الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع
ان
يها:
إن
تأتي (إن) لمعان عدة أشهرها:
1 -
التوكيد وهو الأصل فيها، ويدور معها حيث وردت قال تعالى:{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} [يوسف: 51]، فانظر كيف جاء بالجملة الأولى غير مؤكدة (أنا راودته)، والثانية مؤكدة وسر ذلك والله أعلم، أن هذا على لسان امرأة العزيز، وقد فعلت فعلا لا يليق بالنساء، وهي الآن في موطن إقرار بالذنب واعتراف بالخطأ فذكرت ما صدر عنها غير مؤكدة إذ لا يحسن في مثل هذا الفعل التوكيد، وهي تريد أن تفر منه وتتوارى من فعلتها، وقد أنكرت فيما مضى أن تكون قد صنعته بخلاف نسبة الصدق إلى سيدنا يوسف عليه السلام، فجاءت به مؤكدًا بإن واللام.
والدليل على انها تأتي للتوكيد، أنها يجاب بها القسم قال تعالى:{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحج: 72]، وقال:{أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [المائدة: 53]، وقال:{وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]، وقال:{ويحلفون بالله إنهم لمنكم} [التوبة: 56]، وقال:{قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53].
قال ابن يعيش: "فأما فائدتهما - يعني إن وأن، فالتأكيد لمضمون الجملة، فإن قول القائل إن زيدًا قائم ناب مناب تكرير الجملة مرتين إلا أن قولك (إن زيدًا قائم) أوجز من قولك (زيد قائم زيد قائم)، مع حصول الغرض من التأكيد. فإن أدخلت اللام وقلت: (إن زيدا لقائم) ازداد معنى التأكيد، وكأنه بمنزلة تكرار اللفظ ثلاث مرات"(1).
أما ما ذكره ابن يعيش من أن (إن) نائبة مناب تكرير الجملة مرتين، وهي مع اللام مناب تكريرها ثلاث مرات، فلا أظن أنه يعني إن تكرير الجملة (وإن) بمنزلة واحدة،
(1) ابن يعيش 8/ 59، وانظر الأشباه والنظائر 1/ 29
وهما متماثلان. وإن - عناه فليس بصحيح، فإن تكرير الجملة من التوكيد اللفظي، والتوكيد اللفظي له أغراض منها إنه يرفع توهم السهو من المتكلم، فإن المخاطب قد يظن أن المتكلم عندما ذكر زيدًا أو عليًا كان ساهيًا أو غافلا، فتكرير الاسم يرفع هذا الظن.
ومن أغراضه أيضًا أن يرفع توهم الغفلة عن المخاطب كان غافلا لم يسمع الجملة أو لم يسمع الكلمة فيكررها له دفعًا لذلك وفي هذين الموطنين لا يجدي التوكيد المعنوي ولا التوكيد بإن أو غيرها وإنما الذي يجدي ههنا التوكيد اللفظي فقط.
وجاء في (الهمع): "فإن للتأكيد ولذا أجيب بها القسم كما يجاب باللام في قولك (والله لزيد قائم)، وزعم ثعلب أن الفراء قال: (إنّ) مقررة لقسم متروك استغنى عنه بها والتقدير: والله إن زيدًا لقائم"(1).
وقال ابن الناظم: (إن)"لتوكيد الحكم ونفي الشك فيه أو الإنكار له"(2).
وجاء في (التصريح): "وهما - يعني إنّ وأنّ" - لتوكيد النسبة بين الجزءين ونفي الشك عنها ونفي الإنكار لها بحسب العلم بالنسبة، والتردد فيها والإنكار لها، فإن كان المخاطب عالما بالنسبة فهما لمجرد توكيد النسبة، وإن كان مترددا فيها فهما لنفي الشك عنها، وإن كان منكرا لها فهما لنفي الإنكار لها. فالتوكيد لنفي الشك عنها مستحسن، ولنفي الإنكار واجب ولغيرهما لا ولا" (3).
