهو المناسب للمقام، وليس نحو هذا الأمر موجودا في آية البقرة فجرت الآية على نسق واحد، فأخر الصابئين وجعلهم في مكانهم بعد الملل.
وقد جرير:
إن الخلافة والنبوة فيهم
…
والمكرمات وسادة أطهار
ففصل بين الخلافة والنبوة من جهة، والمكرمات والسادة الأطهار من جهة أخرى. فجعل الفريق الثاني أقل رتبة من النبوة والخلافة، بحذف توكيده ولم يجعل الكلام بمنزلة واحدة، واحسب أن جريرا وفق في هذا، مختارا كان أو مضطرا.
وهذا الذي ذكرناه هو ما يقتضيه القياس ويؤيده الاستعمال والله أعلم