الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل السادس من قصّة موسى مع فرعون، فيه يخبر الله تعالى عمّا توعّد به فرعون السّحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام، وبما ردّوا به عليه من تسليم أمرهم لله؛ لأن مصيرهم إليه في الآخرة.
ومعنى {آمَنْتُمْ} على أنه إخبار بخبر: صدقتم، ويراد به التّوبيخ، وعلى أنه استفهام يراد به الإنكار والاستبعاد، أي آمنتم بموسى واتبعتموه في رسالته قبل أن آذن لكم بذلك.
إن صنعكم هذا وغلبته لكم في هذا اليوم، إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه 71/ 20]. إنكم دبّرتم هذه المؤامرة في هذه المدينة لتخرجوا المصريين منها بسحركم، وتسكنوا فيها مع بني إسرائيل، فسوف تعلمون ما أصنع بكم من العذاب والنّكال على هذا المكر.
وهذا القول من فرعون مجرّد تمويه وتدليس وتغطية للهزيمة، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان، كما قال تعالى:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} [الزّخرف 54/ 43]؛ إذ إنه يعلم أن هذا قول باطل، فهو الذي أرسل جنوده في مدائن مملكته، لجمع السّحرة المتفرّقين من سائر الأقاليم بمصر، ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم بذلك.
وقد استفاد فرعون هذه الفكرة أي الاتّهام بالمكر والمؤامرة من مناقشة دارت بين موسى وكبير السّحرة قبل المبارزة، روي أن موسى عليه السلام قال لأمير السّحرة أو للسّاحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومننّ بك. وفرعون يسمع ذلك، فلذلك قال ما قال.
وبعد أن أجمل الوعيد السابق بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فصله بقوله:
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} يعني قسما لأقطعنّ الأيدي والأرجل من خلاف، ثم لأصلبنّ كل واحد على جذوع الشّجر، كما قال:{فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه 71/ 20] أي على الجذوع، لتكونوا عبرة لمن يكيد لنا ويخرج عن سلطاننا، قال ابن عباس: وكان أوّل من صلب، وأوّل من قطّع الأيدي والأرجل من خلاف: فرعون.
فأجابه السّحرة على تهديده ووعيده: إنّنا لا نأبه بالقتل ولا نبالي بالموت؛ لأننا قد تحقّقنا أنا إلى الله راجعون، ففي الآخرة يوم الجزاء، فيثيبنا على شدائد القطع والصّلب، ونريد أن نفدي أنفسنا من عذاب الله، فعذابه أشدّ من عذابك، ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم، وما أكرهتنا من السّحر، أعظم من نكالك، فلنصبرنّ اليوم على عذابك، لنخلص من عذاب الله، كما قال تعالى:
{قالُوا: لا ضَيْرَ، إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء 50/ 26 - 51].
ويحتمل-كما ذكر الزّمخشري-أن يكون المعنى: إنّا جميعا نحن وأنت يا فرعون، سننقلب إلى الله، فيحكم بيننا. وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في ادّعاء الرّبوبيّة، وإيثار ما عند الله على ما عنده من شهوات الدّنيا الفانية.
وما تعيب منّا إلا الإيمان بآيات الله، الذي هو خير الأعمال، وأصل المناقب والمفاخر كلها. وفي هذا إعلان لقرار لا رجعة فيه، وكأنّهم يقولون: لا أمل لك في رجوعنا عن إيماننا.
ربنا هب لنا صبرا واسعا، وعمّنا بالصبر على دينك والثّبات عليه، واغمرنا به حتى يفيض علينا كما يغمر الماء الأشياء.
والظاهر أنّ فرعون نفّذ تهديده ووعيده فعلا، بدليل قوله تعالى في بداية