ويرى عبد القاهر إن الأصل في (إنّ) أن تكون للجواب، يقول: "فالذي يدل على أن لها أصلا في الجواب أنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جوابا للقسم نحو (والله إن زيدًا منطلق) وامتنعوا من أن يقولوا (والله زيد منطلق)، ثم أنا إذا استقرينا الكلام، وجدنا الأمر بينا في الكثير من مواقعها، أنه يقصد بها إلى الجواب
(1) الهمع 1/ 133
(2)
شرح ألفية ابن مالك 65
(3)
التصريح 1/ 211، وانظر سيبويه 1/ 121، التسهيل 61، المقرب 1/ 106، الأشموني 1/ 270، ابن عقيل 1/ 128، شرح قطر الندى 148
كقوله تعالى: {ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 83 - 84]، .. وكقوله تعالى:{فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216]، .. وقوله:{وقل إني أنا النذير المبين} [الحجر: 89]، وأشباه ذلك مما يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه ..
ثم إن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء هو الذي دوّن في الكتب من أنها للتأكيد. وإذا كان قد ثبت ذلك فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة ولا يكون قد عقد في نفسه إن الذي تزعم أنه كائن غير كائن، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن فأنت لا تحتاج إلى (إن) وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما تثبت، أو إثبات ما تنفي، ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، وبشيء قد جرت عادة الناس بخلافه كقول أبي نواس:
عليك باليأس من الناس
…
أن غنى نفسك في اليأس
ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه ولكن يراد التهكم به وإن يقال: أن حالك والذي صنعته يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك ومثال ذلك قول الأول:
جاء شقيق عارضًا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
يقول: إن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته، قد وضع رمحه عرضًا، دليل على إعجاب شديد وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد حتى كأن ليس مع أحد منا رمح يدفعه وكأنا كلنا عزل. وإذا كان كذلك، وجب إذا قيل أنها جواب سائل أن يشترط فيه، أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه، على خلاف ما أنت تجيبه به فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلا فيه فلا" (1).
(1) دلائل الإعجاز 249 - 251
وقيل هي آكد من اللام (1) ولفظها وثقلها يوحي بذلك، وهي قريبة الشبه بنون التوكيد الثقيلة التي تؤكد الفعل غير أنها مسبوقة بالهمزة. ومن أوجه الشبه بينهما أن كلتيهما للتوكيد، وأن نون التوكيد يفتح معها الفعل وهذه تنصب معها الاسم، وأنها تخفف كما تخفف تلك.
2 -
الربط:
قد تأتي (إن) لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها منه وإن اسقطتها رأيت الكلام مختلا غير ملتئم، وذلك نحو قوله تعالى {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32]، وقوله:{فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، فأنت لو أسقطتها لوجدت الكلام مختلا نابيًا.
وانظر إلى قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 109]، وقوله:{فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} [النساء: 11]، وقوله:{ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، وقوله:{وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]، وجرب أن تسقط (إن) فستجد الكلام نابيًا غير ملتئم ولا مرتبط.
قال عبد القاهر في قول الشاعر:
بكرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
واعلم أن من شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه، أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرًا عجبًا، فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعًا موصولا معًا. أفلا ترى أنك لو أسقطت (إن) من قوله (إن ذاك النجاح في التبكير) لم تر الكلام يلتئم، ولرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى، ولا تكون منها بسبيل حتى تجي بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير، ومثله قول بعض العرب:
(1) البرهان 2/ 405، معترك الأقران 1/ 609، الاتقان 1/ 156
فغنها وهي لك الفداء
…
إن غناء الإبل الحداء
فانظر إلى (إن غناء الإبل الحداء) وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبثه وإلى حسن تعطف الكلام الأول عليه، ثم انظر إذا تركت (إن) فقلت: فغنها وهي لك الفداء غناء الإبل الحداء كيف تكون الصورة وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر .. حتى تجتلب الفاء فتقول: فغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء. ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كانت تجد والحسن الذي كنت ترى" (1).
وقال: "واعلم أن الذي قلنا في (إن) من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى الفاء، لا يطرد في كل شيء، وكل موضع، بل يكون في موضع دون موضع، وفي حال دون حال، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي الفاء، وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون} [الدخان: 51 - 52]، وذاك إن قبله: {إن هذا ما كنتم به تمترون} [الدخان: 50]، ومعلوم أنك لو قلت: إن هذا ما كنتم به تمترون فالمقتون في جنات وعيون لم يكن كلامًا"(2).
3 -
التعليل:
وقد تأتي (إن) للتعليل وذلك نحو تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]، وقوله:{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} [البقرة: 173]، وقوله:{ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [المائدة: 87]، {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]، وكقوله:{ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [المائدة: 28]، وقوله:{وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم} [التوبة: 103]، وقوله:{ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81].
