الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها إقامة الصلاة؛ إظهارا لعلو مرتبتها، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان، وأنها عماد الدين، والفارقة بين الكفر والإيمان.
{إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أي لا نضيع أجرهم؛ لأن المصلحين في معنى {الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ} ، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف 30/ 18].
وبعد أن بيّن الله تعالى مخالفة بني إسرائيل لأحكام دينهم ذكّر ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، فقال:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ..} . أي واذكر أيها النبي إذ رفعنا فوقهم جبل الطور لقوله: {وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة 63/ 2 - 93]{وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} [النساء 154/ 4]، وأصبح كأنه سقيفة، لما أبوا أن يقبلوا التوراة لثقلها، وعلموا وأيقنوا أنه ساقط عليهم؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو، ولأنهم كانوا يوعدون به، وقلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف.
واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من الإعداد للثواب والعقاب، فترغبوا في الثواب العظيم، وترهبوا من العقاب الشديد، رجاء أن تتحقق التقوى في قلوبكم، فتصبح أعمالكم متفقة مع الدين، وفي ذلك الفلاح لكم، أو لتتقوا ما أنتم عليه، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذيب الأخلاق، كما أن التهاون في احترام الدين يغري النفوس على اتباع الشهوات، كما قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها} [الشمس 9/ 91 - 10].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واردة في حق اليهود الذين بقوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فخارجون عن هذا الحكم.
وقد دلت الآيات على ما يلي:
1 -
إعلام اليهود الأسلاف ومن باب أولى الخلف أنهم إن غيروا نصوص التوراة، ولم يؤمنوا بالنبي الأمي، بعث الله عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة.
وهذا تنصيص على أن ذلك العذاب مستمر إلى يوم القيامة، وهو يقتضي أن العذاب إنما يحصل في الدنيا. وللعذاب ألوان ومظاهر، فهو إما أخذ الجزية، وإما الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا} [آل عمران 112/ 3] وإما الإخراج والإبعاد من الوطن. وقد أذاقهم العذاب أمم كثيرة في الماضي من عهد بختنصّر، إلى العهد الإسلامي، وإلى العصر الحديث. وأما دولة إسرائيل فلا يحسد موقفها فهي تبع لإمريكا والغرب، وتعيش في قلق واضطراب ومخاوف، فلا تنعم بالأمن والاستقرار، ولا تهدأ ساحتها، لا في الداخل ولا في الخارج، وزوالها محقق مع الزمن، كما يثبت أهل العلم، فإن مرور الزمان ليس في صالحهم إطلاقا.
2 -
اليهود أمة مشتتة ممزقة مفرقة في أنحاء الأرض، لا يخلو منهم قطر، منهم الصلحاء ومنهم الكفرة الفسقة الفجرة، وقد اختبرهم الله بأنواع عديدة من الاختبارات، أو عاملهم معاملة المختبر، فأمدهم بالحسنات أي بالخصب والعافية، والسيئات، أي الجدب والشدائد، ليرجعوا عن كفرهم ويتوبوا من فسقهم. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب.
3 -
أولاد الذين فرّقهم الله في الأرض، ورثوا التوراة كتاب الله، فقرءوه وعلموه، وكانوا خلف سوء، خالفوا أحكامه وارتكبوا محارمه، مع دراستهم له، فاستحقوا التوبيخ والتقريع من الله تعالى.
ومن قبائحهم: ماديتهم الطاغية، وربما هم الذين علّموا أوربا وأمريكا
النزعة المادية الشديدة، فهم كانوا يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من حلال أو حرام، لشدة حرصهم ونهمهم:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى} ويزعمون أنه سيغفر لهم مع بقائهم على المعاصي، بل إنهم لا يتوبون، وقد ذمهم الله على اغترارهم بقولهم:{سَيُغْفَرُ لَنا} مع أنهم مصرون على الذنوب.
وإن جاءتهم عروض أخرى دنيوية وهي الرّشا والمكاسب الخبيثة، أخذوها أيضا. وفي هذا دلالة على أن الطمع في الدنيا هو سبب فساد اليهود. قال الحسن البصري: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يستمتعون منها
(1)
.
وقال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال: «سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا:
سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا»
(2)
.
4 -
أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل في التوراة وفي جميع الشرائع على اتباع قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرّشا إلى الباطل. وهذا عهد أيضا على المسلمين في كتاب ربنا وسنة نبينا.
ثم خالف اليهود الميثاق، مع أنهم قرءوا التوراة، وهم قريبو عهد بها. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة، فيخرجون له كتاب الله، فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة، وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم، وحكموا له.
(1)
تفسير الرازي: 14/ 15
(2)
تفسير القرطبي: 311/ 7 - 312