الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حـ - تقديم المبتدأ على الفعل:
الأصل في الجملة التي مسندها فعل أن يتقد الفعل على المسند إليه أو بتعبير آخر إن يتقدم الفعل على الفاعل - كما ذكرنا - فإن تقدم المسند إليه على الفعل نظر في سبب ذلك. فالأصل أن يكون الكلام نحو (قدم سعيد) فإن قيل (سعيد قدم) نظر في سبب ذلك، أو بتعبير الكوفيين نظر في سبب تقديم الفاعل على الفعل.
ويذكر البلاغيون أغراضا لتقديم المسند إليه على الفعل أهمها:
1 -
التخصيص أو الحصر: إذا قلت (أعانني سعيد) كان إخبارا ابتدائيًا، والمخاطب خالي الذهن، فإن قلت (سعيد أعانني)، فقد خصصت سعيدًا بالإعانة وقصرتها عليه وذلك بأن كان المخاطب يظن إن الذي أعانك خالد مثلا، فترد عليه بهذا القول قال عبد القاهر: " فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحديث عنه بفعل، فقدمت ذكره ثم بنيت الفعل عليه فقلت: زيد قد فعل، وأنا فعلت، وأنت فعلت، اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل إلا أن المعنى في هذا المقصد ينقسم قسمين:
أحدهما جلي لا يشكل، وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على واحد، فتجعله له، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر أو دون كل أحد. ومثال ذلك أن تقول أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه، تريد أن تدعي الأنفراد بذلك والاستبداد به وتزيل الاشتباه فيه، وترد على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. ومن البين في ذلك قولهم: أتعلمني بضب أنا حرشته" (1).
ومنه قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]، أي هم أهل اليقين المختصون به، وكأن غيرهم ليس من أصحاب اليقين جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "وفي تقديم الآخرة وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر
(1) دلائل الإعجاز 99، وانظر المختصر على تلخيص المفتاح 42، معترك الأقران 1/ 187، البرهان 3/ 236، نهاية الإيجاز للفخر الرازي 122
الآخر على خلاف حقيقته وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" (1).
2 -
تحقيق الأمر وإزالة الشك من ذهن السامع كقولك (هو يغيث الملهوف) لمن يظن أنه لا يفعل ذاك فأنت لا تريد أن تقصر أغاثة الملهوف عليه وتحصرها فيه، ولكنك أردت أن تزيل الشك من ذهن السامع، قال الإمام عبد القاهر:"والقسم الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل، وتمنعه من الشك فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولاً، ومن قبل أن تذكر الفعل في نفسه لكي تباعده بذلك من الشبهة وتمنعه من الإنكار أو من أن يظن بك الغلط أو التزيد ومثاله قولك: هو يعطي الجزيل، وهو يحب الثناء، لا تريد أن تزعم أنه ليس ههنا من يعطي الجزيل ويحب الثناء غيره، ولا أن تعرض بإنسان وتحطه عنه وتجعله لا يعطي ولا يرغب كما يرغب، ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه وأن تمكن ذلك في نفسه"(2).
ثم قال: "ويشهد لما قلنا أن تقديم المحدث عنه يقضي تأكيد الخبر وتحقيقه له أنا إذا تأملنا وجدنا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر نحو أن يقول الرجل: ليس لي علم بالذي تقول فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي .. أو يجيء فيما اعترض فيه شك، نحو أن يقول الرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك، فيقول: أنا أعلم، ولكني إدارية. أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل:{وإذا جاءوكم قالوا أمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} [المائدة: 61]، وذلك أن قولهم (آمنا) دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب. أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى:{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} [الفرقان: 3].
(1) الكشاف 1/ 105
(2)
دلائل الاعجاز 99، وانظر نهاية الإيجاز 122 - 123
وكذلك في كل شيء كان خبرًا على خلاف العادة وعما يستغرب من الأمر نحو أن تقول: ألا تعجب من فلان؟ يدعى العظيم وهو يعيا باليسير .. ومما يحسن ذلك فيه ويكثر الوعد والضمان كقول الرجل: أنا أعطيك، أنا أكفيك .. وذلك إن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد، وفي الوفاء به، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد ..
وكذلك يكثر في المدح كقولك: أنت تعطي الجزيل .. وكذلك المفتخر. ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا شك فيه، ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتي به غير مبني على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت. قد خرج، ولم تحتج إلى أن تقول: هو قد خرج. ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع، فتحتاج إلى أن تحققه وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه" (1).
3 -
لتعجيل المسرة أو المساءة نحو (أبوك عاد) لمن كان أبوه غائبًا. "السفاح حضر".
4 -
لإظهار تعظيمه أو تحقيره نحو قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]. ونحو السلطان حضر، الغبي جاء.