(1) دلائل الإعجاز 211 - 212، وانظر 243
(2)
دلائل الإعجاز 248
فأنت ترى أن (إن) في هذه المواطن تفيد التعليل.
جاء في (الاتقان): "الثاني: التلعيل أثبته ابن جني وأهل البيان، ومثلوه بنحو {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [المزمل 30]، و {وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} .. وهو نوع من التأكيد"(1).
وقال سيبويه: "تقول: جئتك أنك تريد المعروف إنما تريد لأنك تريد المعروف ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره
…
وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
أي لأدخاره ..
ولو قلت: جئتك إنك تحب المعروف مبتدأ، كان جيدًا. .
واعلم أن العرب تنشد هذا البيت على وجهين، على أرادة اللام، وعلى الابتداء، قال الفرزدق:
منعت تميمًا منك إني أنا ابنها
…
وشاعرها المعروف عند المواسم
وسمعنا من العرب من يقول إني أنا ابنها. وتقول لبيك إن الحمد، والنعمة لك، وإن شئت قلت: أن (2) ".
وجاء في (حاشية يس) في قولهم (لبيك إن الحمد والنعمة لك): "واعلم أن النووي وكثيرا من الحنفية عللوا كون الكسر أجود بإن من كسر (أن) قال: الحمد والنعمة لك على كل حال، ومن فتحها قال: لبيك بهذا السبب أهـ."
وحاصله ان الكسر يحصل به عموم استحقاقه تعالى الحمد والنعمة، سواء وجدت تلبية أم لا بخلاف الفتح، فإن فيه ضعفا من حيث تعليل التلبية باستحقاق ما ذكر،
(1) الاتقان 1/ 156، وانظر البرهان 2/ 406، 407، معترك الأقران 1/ 609 - 610
(2)
سيبويه 1/ 464 - 465
كونه غير مناسب لخصوصها، ومن حيث إبهامه قصر استحقاق ما ذكر على التلبية ..
وظاهره تسليم كلام الفقهاء أن المكسورة هنا ليست للتعليل، وهو خلاف ما ذكره النحاة هنا فإن كلامهم صريح في أنها للتعليل" (1).
والذي يبدو لي أنّ ما ذهب إليه النووي أرجح فإن التعليل بـ (إن) لا يماثل التعليل بـ (أن) فإن التعليل بأن المفتوحة إنما هو على إرادة اللام، قال سيبويه في (جئتك أنك تريد المعروف) أي لأنك تريد المعروف، فالتعليل ههنا مقيد بعامله مقصور عليه، أي إنما حصل هذا لهذا، بخلاف التعليل بإن المكسورة فإنه تعليل واسع وحكم عام مستأنف، غير مقيد بالعامل.
فهي في الحقيقة ليست للتعليل المحض كـ (أن) وإنما هي حكم عام، وكلام مستأنف فيه تعليل، يشمل ما ذكر وما لم يذكر.
والذي يوضح ذلك أن الكلام مع أن المفتوحة هو جملة واحدة بخلاف المكسورة فقولك (لا تضرب محمدًا أنه عونك) جملة واحدة أي لأنه عونك، وقولك (لا تضرب محمدًا إنه عونك) جملتان الأولى (لا تضرب محمدًا) والأخرى (إنه عونك) فكأنه لما نهاه عن ضرب محمد قال له: ولماذا تنهاني؟ فإجابه إنه عونك. فقد ابتدأت كلاما جديدًا.
وانظر إلى هاتين الجملتين: (جئت أنك صرت أميرا) بالفتح (وجئت إنك صرت أميرًا) بالكسر، تجد ما ذكرناه واضحًا. جاء في (التصريح) في مواطن كسر وفتح إن: "الثالث أن تقع في موضع التعليل نحو أنه هو البر الرحيم من قوله تعالى: {إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} ، [فاطر: 28]، قرأ نافع والكسائي بالفتح على تقدير لام العلة أي لأنه، وحرف الجر إذا دخل على (أن) لفظا أو تقديرا فتح همزتها، فهو تعليل أفرادي. وقرأ الباقون من السبعة بالكسر، على أنه تعليل مستأنف بياني فهو في المعنى
(1) حاشية يس على التصريح 1/ 219
جواب سؤال مقدر تضمنه ما قبله، فكأنهم لما قالوا: أنا كنا من قبل ندعوه قيل لهم: لم فعلتم ذلك؟ فقالوا: إنه هو البر الرحيم. فهو تعليل جملي مثل (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) بكسر (أن) على أنه تعليل مستأنف.
