الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعريف المبتدأ والخبر
الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة كما إنّ الأصل في الخبر أنْ يكون نكرة نحو: سعيد قائم ولكنهما قد يجيئان معرفتين نحو سعيدٌ القائم، والقائم سعيد، وإبراهيم أخوك، وأخوك إبراهيم، فأيّ منهما هو المبتدأ وما دلالة التعريف؟
1 -
اختلف النحاة في المعرفتين أيّهما المبتدأ وأيهما الخبر فقد جاء في (المغنى): "يجب الحكم بابتدائية المقدم من الأسمين في ثلاث مسائل:
أحدها أن يكونا معرفتين تساوت رتبتهما نحو: " الله ربنا" أو اختلف نحو: "زيد الفاضل" و "الفاضل زيد" هذا هو المشهور، وقيل يجوز تقدير كل منهما مبتدأ وخبرًا مطلقا وقيل: المشتق خبر، وأن تقدم نحو: القائم زيد والتحقيق أن المبتدأ ما كان أعرف كزيد في المثال أو كان هو المعلوم عند المخاطب كأن يقول: من القائم؟ فتقول: زيدٌ القائم. فإن علمهما وجهل النسبة فالمقدم المبتدأ" (1).
وجاء في (المفصل): "وقد يقع المبتدأ والخبر معرفتين معًا كقولك: (زيد المنطلق) و (الله إلهنا) و (محمد نبينا) ولا يجوز تقديم الخبر هنا بل أيهما قدمت فهو المبتدأ"(2).
والتحقيق أن المبتدأ ما كان معلومًا عند المخاطب والمجهول هو الخبر. فتأتي بالأر الذي يعلمه المخاطب فتجعله مبتدأ ثم تأتي بالمجهول عنده فتجعله خبرًا عن المبتدأ. وذلك نحو أن يعرف المخاطب زيدًا ولكنه يجهل أنه أخوك وأردت أن تعرفه بأنه أخوك قلت له (زيدٌ أخي). وإذا عرف أن لك أخا، وعرف زيدًا ولكنه يجهل إنه أخوك، وأردت أن تعلمه بأن أخاك هو زيد قلت له:(أخي زيد) فكأن الأولى جواب عن سؤال: من زيد؟ والثاني جواب عن سؤال: مَنْ أخوك؟ ونحو هذا قولك (زيد القائم) و (القائم زيد)
(1) مغني اللبيب 2/ 451
(2)
المفصل 1/ 78 - 79
فإذا رأى شخص ما رجلاً قائمًا ولكنه يجهل أنه زيد وهو يعرف زيدًا في الأصل، فأردت أن تعرفه بأن القائم هو زيد قلت له:(القائم زيد)، وإذا كان لايعرف زيدًا في الأصل فأردت أن تعرفه له بأنه هو القائم قلت له:(زيد القائم).
جاء في (الإيضاح): "قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ويكون السامع عالمًا باتصافه بأحدهما دون الأخرى فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى، تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية، وتجعله خبرًا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية كما إذا كان السامع أخ يسمى زيدًا وهو يعرفه بعينه واسمه، ولكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرفه أنه أخوه فتقول له (زيد أخوك) سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدًا أخوه أو لم يعرف أن له أخا أصلا. وأن عرف أن له أخًا في الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت: أخوك زيد.
أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا، فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا فظهر الفرق بين قولنا (زيد أخوك) وقولنا (أخوك زيد).
وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدًا هو ذلك المنطلق فتقول (زيد المنطلق)، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد، قلت (المنطلق زيد).
وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه وهو يعرف معنى جنس المنطلق، وأردت أن تعرفه أن زيدًا متصف به فتقول:(زيد المنطلق)، وأن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت:(المنطلق زيد).
لا يقال: زيدٌ دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر، والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر، لأنا نقول (المنطلق) لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الإنطلاق، وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرًا، و (زيد) لا يجعل خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم (زيد) وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ" (1).
