الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاموا عنه {النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} أي القرآن، وإنما أنزل مع جبريل، فالمراد: أنزل مع نبوته، وصارت نبوته مصحوبة بالقرآن.
التفسير والبيان:
هذا من تتمة دعاء موسى عليه السلام عند مشاهدة الرجفة، فأعلن أولا أنه لا ولي إلا الله بقوله:{أَنْتَ وَلِيُّنا} والمتوقع من الولي والناصر أمران: دفع الضرر، وتحصيل النفع، ولما كان دفع الضرر مقدما على تحصيل النفع، بدأ بطلب دفع الضرر، فقال:{فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا} ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع بقوله: {وَاكْتُبْ} .
أي أوجب لنا وأثبت لنا بفضلك ورحمتك حسنة، أي حياة طيبة في الدنيا بتوفير نعمة الصحة والعافية، وسعة الرزق، والتوفيق في العمل، والاستقلال في الأمور العامة، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك والظفر برضوانك وفيض إحسانك، وذلك كقوله تعالى:{رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة 201/ 2].
{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك، أي ندمنا على ما طلبه قومنا من اتخاذ الآلهة وعبادة العجل ورؤية الله جهرة ونحو ذلك من فعل السفهاء، ورجعنا إلى الإيمان المقرون بالعمل.
قال الله: {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ} من الكفار والعصاة، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، والعذاب مما يترتب على صفة العدل، ولكن الرحمة أشمل، ولولا عموم الرحمة لهلك الكفار والعصاة عقب كفرهم وعصيانهم، كما قال تعالى:{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر 45/ 35] وقال عز وجل: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف 58/ 18].
والمراد من آية العذاب هنا: أني أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك. ثم قرن ذلك بما يطمئن العباد وهو أن الرحمة تسبق الغضب، وهي أعم وأشمل منه، فهذه آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى عن حملة العرش ومن حولهم أنهم يقولون:{رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر 7/ 40].
ثم وصف الله تعالى مستحقي الرحمة وذكر من تثبت لهم: وهم الذين يتصفون بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
1 -
الذين يتقون الشرك والمعاصي أو الذنوب.
2 -
والذين يؤتون الزكاة التي تتزكى بها نفوسهم، وتشمل زكاة الأنفس وزكاة الأموال. وخصت الزكاة بالذكر لعلاج مرض الماديين النفعيين وهم اليهود وأمثالهم، ولأن النفوس شحيحة بها غالبا.
3 -
والذين يؤمنون، أي يصدّقون بآياتنا الدالة على توحيدنا، وكفاية شريعتنا وسموها وصلاحيتها للعمل والتطبيق، وصدق رسلنا.
وهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الثلاث هم متبعو ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وها هي صفاته في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، وأوصافه عندهم سبعة وهي:
1 -
الرسول النبي الأمي: أي الذي لم يقرأ ولم يكتب، فالأمية آية من آيات نبوته، وأن القرآن المعجز منزل عليه من عند الله، فهو مع أميته أتى بأكمل العلوم وأجداها في العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والأعمال. واتباعه: باعتقاد نبوته والعمل برسالته. وهذه الصفة يمكن أن تتنوع إلى صفات ثلاث: هي الرسول: أي المرسل من الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.
والنبي وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى، والأمي.
2 -
وهو الذي يجدون اسمه وصفته كتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لذا آمن به بعض علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام، وبعض علماء النصارى مثل تميم الداري. فأما المستكبرون فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم، ويؤولونها.
روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال:
فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت، كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟» فقال برأسه هكذا، أي لا، فقال ابنه: إي، والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله فقال:«أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه
(1)
.
وجاء في الباب الثالث والثلاثين في التوراة من سفر تثنية الاشتراع: «جاء الرب من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه قبس من نار» ومجيئه من سينا: إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير: إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه، واستعلاؤه من جبال فاران: إنزاله القرآن؛ لأن فاران من جبال مكة.
وجاء في الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا: «فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق، فهو يشهد لي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء» والفارقليط بالعبرية: معناه أحمد، كما
(1)
قال ابن كثير في تفسيره (251/ 2): هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس.
قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف 6/ 61].
4، 3 - إنه يأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه العقول الرشيدة وتألفه الطباع السليمة، وقد ورد به الشرع، وهو ينهاهم عن المنكر: وهو ما تنكره النفوس الصافية. فهو عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقولها: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
ومن أهم ما أمر الله به: عبادة الله وحده لا شريك له؛ ومن أهم ما نهى عنه: عبادة ما سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ، وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل 36/ 16].
6، 5 - وإنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث: أي يحل لهم ما تستطيبه الأنفس من الأطعمة: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} [البقرة 172، 57/ 2، والأعراف 160/ 7، وطه 81/ 20] ويحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم ما تأباه النفوس، كالميتة والخنزير والدم المسفوح، وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة. قال ابن عباس: الخبائث كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى. قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين.
7 -
وإنه يضع عنهم الإصر والأغلال: أي يرفع عنهم التكاليف الشاقة، كالقصاص في القتل، العمد أو الخطأ، من غير شرع الدية، وقتل النفس عند التوبة، أي التقاتل وإهدار الدماء، وقطع الأعضاء المذنبة، وقرض موضع
النجاسة من الجلد والثوب، وتحريم السبت.
أي إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما
ورد في الحديث الذي رواه الخطيب عن جابر: «بعثت بالحنيفية السمحة»
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «بشّرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا» .
ومن مظاهر التيسير:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به،
وقوله فيما رواه الطبراني عن ثوبان: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنّا، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} [البقرة 286/ 2]. وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت.
أما اليهود فقد شدد الله عليهم في الأحكام الشرعية في العبادة والمعاملة والعقوبة، ثم خفف المسيح عليه السلام في بعض الأمور المادية، وشدد في الأحكام الروحية.
فالذين آمنوا بالنبي الأمي وبرسالته، وعزروه أي منعوه من الأعداء، ونصروه أي عظموه ووقروه، وأيدوه باللسان والسّنان، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلّغا إلى الناس، أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، الناجون الفائزون بالرحمة والرضوان، دون من سواهم من حزب الشيطان الذين يخذلهم الله في الدنيا والآخرة. ويدخل في ذلك قوم موسى الذين يتحقق فيهم هذا الوصف العام.