ومثله في الجواز الوجهين (لبيك أن الحمد والنعمة لك) يروى بكسر أن وفتحها، فالفتح على تقدير لام العلة، والكسر على أنه تعليل مستأنف وهو أرجح، لأن الكلام حيئنذ جملتان لا جملة واحدة. وتكثير الجمل في مقام التعظيم مطلوب، قاله الموضح في شرح بانت سعاد (1) ".
أنَّ:
لـ (أنَّ) معانٍ وغايات في الكلام مرتبطة لا يكاد ينفك أحدها عن الآخر، فإن أهم وظيفة لها أنها توقع الجملة موقع المفرد، فتهيئها لتكون فاعلة، ومفعولة ومبتدأ ومجرورة ونحو ذلك. وذلك نحو أن تقول: يعجبني أنك فزت، وأخشى أنك لا تعود، وأرغب في أنك تكون معنا.
ولا يتم الكلام بها إلا مع ضميم معها، بخلاف (إنّ) المكسورة، فقولك (إنك فائز) كلام تام بخلاف (أنك فائز) فإنه جزء من كلام، وهو لا يؤدي معنى يحسن السكوت عليه.
قال ابن يعيش: وكذلك أن المفتوحة تفيد معنى التأكيد كالمكسورة، إلا أن المكسورة الجملة معها على استقلالها بفائدتها، ولذلك يحسن السكون عليها، لأن الجملة عبارة عن كل كلام تام قائم بنفسه، مفيد لمعناه فلا فرق بين قولك:(إن زيدًا قائم) وبين قولك (زيد قائم) إلا معنى التأكيد ويؤيد عندك أن الجملة بعد دخول (إن) عليها على استقلالها بفائدتها أنها تقع في الصلة، كما كانت كذلك قبل، نحو قولك:(جاءني الذي أنه عالم) قال الله تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة} [القصص: 76]، وليست (أنّ) المفتوحة كذلك، بل تقلب معنى الجملة إلى
(1) التصريح 1/ 218
الأفراد، وتصير في مذهب المصدر المؤكد ولولا إرادة التأكيد لكان المصدر أحق بالموضع، وكنت تقول مكاني: بلغني أن زيدًا قائم بلغني قيام زيد.
والذي يدلك على إن (أن) المفتوحة في معنى المصدر، وإنها تقع موقع المفردات، إنها تفتقر في انعقادها جملة إلى شيء يكون معها، ويضم إليها لأنها مع ما بعدها من منصوبها ومرفوعها بمنزلة الاسم الموصول، فلا يكون كلاما مع الصلة إلا شيء آخر من خبر يأتي به أو نحو ذلك، فكذلك أن المفتوحة لأنها في مذهب الموصول إلا أنها نفسها ليست اسما كما كانت الذي كذلك، إلا ترى أنها تفتقر في صلتها إلى عائد كما تفتقر في الأسماء الموصولة إلى ذلك " (1).
وجاء في (كتاب شرح المقدمة الكافية) لابن الحاجب: "وأما أن المفتوحة فهي مع جملتها في حكم المفرد ألا ترى أنك إذا قلت: (زيد قائم) ثم أدخلت المكسورة، كانت على حالها في استقلالها بفائدتها، لو أدخلت المفتوحة صارت الجملة معها بتأويل مصدر من خبرها، أو ما في حكم، فافتقرت إلى جزء أخر تكون به كلامًا نحو (أعجبني أن زيدًا منطلق)، فتكون فاعلة (وكرهت أن زيدًا منطلق) فتكون مفعولا .. ومن ثمة وجب الكسر في موضع الجمل والفتح في موضع المفرد، يعني ومن أجل إن المكسورة تبقى معها الجملة على فائدتها، والمفتوحة تقبلها إلى حكم المفرد، وجب الكسر في موضع الجمل، والفتح في موضع المفرد، من حيث كان ذلك معناهما"(2).
