الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الافتخار كقولهم: (تميمي أنا) فثمة فرق بين قولهم (أنا تميمي) و (تميمي أنا)، فالأولى أخبار عن نفسه، وأما الثانية فللفخر بنفسه، وقبيلته، جاء في (شرح الرضى على الكافية):"وإذا كان تقديم الخبر يفهم منه بمعنى لا يفهم بتأخيره، وجب التقديم نحو قولك (تميمي أنا) إذا كان المراد التفاخر بتميم، أو غير ذلك مما يقدم له الخبر"(1).
3 -
التفاؤل أو التشاؤم كقولك: ناجح زيد ومقتول إبراهيم. إلى غير ذلك من أغراض التقديم الكثيرة، (2) وملاك ذلك أن العرب إنما يقدمون اللفظة لغرض الاهتمام وتتعدد صور هذا الاهتمام. قال سيبويه:"كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعني، وأن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم"(3).
وعلى هذا فأنّ قولَ النحاة: يجوز تقديم الخبر على المبتدأ كقولك (تميم أنا) و (مشنوء من يشنؤك (4)) ليس معناه أنك تقدم متى شئت ولكنك تقديم إذا اقتضى الأمر التقديم.
وينبغي أن نعلم أنّ التعبير الواحد قد تختلف أغراضه بحسب المقام، فيكون مرة للاختصاص ويكون مرة أخرى للفخر فقد يمكن أن تقول (تميمي أنا) بقصد التخصيص كما يمكن أن تطلقه في مقام آخر بقصد الفخر والذي يعيّن ذلك إنما هو المقام.
ب - تقديم الخبر الظرف والجار والمجرور:
وهو كثير الشبه بالموضوع السابق. تقول: في الدار زيد وزيد في الدار، فما الغرض من ذلك؟
(1) شرح الرضى على الكافية 1/ 107
(2)
انظر الإيضاح للقزويني 1/ 101، شرح المختصر للتفتازاني 70
(3)
سيبويه 1/ 15
(4)
المفصل 1/ 72
نحن نعلم أن المبتدأ إذا كان نكرة ليس لها مسوغ في الابتداء وجب تقديم الخبر الظرف أو الجار والمجرور فتقول: (في الدار رجل) فتقديم الخبر هنا واجب، وليس لأمر بلاغي، ولا يسأل عن الغرض من هذا التقديم وإنما يسأل عن سبب تقديمه إذا كان المبتدأ صالحًا لأن يبتدأ به نحو: في الدار أخوك.
فالتعبير الطبيعي أن تقدم المبتدأ على الخبر، فتقول (زيد في الدار) فهذا إخبار أولى والمخاطب خالي الذهن، فإذا قلت (في الدار زيد) كان المعنى إن المخاطب ينكر أن يكون زيد في الدار، أو يظن أنه في المكتب مثلا فتقول له:
في الدار زيد أي لا في المكتب.
فهذا من باب الاختصاص.
إن أهم غرض من أغراض تقديم الظرف، هو الاختصاص، والحصر، وذلك نحو قوله تعالى:{له الملك وله الحمد} [التغابن: 1] قُدَّم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اخصاص الملك والحمد بالله عز وجل لا بغيره (1) ولو قال (الملك له) لكان إخبارا بأن الملك له دون نفيه عن غيره فتقديم الظرف أفاد حصره عليه وإختصاصه به دون غيره.
وتقديم الظرف للاختصاص لا ينحصر في باب المبتدأ والخبر بل أن تقديمه يفيد ذلك في غير هذا الباب جاء في (الطراز) في تقديم الظرف: "هو على وجهين: أحدهما أن يكون واردًا دلالة على الاختصاص، وهذا كقوله تعالى {ألا إلى الله تصير الأمور} ، [الشورى: 53]، لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره ونحو قوله تعالى:{إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25 - 26]، وقوله تعالى:{له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} [التغابن: 1]، فهذه الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاخصاص.
(1) الكشاف 3/ 236، المثل السائر 2/ 43
وثانيهما أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي في التسجيع، وهذا كقوله تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23]، ليطابق قوله (باسرة) و (فاقرة) ونحو قوله:{والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 29 - 30].
أما الوجه الثاني الذي ذكره فلا أراه كذلك بلا هو من باب الاختصاص أيضًاـ، ففي الآية الأولى تخصيص النظر إلى الرب سبحانه. وفي الآية الثانية تخصيص المساق إلى الرب سبحانه لا إلى غيره.
وجاء في (البرهان): "لا تختص أفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ، بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل أو المفعول، أو الجار والمجرور المتعلقات بالفعل، ومن أمثلته قوله تعالى: {قل هو الرحمن أمنا به وعليه توكلنا} [الملك: 29] (1)، فإن الإيمان لما لم يكن منحصرًا في الإيمان بالله بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره، مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل، فإنه لا يكون إلا على الله، وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضرًا ولا نفعا فيتوكل عليه"(2).
