الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد للناس جميعا ما أخذه الله على البشر كافة من ميثاق يتضمن الاعتراف على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا الله، وذلك حين أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم كما تثبت الآية، ومن آدم نفسه كما ثبت في الخبر
(1)
، أي استخرج من بني آدم ذريتهم أو سلالتهم، وخلقهم على فطرة التوحيد والإسلام.
وأشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة.
وسبب هذا الإشهاد هو ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا: إنا كنا عن التوحيد غافلين، أي لم ينبهنا إليه أحد، فلا عذر لكم بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله، ووجود العقل، وتكوين الفطرة.
وخلق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى هي قوله تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم 30/ 30]
وفي الصحيحين ما يؤيد ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» . والجمعاء: السليمة الخلقة، والجدعاء: المقطوعة بعض الأعضاء.
(1)
وهو ما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره. فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة
…
».
وقد اختلف العلماء في هذه الآية آية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ..} . على رأيين:
رأي السلف، ورأي الخلف. أما السلف من المفسرين فقالوا: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر، وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا، وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك، وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق كثيرة لا يخلو بعضها من ضعف وانقطاع، وقال به جماعة من الصحابة
(1)
.
وأما الخلف فقالوا: هذا من قبيل التمثيل والتصوير، والمجاز والاستعارة فلا سؤال ولا جواب، وإنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه قال للخلق: أقروا بأني ربكم، ولا إله غيري، وكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى
(2)
. وهذا ما اختاره الزمخشري وأبو حيان وأبو السعود والبيضاوي. وقال عنه الرازي: لا طعن فيه البتة.
وحدد ابن كثير دلالة الأحاديث، فقال: هذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وهما موقوفان لا مرفوعان، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد، إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، وقد فسر الحسن الآية بذلك.
قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل: من آدم،
(1)
تفسير الرازي: 46/ 15، تفسير ابن كثير: 261/ 2 - 264.
(2)
روي عن ابن عباس أنه قال: «لو قالوا: نعم، لكفروا» لأن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم، بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب، وتختص بالنفي وتفيد إبطاله، والمعنى: بلى أنت ربنا، ولو قالوا: نعم، لصار المعنى: نعم لست ربنا.
{مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره ذرياتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ثم قال:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا:}
{بَلى} أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا، والشهادة تكون بالقول، كقوله:{قالُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} الآية، وتارة تكون حالا، كقوله تعالى:{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة 17/ 9] أي حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى:{وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات 7/ 100].
فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم، ولهذا قال:{أَنْ تَقُولُوا} أي لئلا تقولوا يوم القيامة: {إِنّا كُنّا عَنْ هذا} أي التوحيد {غافِلِينَ} أي لم ننبه إليه {أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا} الآية.
وإني لميّال لهذا الرأي، وهو أولى الآراء بالصواب.
{أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا..} . أي إن سبب الإشهاد لمنع اعتذارهم يوم القيامة بغفلتهم عن التوحيد، أو بادعائهم التقليد، وقولهم: إن آباءنا أشركوا من قبلنا، ونحن خلف لهم، نجهل بطلان شركهم، وقد قلدناهم في أعمالهم واعتقادهم، مع حسن الظن بهم، ولم نهتد إلى التوحيد.
أفتهلكنا بالعذاب وتؤاخذنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم أبدا؛ لأن التقليد في الاعتقاد وأصول الدين لا يجوز.
ومثل ذلك التفصيل البليغ الواضح للميثاق، نفصل للناس الآيات البينات، ليتدبروها بعقل وبصيرة، ولعلهم يرجعون بها عن شركهم، وجهلهم، وتقليدهم الآباء والأجداد.