قال سيبويه: "أما أن فهي اسم، وما عملت فيه صلة لها، كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة، وتكون (أن) اسما ألا ترى أنك تقول: (قد عرفت أنك منطلق)، فأنت في موضع اسم منصوب، كأنك قلت قد عرفت ذاك، وتقول: (بلغني أنك منطلق) فإنك في موضع اسم مرفوع كأنك قلت: بلغني ذاك. فـ (أن) الأسماء التي تعمل فيها صلة لها، كما إن (أن) الأفعال التي تعمل فيها صلة لها"(3).
(1) ابن يعيش 8/ 59
(2)
شرح المقدمة الكافية 123
(3)
سيبويه 1/ 461
وهي في ذلك تلتقي مع سائر الأحرف المصدرية، فإن من أهم وظائف الحرف المصدري أن يوقع الجملة موقع المفرد، ثم إن الحرف المصدري يجعل ما بعده في حكم المصدر (1)، والمصدر معنى ذهني غير متشخص فـ (أن) على هذا تجعل الأمر معنويًا ذهنيا، فثمة فرق بين قولك: أرى محمدًا واقفًا وأرى أن محمدًا واقف، فالأول موقف متشخص ورأى بصرية، والثاني موقف عقلي ورأي عقلية، أي أرى أنه فاعل ذلك وأحبسه.
ونحو ذلك قوله تعالى: {ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} [إبراهيم: 16]، فهذه رؤية بالتدبر والتفكر، ونحوه قوله تعالى:{ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره} [الحج: 65].
فهذه كلها رؤية بالتدبر والتفكر وأظنك ترى الفرق واضحا بين ما ذكرت من الآيات ونحو قوله تعالى {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، و {حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55]، و {أو نرى ربنا} [الفرقان: 21]، وقوله:{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143].
ولم يرد فعل الرؤية في القرآن الكريم معجي إلى اسم الله تعالى في غير هذه المواطن التي ذكرتها، وأنت ترى الفرق واضحا بين المعنيين والقصدين فـ (أن) كما ذكرت تحول الأمر إلى ذهني. وأنت تلاحظ الفرق جليا بين قولنا (سمعتك تقول الشعر) و (سمعت أنك تقول الشعر) ففي العبارة الأولى أنت سمعته هو يقول الشعر، وأما في الثانية فهو قد سمع هذا الأمر عنك ولم يسمعك تقوله.
فـ (أن) إذن تحول المحسوس إلى معقول، والمتشخص إلى ذهني، ولذا يصح أن تقول:(ظننت محمدًا إنه عاقل) ولا يصح أن تقول (ظننت محمدًا أنه عاقل) بالفتح، فإنه لا يخبر بالذهني عن المتشخص، فإن المعني يكون منزلة ظننت محمدًا عاقلا، وهذا لا يصح.
(1) أقول في حكم المصدر ولا أقول (مصدرا) لأنه قد يصعب التأويل في بعض المواطن إلا بتكلف
جاء في (كتاب الأصول) لابن السراج: "أن المفتوحة الألف مع ما بعدها بتأويل المصدر، وهي تجعل الكلام شأنا وقصة وحديثا، ألا ترى إنك إذا قلت:(علمت أنك منطلق) فإنما هو علمت انطلاقك فكأنك قلت: علمت الحديث ويقول: القائل: ما الخبر؟ فيقول المجيب: الخبر أن الأمير قادم ..
والموضع التي تقع فيها أن المفتوحة، لا تقع فيها إن المكسورة، فمتى وجدتها يقعان في موقع واحد فاعلم أن المعنى والتأويل مختلف" (1).
واختلف في كون (أن) مؤكدة أولاً، فذهب أكثر النحاة إلى أنها مؤكدة مثل: إن وأنها فرع عليها (2).
واستشكله بعضهم قال: "لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك لم يفد توكيدًا، ويقال: التوكيد للمصدر المنحل، لأن محلها مع ما بعدها المفرد، وبهذا يفرق بينها وبين (إن) المكسورة فإن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين"(3).
وهنا شبهة أثارها بعض المحدثين في دلالتها على التوكيد، قالوا لو كانت تدل على التوكيد لوقعت في جواب القسم مثل (إن).