(1) الإيضاح 1/ 97 - 98، وانظر نهاية الإيجاز 44
وجاء في (شرح المختصر): "والضابط في التقديم إنّه إذا كان للشيء صفتان من صفات التعريف، وعرف السامع إتصافه بأحداهما دون الأخرى، فأيهما كان بحيث يعرف السامع اتصاف الذات به، وهو كالطالب بحسب زعمك أن تحكم عليه بالآخر فيجب أن تقدم اللفظ الدال عليه أن تحكم بثبوته للذات أو انتفائه عنه يجب أن تؤخر اللفظ الدال عليه وتجعله خبرًا. فإذا عرف السامع زيدًا بعينه واسمه، ولا يعرف اتصافه بأنه أخوه وأردت أن تعرفه ذاك قلت: زيد أخوك. وإذا عرف أخا ولا يعرفه على التعيين، وأردت أن تعينه عنده قلت (أخوك زيد) ولا يصح (زيد أخوك) ويظهر ذلك في نحو قولنا (رأيت أسودًا غابها الرماح)، ولا يصح: رماحها الغاب"(1)، لأن الأسود لابد لها من الغاب فيكون معلومًا (2).
وجاء في (التصريح): "ويختلف المعنى باختلاف الغرض فإذا عرف السامع زيدًا بعينه ولا يعرف المخاطب اتصافه بأنه أخو المخاطب، وأردت أن تعرفه ذلك قلت: (زيد أخوك)، ولا يصح لك أن تقول: (أخوك زيد). وإذا عرف أخا له ولا يعرفه على التعيين باسمه وأردت أن تعينه عنده قلت: (أخوك زيد) ولا يصح لك أن تقول: زيد أخوك". (3)
" ومن هنا اعتراض ابن الطراوة قول المتنبي:
ثياب كريم ما يصون حسانها
…
إذا أنشرت كان الهبات صوانها
قال فذمه وهو يرى أنه مدحه، ألا يرى انه أثبت الصون ونفي الهبات كأنه قال: الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان، انتهى.
وإيضاحه أن الواجب في مثل هذا كون الخبر ما يراد إثباته ولهذا قال عبد الملك بن مروان: كان عقوبتك عزلك، ولو قال: كان عزلك عقوبتك كان معاقبًا لا مغرورًا (4) ".
(1) شرح المختصر للتفتازاني 68
(2)
حاشية الصبان 1/ 209 - 210
(3)
التصريح 1/ 171 - 172، وانظر ابن يعيش 1/ 98، حاشية الصبان 1/ 209 - 210، همع الهوامع 1/ 101
(4)
حاشية التصريح 1/ 172
وذكر ابن الخباز إنّ الفرق بين قولنا زيد أخوك وأخوك زيد من وجهين: "أحدهما أن (زيد أخوك) تعريف للقرابة و (أخوك زيد) تعريف للاسم. والثاني أنّ (زيد أخوك) لا ينفي أن يكون له أخ غيره، لأنك أخبرت بالعام عن الخاص (وأخوك زيد) ينفي أن يكون له أخ غيره لأنك أخبرت بالخاص عن العام، وهذا ما يشير إليه الفقهاء في قولهم: زيد صديقي وصديقي زيد"(1).
فأنت ترى إن تقديم إحدى المعرفتين على الأخرى يتبعه اختلاف في المعنى فقولك (زيد المنطلق) يختلف عن معنى (المنطلق زيد) قال تعالى: {موعدكم يوم الزينة} [طه: 59]، ولم يقل:(يوم الزينة موعدكم) فإنه لما كان الغرض تحديد الموعد أخر عنه بأجل جعله لهم فإن هذا جواب عن قولهم: {فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت} [طه: 58]، ونحوه قوله تعالى:{إن موعدهم الصبح} [هود: 81]، فهو أخبار عن الموعد ايضا. ومنه قوله:{قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} [الحجر: 68]، فهو أخبار عن المشار إليهم ولو قال (إن ضيفي هؤلاء) لاختلف المعنى فكان الأولى جواب عن سؤال: من هؤلاء؟ والثاني جواب عن سؤال: من ضيفك؟ ونحوه قوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، ولا يصح أن يقال:(وأمهاتهم أزواجه) كما لا يخفى. ونحوه قوله: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} [يوسف: 65]، وقوله:{إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25]، ولو عكس فقال (إن أساطير أولين إلا هذا) لتغير المعنى ونحو هذا قوله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]، ولو قال: هل الإحسان إلا جزاء الإحسان لتغير المعنى، ولو كان معنى التقديم والتأخير في غير الحصر واحدًا ما اختلف معناه في الحصر.
