الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ..} . مقرّرا لما سبق، ومعلّلا له، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالقرآن، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله، حائرا في سبيله، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله.
وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم، وأسرفوا في طغيانهم، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين: فريق المؤمنين المهتدين، وفريق الضّالين المكذّبين.
أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق، ويقضون بالحق والعدل، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق.
ودلّت الآية-كما ذكر القرطبي-على أنّ الله عز وجل لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ.
وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة: فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق، كلما أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب.
وأنه سيطيل لهم المدّة، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر، ولا يعاجلهم
بالعقوبة، وإنما يؤخّر عقوبتهم، لإعطائهم فرصة للعودة إلى الحقّ، والاستجابة لدعوة الإيمان، وتصديق النّبي المصطفى عليه الصلاة والسلام. وفي فترة إمهالهم أنذرهم أنهم إن داموا على المعصية والكفر، فإن كيد الله، أي تدبيره شديد قوي محكم.
قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة، بعد أن أمهلهم مدة، كما قال تعالى:{حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام 44/ 6].
وتضمّنت آية {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} دعوة المكذّبين إلى إصدار الأحكام بالاعتماد على العقل والتّفكير والموازنة والنّظر إلى واقع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته، فهو ليس كما تقوّلت ألسنتهم بمجنون، وإنما هو داعية حقّ، ونذير خير، وناصح أمة، ومرشد قوم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
ثم دعاهم الله تعالى إلى إعمال فكرهم وتسديد نظرهم في ملكوت السموات والأرض، وفي المخلوقات والأشياء العديدة، وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، للتّوصّل إلى معرفة الإله الحقّ، والإيمان بوجود الصانع الحكيم القدير القديم، الذي لا ندّ له ولا شريك ولا نظير، ومعرفة كمال قدرته. وإذا لم يؤمنوا بالقرآن، فبأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصدّقون؟! وفي هذا دلالة على أن القرآن هو مصدر الهداية.
وقد استدلّ العلماء بآية {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وأمثالها الكثيرة في القرآن الكريم
(1)
، على وجوب النظر في آيات الله، والاعتبار بمخلوقاته. وقد ذمّ الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم، فقال:
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها..} . الآية [الأعراف 179/ 7]، قال الجصاص: في
(1)
نحو قوله تعالى: قُلِ: اُنْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها، وقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وقوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} حثّ على النّظر والاستدلال والتّفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدلّ عليه وعلى حكمته وجوده وعدله
(1)
. وذلك يدلّ على أنّ التّقليد في العقائد غير جائز، ولا بدّ من النّظر والاستدلال.
واتّجه أكثر العلماء إلى أن النّظر والاستدلال أوّل الواجبات على الإنسان.
وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، والإيمان: هو التّصديق الحاصل في القلب، الذي ليس من شرط صحته المعرفة، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدّم وجوب الإيمان بالله تعالى على المعرفة بالله. وقالوا-ومنهم القرطبي
(2)
-: هذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق؛ لأن أكثرهم ومنهم العامة والمقلّدون لا يعرفون حقيقة المعرفة والنّظر والاستدلال.
ولأن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستّة عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله».
ومن الطّريف أن العلماء قالوا: لا يكون النّظر والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنّسوان، فذلك متابعة الهوى، ومخادعة العقل، ومخالفة العلم، ولم يحلّ الله النّظر إلا على صورة لا ميل للنّفس إليها، ولا حظّ للهوى فيها.
وإنما النظر يكون في المخلوقات والجمادات، أما المخلوقات فكثيرة، ينظر في السموات كيف بنيت وزيّنت من غير شقوق، ورفعت بغير عمد، وفي الأرض كيف وضعت فراشا، ووطئت مهادا، وفي أصناف المخلوقات والحيوانات في البر والبحر، وفي البحار التي هي أعظم المخلوقات عبرة. وأما الجمادات فينظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها.
(1)
أحكام القرآن: 36/ 3.
(2)
تفسير القرطبي: 331/ 7 - 333.