5 -
لغرابته نحو: المقعد مشى، الأخرس نطق. أو لغير ذلك (2).
فإن كان المسند إليه نكرة وتقدم على الفعل كان المراد تخصيص الجنس، أو الواحد تقول:(حضر رجل) إذا كان المخاطب خالي الذهن فإن قلت: (رجل حضر) كان السامع يعلم أن حضورًا حصل، ولكنه يجهل جنس الحاضر، أو كان يظن أنه امرأة فيقال
(1) دلائل الإعجاز 102 - 104
(2)
انظر المختصر على تلخيص المفتاح للفتازاني 41 - 42، الإيضاح 1/ 52 - 53، البرهان 3/ 235
له: رجل حضر أي لا امرأة. أو كان يظن أنه رجلان فيقال له: رجل حضر أي لا رجلان. جاء في (دلائل الإعجاز): "إذا قلت: أجاءك رجل؟ فأنت تريد أن تسأله: هل كان مجيء من أحد الرجال إليه؟ فإن قدمت الاسم فقلت: أرجل جاءك؟ فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت إنه قد أتاه آت ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي .. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم اسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس ..
وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام، فابن الخبر عليه فإذا قلت:(رجل جاءني) لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول:(جاءني رجل) فتقدم الفعل" (1).
وجاء في (الإيضاح): "فإن بني الفعل على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس، أو الواحد بالفعل كقولك: رجل جاءني أي لا امرأة ولا رجلان. وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه أرجل هو أو امرأة أو اعتقد انه امرأة. وتارة إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال، ولم يدر أرجل هو أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان"(2).
وجاء في (معترك الأقران): "أن يكون المسند إليه نكرة مثبتا نحو "رجل جاءني" فيفيد التحصيص أما بالجنس أي لا امرأة، أو الوحدة أي لا رجلان"(3).
إلى غير ذلك كالتعجب، نحو قولهم: أخرس نطق سمكة طارت (4). وبالجملة فإنه يقدم للإهتمام والعناية به.
(1) دلائل الإعجاز 109
(2)
الإيضاح 1/ 59
(3)
معترك الأقران 1/ 187
(4)
الأشموني 1/ 206
فإن سبق المسند إليه حرف نفي كان المراد نفي الحدث عن المسند إليه، وإثباته لغيره. تقول:(ما تكلمت): فأنت نفيت التكلم عن نفسك ولم تثبته لغيرك أي أنت لم تتعرض لغيرك بسلب، أو إيجاب فإن قلت:(ما أنا تكلمت)، فأنت قد نفيت التكلم عن نفسك وأثبته لغيرك. فإن المخاطب يعلم أن شخصًا ما قد تكلم فكان يظنك أنت، فقلت له: ما أنا تكلمت. أي أن المتكلم غيري.
جاء في (البرهان): "فإذا قلت: ما ضربت زيدًا كنت نافيًا للفعل الذي هو ضربك إياه وإذا قلت: ما أنا ضربته كنت نافيًا لفاعليتك للضرب. فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب فما الفرق بينهما؟ قلت من وجهين:
أحدهما أنّ الأولى نفت ضربًا خاصًا إياه، ولم تدل على وضع ضرب غيرك، ولا عدمه إذ نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، ولا ثبوته.
والثانية نفت كونك ضربته ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم" (1).
وجاء في (معترك الأقران): "أن يلي المسند عليه حرف النفي فيفيده، نحو: (ما أنا قلت هذا) أي لم أقله مع إنّ غيري قاله"(2).
ونحو ذلك الاستفهام فإن قلت: أضربت زيدًا؟ كان السؤال عن أصل الفعل أحصل منك أم لم يحصل؟ فإن قلت: أأنت ضربت زيدًا؟ كان السؤال عمن أوقع الفعل بزيد فالسائل يعلم أنّ الفعل قد وقع على زيد، ولكنه يسأل عن الفاعل له.
جاء في (دلائل الإعجاز): "وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه. ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان
(1) البرهان 2/ 277
(2)
معترك الأقران 1/ 187
الشك في الفاعل من هو؟ وكان التردد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟
أقلت الشعرَ الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن، وتقول: أأنت بنيت هذه الدار؟ أأنت قلت هذا الشعر؟ أأنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم.
ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان، كيف وقد أشرت إلى الدار مبنية والشعر مقولاً والكتاب مكتوبًا؟ وإنما شككت في الفاعل من هو؟ فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاكّ، ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس يقول" (1).
وجاء في (الكشاف) في قوله: {أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان: 17]، "فإن قلت: ما فائدة: (أنتم)، و (هم)، وهلا قيل: أضللتم عبادي هؤلاء أن هم ضلوا السبيل؟ قلت: ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم إنه المسؤول عنه .. والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم" (2).
(1) دلائل الإعجاز 86 - 88
(2)
الكشاف 2/ 402 - 403