(1) الأشباه والنظائر 2/ 236
2 -
القصر الحقيقي: تقول (زيد منطلق)، وتقول (زيد المنطلق) فما الفرق بين التعبيرين؟
إن التعبير الأول يفيد ثبوت الإنطلاق لزيد من دون نفيه عن غيره، وأما التعبير الثاني فإنه يفيد قصر الإنطلاق على زيد دون غيره، وهذا حين يظن ظان أن المنطلق هو غير زيد كأن يظن أنه خالد أو سعيد، فقد عرف أن ثمة انطلاقا ولكنه كان يظن أن المنطلق غير زيد فقدمت زيدًا وقصرت الإنطلاق عليه دون غيره. جاء في (دلائل الإعجاز): "ومن فروق الإثبات أنك تقول: زيد منطلق، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، فيكون في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص، وفائدة لا تكون في الباقي وأنا أفسر لك ذلك:
اعلم أنك إذا قلت: (زيد منطلق) كان كلامك مع من لم يعلم أن إنطلاقا كان لا من زيد، ولا من عمرو، فأنت تفيده ذلك ابتداء، وإذا قلت:(زيد المنطلق) كان كلامك مع من عرف أن إنطلاقا كان، إما من زيد، وأما من عمرو، فأنت تعلمه أنه كان زيد دون غيره. والنكتة أنك تثبت في الأول الذي اهو قولك (زيد منطلق) فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان، وتثبت في الثاني الذي هو (زيد المنطلق) فعلا قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك فقد وافق الأول في المعنى الذي كان له الخبر خبرا، وهو إثبات المعنى للشيء وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت إن إنطلاقا كان من أحد الرجلين لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو، كان حالك في الحاجة إلى من كان يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.
وتمام التحقيق إن هذا كلام يكون معك، إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان إنطلاق من موضع كذا، في وقت كذا، لغرض كذا فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد، فإذا قيل لك (زيد المنطلق) صار الذي كان معلوًا على جهة الجواز، معلومًا على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلا، بين الجزءين فقالوا: زيد هو المنطلق" (1).
(1) دلائل الإعجاز 136 - 137
وجاء في نهاية الإيجاز: "إذا قلنا: زيد منطلق أفاد ثبوت الإنطلاق لزيد .. وإذاا قلت: زيد المنطلق أو زيد هو المنطلق فاللام في الخبر تفيد انحصار الخبر به في المخبر عنه، مع قطع النظر عن كونه مساويا أو إخص منه"(1).
وجاء في دلائل الإعجاز: "وأما قلونا: : (المنطلق زيد)، والفرق بينه وبين (زيد المنطلق)، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كون الغرض في الحالين إثبات إنطلاق قد سبق المعلم به، لزيد فليس الأمر كذلك، بل بين اللكلامين فصل ظاهر.
وبيانه أنك إذا قلت: (زيد المنطلق)، فأنت في حديث إنطلاق قد كان، وعرف السامع كونه إلا إنه لا يعلم أمن زيد كان أم عمرو؟
فإذا قلت: (زيد المنطلق)، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد، بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز، وليس كذلك إذا قدمت (المنطلق) فقلت:(المنطلق زيد) بل يكون المعنى حينئذ على رأيت إنسانًا ينطلق بالبعد منك، فلم يثبت ولم تعلم أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك:(المنطلق زيد)، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد" (2).
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {إنك أنت الأعلى} [طه: 68]، جاء في (المثل السائر) في هذه الآية:"الأعلى: لام التعريف في قوله (الأعلى)، ولم يقل (أعلى)، ولا (عال)؛ لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لك واحد من جنسه كقولك (رجل)، فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال. وإذا قلت (الرجل)، فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علمًا فيهم وكذلك جاء قوله تعالى: {إنك أنت الأعلى}. (3) ".