وهذه الشبهة مردودة من ناحيتين:
الأولى: إن مجيئها للتوكيد لا يعني أن تشبه (أنّ) من جميع الأوجه، فنحن نعلم أن (اللام) للتوكيد، و (أن) للتوكيد، وهناك خلاف بينهما في الاستعمال بل إن (أن) المخففة من الثقيلة قد تختلف معها في بعض الأحكام فيجوز في (أن) أن يكون خبرها
(1) الأصول 1/ 322 - 323
(2)
المغنى 1/ 39، جواهر الأدب في معرفة كلام العرب 207، ابن يعيش 8/ 59، المقرب 1/ 106، ابن الناظم 65، الأشموني 1/ 270، ابن عقيل 1/ 128، التصريح 1/ 211، شرح قطر الندى 148
(3)
البرهان 2/ 407، الاتقان 1/ 156، معترك الاقران 1/ 610، وانظر الخلاف في فرعيته وأصل كل واحد منهما في شرح المعنى للدماميني 1/ 86، الهمع 1/ 128
جملة دعائية بخلاف الثقيلة كما هو معلوم (1).
ومن المعلوم (إن) نون التوكيد الخفيفة لا تقع في بعض مواطن الثقيلة، ولها أحكام خاصة بها.
والناحية الأخرى إن (أن) كما ذكرنا تحول الجملة إلى مفرد في المعنى هو المصدر، والقسم يجاب بجملة لا بمفرد، ولذلك لا يجاب بها القسم، ومع ذلك أجاز بعض النحاة أن يجاب بها القسم (2).
والصواب أنها تدل على التوكيد إضافة إلى ما ذكرناه من المعاني، فقولك (علمت أن محمدًا قائم) آكد من قولك (علمت محمدًا قائمًا) إضافة إلى إيقاع الجملة المؤكدة موقع المفرد، أي علمت هذا الأمر، قال تعالى:{يأيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، ولم يقل: فإن علمتم إنهن مؤمنات، لأن الإيمان أمر قلبي لا يطلع على حقيقته إلا الله، ولذلك قال (الله أعلم بإيمانهن) فاكتفى بالأمارات والدلالات الظاهرة التي تدل على الإيمان، ولم يؤكده بأن لأنه لا سبيل إلى اليقين القاطع.
وقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال: 66]، فجاء بأن لأنه علم مؤكد.
وقال: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 22 - 23]، فقال:(ولو علم الله فيهم خيرا)، أي ولو علم فيهم جانبًا ضعيفا من الخير غير محقق، ولا متيقن لأسمعهم، أي أن هؤلاء ليس فيهم شيء من الخير المحتمل، بل المحقق، ولا لم يأت بأن والله أعلم.
(1) ابن عقيل 1/ 139
(2)
الهمع 1/ 137
وقال على لسان يوسف عليه السلام لإخوته: {ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين} [يوسف: 59]، فقال أولا (أني أوفي الكيل) على التوكيد بأن ثم قال (وأنا خير المنزلين) على غير سبيل التوكيد، وذلك الله أعلم أنه في الحكم الأول متأكد من أنه يوفي الكيل، تأكدا لا شك فيه لأن هذا أمر يستطيع الجزم به بخلاف ما بعده (وأنا خير المنزلين) فإن هذا الحكم ليس بمنزلة الأول في التحقيق والتيقن، فجاء به غير مؤكد فخالف بين التعبيرين لاختلاف الحكين.
ومما يدل على أنها للتوكيد، أن القرآن الكري، إذا قرن الظن بها أفاد اليقين - كما يقول النحاة - فحيث اقترنت به في القرآن الكريم أفاد الظن معنى العلم واليقين، قال تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 45 - 46]، وقال:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} . [البقرة: 249].
وقال: {إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية} [الحاقة: 20 - 21]، فإن الظن قد يلحق بالعلم واليقين، وقد يكون للرجحان فقط كقوله تعالى:{فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]، فلم يأت بأن ههنا لأنه ليس المقصود بالظن ههنا اليقين، بل الرجحان فقط فهو ليس بمنزلة ما مر من الآيات.
فدل ذلك على ما ذكرناه.
وقد تأتي (أن) بمعنى (لعل) بل هي لغة في (لعل) كما يذكر النحاة (1).
قال سيبويه في قوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109]. "وأهل المدينة يقولون أنها فقال الخليل هي بمنزلة قول العرب (ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا) أي لعلك"(2).
(1) التسهيل 66، المغنى 1/ 40، الهمع 1/ 134، الاتقان 1/ 156
(2)
سيبويه 1/ 463