وجاء في (الاتقان): "كاد أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر سواء كان مفعولاً أو ظرفاً أو مجرورًا ولهذا قيل في: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، معناه نخصك بالعبادة والاستعانة وفي {لإلى الله تحشرون} [آل عمران: 158]، معناه إليه لا إلى غيره"(3).
وقد يقدم الخبر الظرف للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله:
له همم لا منتهى لكبارها
…
وهمته الكبرى أجل من الدهر (4)
(1) الطراز 2/ 70 - 71
(2)
البرهان 2/ 414
(3)
الاتقان 2/ 51
(4)
الايضاح 1/ 101، شرح المختصر 70
فلو قلت: همم له لا منتهى لكبارها، لكان الجار والمجرور صفة لا خبرًا، لأن المبتدأ نكرة ويكون الخبر "لا منتهى لكبارها" ولكن الشاعر أراد أن يجعل (له) هو الخبر فقدمه على المبتدأ ليعلم أن هذا هو الخبر لا قوله (لا منتهى لكبارها).
وقد يكون تقديمه لأمر يقتضيه المقام كقولك (زيد في الدار)، جوابًا عن سؤال (أين زيد؟ ) و (في الدار زيد) جوابًا عن سؤال (من في الدار)، فهذا ليس من باب الاختصاص أو غيره مما ذكرنا، وإنما قدمت الذي يعلمه المخاطب وأخرت الذي يجهله، ففي الأولى يجهل مكان زيد فأخبرت به، وفي الثانية يعلم أن في الدار أحدًا ولكنه يجهل من فيها فأخبرت بالذي يجهله، وابتدأت بما يعلم.
فإن كان الكلام منفيًا، نحو (لا ريب فيه)، و (لا فيه ريب)، كان تأخير الظرف، يفيد نفي الشيء عن المذكور فقوله تعالى {لا ريب فيه} [البقرة: 2]، يفيد نفي الريب عن القرآن. وأما تقديم الظرف فهو يفيد النفي عن المذكور، إثباته لغيره، فلو قال (لا فيه ريب) لنفي الريب عن القرآن وأثبته في غيره، فيكون تعريضًا بالكتب الأخرى، جاء في المثل السائر:"وأما الثاني وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي فنحو قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1 - 2] وقوله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]، فإنه إنما أخر الظرف في الأول، لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب، نفي الريب عنه، وأثباته أنه حق، وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه، ولو أولاه الظرف لقصد أن كتابًا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى: {لا فيها غول} فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلا، من غير تفضيل، وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة على غيرها من خمور الدنيا، أي ليس فيها ما في غيرها من الغول، وهذا مثل قولنا "لا عيب في الدار" وقولنا: " لا فيها عيب"، فالأول نفي للعيب عن الدار فقط والثاني تفضيل لها على غيرها أي ليس فيها ما في غيرها من العيب"(1).
(1) المثل السائر 2/ 44، وانظر الكشاف 1/ 87 - 88، البرهان 2/ 414
وتقول " لا ضرر عليك" فتنفي الضرر عنه من دون إثباته لشخص آخر، وتقول " لا عليك ضرر" فتنفيه عنه وتثبته لغيره أي كأنك قلت: ليس عليك الضرر وإنما على غيرك. جاء في (البرهان): "وأما تقديم الظرف ففيه تفصيل فإن كان في الإثبات دل على الاختصال كقوله تعالى: {ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 26]، .. وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفي عنه كما في قوله تعالى:{لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47](1).
والصواب ما أثبتناه، وهو أن تأخير الظرف يفيد نفي الشيء عن المذكور، وتقديمه يفيد النفي عن المذكور، وإثباته لغيره، ولا يفيد دائمًا تفضيل المنفي عنه وإلا فقولك:"لا عندك صواب" ذم لا مدح.
وربما قلت ألست تقول: إنه إذا تقدم الظرف وكان الاسم نكرة لم يسأل عن سبب تقديمه نحو: "في الدار رجل" فلماذا ذكرت هنا إن تقديمه لمعنى؟
والجواب واضح، وهو إنه إذا كان ذاك في حيز الإثبات لم يكن له غرض، لأن تقديمه واجب وأما إذا كان في حيز النفي، فليس الأمر كذلك، لأن النفي من مسوغات الابتداء بالنكرة، إذ إنه لا يجوز أن يبتدأ بالنكرة بعد النفي، نحو (ام رجل في الدار) ولذلك كان تقديم الظرف لغرض من الأغراض.
والتحقيق أن التقديم إنما يكون للإهتمام والعناية بالمقتدم، سواء كان لغرض الحصر أم غيره قال الإمام عبد القاهر:"واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعني وإن كانا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم"(2).
(1) البرهان 3/ 236
(2)
دلائل الإعجاز 84، وانظر كتاب سيبويه 1/ 15