(1) نهاية الإيجاز 42 - 43
(2)
دلائل الإعجاز 144، وانظر شرخ المختصر 68، الإيضاح 1/ 98 - 99، معترك الأقران 1/ 88
(3)
المثل السائر 2/ 21
ومما يدل على الاختصاص والقصر الحقيقي قوله تعالى: {وأنا التواب الرحيم} [البقرة: 160]، وقوله:{وهو العلى العظيم} [البقرة: 255]، وقوله:{هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} ، [آل عمران: 6]، وقوله:{هو الذي خلقكم من طين} [الأنعام: 2]، وقوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض}. [الأنعام: 73]، وقوله:{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97]، وقوله:{هو الذي أيدك بنصره} [الأنفال: 62]، وقوله:{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} [المؤمنون: 103]، وقوله:{هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، وقوله:{والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة} [البلد: 19]، وقوله:{ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89]، ونحوه كثير.
3 -
القصر مبالغة: وذلك كأن تقول: "زيد الشجاع"، و "سعيد الشاعر"، و (محمد الأديب)، فكأنك قصرت الشجاعة على زيد والشعر على سعيد، والأدب على محمد، كما فعلت في (زيد المنطلق) إلا إنا لفرق بينهما أن ذلك قصر حقيقي، وهذا قصر مبالغة وادعاء جاء في (الطراز):"أن تقصد المبالغة في الخبر فتقصر جنس المعنى على المخبر عنه كقولك: زيد هو الجواد، وعمرو هو الشجاع، تريد إنه هو المختص بالمعنى دون غيره وأنت إذا قصدت هذا المعنى فلا يجوز العطف عليه على جهة الاشتراك، فلا يجوز أن تقول: زيد هو الجواد، وعمرو لأنه يبطل المعنى، ومن هذا قوله تعالى {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، وقوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقًا}: [الأنفال: 4] يريد إنهم المختصون بهاتين الصفتين دون غيرهم". (1)
وجاء في (دلائل الإعجاز): "أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة وذلك قولك: زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع تريد أنه الكامل إلا أنت تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه"(2).
(1) الطراز 2/ 21
(2)
دلائل الإعجاز 138، وانظر دراية الإيجاز 42 - 43، معترك الأقران 1/ 188، شرح المختصر 68
وجاء في (الإيضاح) أن المعرف بلام الجنس قد يفيد القصر تحقيقا "وأما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك (عمرو الشجاع) أي الكامل في الشجاعة فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إل فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال"(1).
ومن هذا النوع قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الرعد: 5]، هذا صنف من أصحاب النار، وهناك أصناف أخرى غيرهم، ، ولكن لكون إنكار اليوم الآخر كبيرة جعل منكريه هم أصحاب النار وقصرها عليهم مبالغة ..
وقال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} [النحل: 106 - 109]، فالغافلون كثيرون والذين طبع على قلوبهم من غير هؤلاء من غير أصناف والخاسرون غير هؤلاء كثير ولكن لعظم جرم هؤلاء حصرها عليهم مبالغة.
4 -
قصر جنس المعنى على المبتدأ على دعوى إنه لا يوجد إلا منه وذلك حين يكون مقيدًا بحال، أو وقت، وذلك كقولك: هو النصير إذا عز النصير، جاء في (دلائل الأعجاز).
" أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه لأعلى معني المبالغة .. بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه ويجعله في حكم نوع برأسه وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت كقولك:
(1) الإيضاح 1/ 98 - 199
هو الوفي حين لا تظن بنفس خيرًا" (1).
5 -
أن تورده على وجه اتضح أمره وعرف فتقول: (سعيد الجواد) لا على وجه القصر وإنما على وجه أنّ هذا شائع معروف بين الناس، لا يخفى على أحد كقوله تعالى في المنافقين:{هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4]، فهذا ليس من باب القصر الحقيقي وإلا فقد ذكر القرآن اليهود وقال فيهم:{لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]، وإنما أورده على وجهٍ أتضح أمره وعرف شأنه، أي هم المتضح أمرهم المنكشف سرهم في العداوة وربما دل على كمالهم في العداوة.
وعليه قول الخنساء:
إذا قبح البكاء على قتيل
…
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
"لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل .. ولكنها أرادت أن تقره في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان:
وإن سنام المجد من آل هاشم
…
بنو بنت خزوم ووالدك العبد
ولو قال ووالدك عبد لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة" (2).
6 -
أن تورده على وجه ثبت عند المخاطب وعلمه أووجه تعلمه به وذلك نحو قولك (هو الشاعر) تقول هذا لأعلى وجه من الأوجه المذكورة وإنما كأنك تقول له: هل عرفت الشاعر وخبرت حقيقته وتمثلته في نفسك؟ فهذا هو.
وهذا النوع على ضربين:
أ - الإعتماد على المعرفة السابقة والعلم بالشيء كما ذكرت من قولنا (هو الشاعر) جاء في (دلائل الإعجاز): "واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك .. وذلك قولك هو البطل المحامي وهو المتقي المرتجي، وأنت لا تقصد شيئًا
(1) دلائل الإعجاز 138، وانظر الطراز 2/ 22، نهاية الإيجاز 42 - 43
(2)
دلائل الإعجاز 140، وانظر الطراز 2/ 22، الإيضاح 1/ 98 - 99
مما تقدم .. ولكنك ترد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي وهل حصلت معنى هذه الصفة، وكيف ينبغي أن يكون الرجل، حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علمًا وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد بد يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك" (1).
وجاء في (الطراز): "أن تقصد به مقصد التعريف بحيقة عقلها المخاطب في ذهنه لا في الخارج، أو توهمت إنه لم يعرفها فتقول له تصور كذا فإذا تصورته في نفسك فتأمل فلانًا فإنه يحصل ما تصورته على الكمال، ويأتيك به تامًا ومثاله قولنا: هو الحامي لكل حقيقة، وهو المرتجى لكل ملمة، هو الدافع لكل كريهة، كأنك قلت: هل تعقل الحامي والمرتجي وتسمع بهما؟ فإن كنت تعقل ذلك وتعرفه حقيقة معرفته فاعلم أنه فلان"(2).
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} [البقرة: 25]، اعتمادًا على معرفتهم السابقة. وقوله:{ما جئتم به السحر} [يونس: 81]، وقوله:{هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52]، وقوله:{هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأنعام: 101 - 102]، فبعد أن عرفهم بالله وصفاته التي يجلونها قال لهم: ذلكم الله ربكم.
(1) دلائل الإعجاز 141
(2)
دلائل الإعجاز 141
ومنه: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} [الأنفال: 2]، ونحوه:{ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50]، ومنه:{إنما المؤمنون الذين أمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} [النور: 62].
ومنه: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63].
وهذا من باب التعريف بالكلام.
ومن التعريف في المقام قول امرأة العزيز للنسوة اللاتي لمنها في يوسف بعد أن أخرجته عليهن وقطعن أيديهن حين رأينه {فذالكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]، ومنه قوله تعالى:{هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103]، ونحوه {هذا الذي كنتم تستعجلون} [الذاريات: 14]، وقوله:{هذه النار التي كنتم بها تكذبون} [الطور: 14].
7 -
الدلالة على الكمال: وذلك كقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2]، أي الكتاب الكامل وكقوله تعالى:{وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18]، أي الكامل فيهما وكقوله {وهو الحي} [غافر: 65]، ونحوه قوله تعالى:{وهو السميع العليم} [البقرة: 137]، و {هو السميع البصير} [الإسراء: 1]، ليس معنى ذلك أنه لا يسمع أحد غيره، ولا يعلم أحد غيره، ولا يبصر أحد غيره، بل سبحانه وصف الإنسان بالسمع والبصر فقال:{فجعلنه سمعيا بصيرا} [الإنسان: 2]، ووصفه بالعلم فقال:{وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]، بل معناه أن الله سبحانه هو الكامل في هذه الصفات. جاء في حاشية السيد الشريف الجرجاني على الكشاف:"أن الخبر المعرف بلام الجنس قد يقصده به تارة حصره على المبتدأ أما حقيقة أو ادعاء نحو (زيد الأمير)، إذا انحصرت الإمارة فيه أو كان كاملاً فيها كأنه قيل كل الأمير وجميع أفراده فيظهر الوجه في إفادة الجنس الحصر"(1)، وأحرى أن يدخل هذا الجنس في قصر المبالغة.
(1) حاشية التعريف 1/ 113